( ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم )
حديث الجمعة :
من نافلة القول التذكير بأن إرادة الله عز وجل اقتضت أن تكون الحياة الدنيا الفانية دار ابتلاء يقابل بجزاء في الدار الآخرة الباقية ، كما اقتضت أن يكون الابتلاء بالخير والشر مصداقا لقوله تعالى في الآية الكريمة الخامسة والثلاثين من سورة الأنبياء : (( ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون )) ، ولقد تقدم في هذه الآية الكريمة ذكر الابتلاء بالشر على ذكر الابتلاء بالخير ، ذلك لأن الشر أشد إيلاما للنفس البشرية المجبولة على الجزع ، وكراهية الألم ، بينما الابتلاء بالخير على العكس من ذلك ترتاح له النفس البشرية المجبولة أيضا على حب اللذة .
ولقد بيّن الله تعالى في محكم التنزيل ،في الآية الكريمة الحادية عشرة من سورة التغابن أن الابتلاء بالخير والشر موكول إلى إرادته حيث قال سبحانه : (( ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم )) ، والمقصود بالمصيبة كل ما يصيب الإنسان مطلقا من خير أوشر إلا أن الغالب على استعمال لفظة مصيبة هو ما كان شرا .
وإذن الله تعالى بإصابة المصائب سواء كانت خيرا أم كانت شرا إنما هو خلقه ، وربطه المسببات بأسبابها مع إحاطة علمه وحكمته بها وفق إرادته التي اقتضت أن تكون الحياة الدنيا دار ابتلاء بثنائية الخير والشر حيث يقتضي الابتلاء بالخير شكره من خلال استعماله في طاعة ومرضاة واهبه ، بينما يقتضي الابتلاء بالشر الصبر عليه ،وتحمله تأدبا مع الخالق سبحانه وتعالى لأن الجزع عند الإصابة بالشر شكاة تنزه الله تعالى أن يكون هوالمشتكى منه، وهو الذي يُتَوَجَّه إليه بكل شكاة دون غيره .
وقد يظن البعض أن شكر الخير أيسر وأهون من الصبرعلى الشر ، والحقيقة أنهما سيّان إذا وقع الابتلاء بهما ، ذلك أنه قليل من العباد الشكور لقوله تعالى في الآية الكريمة الثالثة عشرة من سورة سبأ : (( وقليل من عباديَ الشكور )) . ومعلوم أن الشكر المقصود ليس مجرد التلفظ به باللسان كما يظن كثير من الناس حيث يبدو لهم سهلا يسيرا، لا يكلفهم سوى التلفظ بعبارته ، بل هو استعمال المنعم به من خير في طاعة الله تعالى ومرضاته ، وليس ذلك بالأمر الهين . وما كل منعم عليه يلتزم طاعة الله عز وجل ومرضاته، بل كثير من المنعم عليهم يستعينون على معصيته وإسخاطه بما ينعم به عليهم من خير . وقد يصبر المبتلى بالشر عليه ، لكنه إذا ابتلي بالخير لا يحبس نفسه عن إتيان المعاصي مستعينا به على إتيانها ، ومخلا بما يجب عليه من أدب الشكر فعلا وليس قولا فقط .
وإذا كان بعض الناس يجمعون بين الصبر عند مصيبة الشر ، والشكر على الوجه المطلوب عند حلول الخير لثباتهم على الإيمان الراسخ في قلوبهم ، فإن البعض الآخر يجزع إذا أصابه الشر ، ويفجر إذا أصابه الخير مستعينا به على فجوره لضعف إيمانه .
وبعدما ذكر الله تعالى أن الابتلاء بالشر والخير منه لحكمة أراداها ، فإنه بشّر عباده المؤمنين بأنه لا يتخلى عنهم عند الابتلاء بنوعيه ، بل يتفضل عليهم بهداية قلوبهم إلى الصبر عند حلول الشر ، وإلى الشكر عند حلول الخير شكر أفعال لا شكر لسان فقط الذي تنقضه المعاصي والآثام . وتأكيدا لوعده الناجز سبحانه وتعالى يذيل بقوله : (( والله بكل شيء عليم )) أي يعلم صدق الصبر عند حلول الشر ، وصدق الشكر عند حلول الخير . وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن في هذا التذييل ما يدل على وعد ناجز منه سبحانه وتعالى بالجزاء الحسن في دار الجزاء .
ولقد ورد في كتب التفاسير أن هذه الآية الكريمة نزلت في المؤمنين الذين كانوا يعانون من سوء معاملة الكفار لهم ، ولكن حكمها سار على كل المؤمنين إلى قيام الساعة، لأن العبرة بعموم لفظ كلام الله عز وجل، وليس بخصوص أسباب نزوله . وبناء على هذا، فإن كل من صبر من المؤمنين على الشر ، وشكر الخير ، وهو متمسك بإيمانه ينال نعمة هداية قلبه ، وينال جزاء الآخرة موفورا غير منقوص .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو تذكير المؤمنين والمؤمنات ممن يبتلون بالشر والخير أن يتمسكوا بإيمانهم الراسخ بالله تعالى كما أمرهم بذلك كي يظفروا بنعمة الهداية التي تعينهم على حسن الصبر وعلى حسن الشكر في الدنيا ، وعلى حسن الجزاء في الآخرة .
و لهذا يجدر بإخواننا في أرض الإسراء والمعراج الذين ابتلاهم الله تعالى بالشر الذي ينالهم من أعدائهم الصهاينة المجرمين أن يحسن صبرهم على بهم من لأواء ، وأن يستيقنوا بأنه جل وعلا سيهدي قلوبهم ، وأنه عليم بحالهم ، وأن الابتلاء من عنده لحكمة هو أعلم بها .
كما يجدر بالمؤمنين والمؤمنات في مشارق الأرض ومغاربها ممن يتجرعون آلام متابعة معاناة إخوانهم الفلسطينيين أن يصبروا أيضا ، وأن يستيقنوا صدق اليقين أن الله تعالى سيهدي قلوبهم ما تمسكوا بإيمانهم من خلال إقامة الركن السادس منه وهو الإيمان بقدره سبحانه وتعالى خيره وشره ،خصوصا وقد حبستهم عن إغاثة إخوانهم موانع يتحمل مسؤوليتها ولاة أمورهم إلا أن ذلك لا يمنعهم من إرفاق الدعاء لهم بالفرج والنصر بكل ما يستطاع من دعم وعون مهما كان نوعه وقدره وحجمه ، وكل ذلك ابتلاء من الله جل جلاله .
اللهم إنا نسألك أن تهدي قلوب إخواننا في أرض الإسراء والمعراج ، وقد آمنوا بك وأنت بهم وبكل شيء عليم هداية تزيدهم صبرا ، واحتسابا، وثباتا ، واهد اللهم قلوب كل المؤمنين والمؤمنين الذين يألمون لآلامهم في مشارق الأرض ومغاربها، وقد حيل بينهم وبين دعمهم ومساعدهم وإغاثتهم ، وأنت سبحانك أعلم بذلك . اللهم يا جبّار ويا قهار، اقهر من ظلمهم ، وعجل لهم بفرج ونصر من عندك يسرون بهما،ما ويسر به كل مؤمن وكل مؤمنة مشرقا ومغربا . اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء ولا العصاة منا ، ولا بذنوبنا التي نتحلل منها ، ونبرأ إليك منها ، رحماك رحماك يا رحيم ، لقد شق على إخواننا ما هم فيه مما أنت أعلم به ، وشق علينا ما هم فيه ، فأرأف بهم وبنا يا رحيم يا رؤوف ، وقد ضاقت بهم وبنا السبل ، وضاقت عليهم وعلينا الأرض بما رحبت ، وليس لنا إلا أنت سبحانك ،منجيا ،ووليا ،ونصيرا .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1123