تأملات في القرآن الكريم ح 3
سورة البقرة الشريفة
حيدر الحدراوي
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ{21} الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ{22}
خطاب منه عز وجل , يوجهه الى كافة الناس , فيشمل الجن والانس , لانهما من المخلوقات العاقلة , التي تدرك الخطاب , وتفهم الكلام , فيأمرهم جل وعلا بعبادة رب خلقهم والذين من قبلهم , آله جعل الارض فراشا , مبسوطة , والسماء بناءا , وانزل منها المطر , فأخرج به الثمرات مما لذ وطاب , وينهاهم جل وعلا عن اتخاذ اندادا له , مما يعلم الناس انهم لا يستطيعون على فعل ولو واحدة مما قد ذكر.
الملاحظ ان الله عز وجل بعد ان يأمر الناس بعبادته و يبين لهم نفسه , (رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ) , ثم يبين جزءا من اعماله , (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ ) , وهذه هي اهم الاعمال التي تخص الناس , وتوفر لهم العيش الرغيد على وجه المعمورة , ويبين جل وعلا ان آلها كهذا لا يكون له ندا , ولا يصمد امامه ضد .
ينطلق المتأمل مسافرا بين الخلق , متنقلا في الارض , ناظرا لما فيها وما عليها , وما تحتها , وما تخفيه بين بطونها , ناظرا الى جمال الطبيعة , ولا يفوته النظر الى اختلاف الثمرات , ويمعن النظر في السماء وما حوت , من مجرات ونجوم وكواكب , في كون متناهي الاطراف , ويتأمل قول ذلك البدوي ((إن الاثر يدل على المسير ... وإن البعرة تدل على البعير ... وسماوات ذات أبراج و أرض ذات فجاج ... وبحار ذات أمواج, ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير ؟ )) .
وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ{23} فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ{24} وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ{25} يخير الله جل وعلا الناس المرتابين في امر الدعوة , بين ان يأتوا بسورة ودلالات تقابل دلالات الربوبية التي طرحها عليهم , وبين ان يأتوا بشهداء غيره تعالى , ان كانوا صادقين بتكذيبهم الدعوة , فيجزم عز وجل بأنهم لم ولن يفعلوا ويحذرهم ان يتقوا النار التي اعدها للكافرين , يقابل هذا التحذير بشرى للمؤمنين , الذين آمنوا بالدعوة وبادروا لعمل الصالحات من الاعمال .
شتان بين الطرفين , الكافرون يعذبون ويحرقون في نار اعمالهم , يقابلهم المؤمنون , الذين ينعمون بما كسبوا من اعمال صالحة .
يقف المتأمل في هذه الايات الكريمة , وقفتين , الاولى عند العذاب والنيران التي ستلتهم الكافرين , ويتأمل فيهم وفي اعمالهم , حتى يدرك ان كل ما يلاقوه هو نتيجة ما اكتسبوا , فكانوا الجناة على انفسهم ! , والثانية , عند المؤمنين ورفاهيتهم في الجنة , التي اكتسبوها بصبرهم وتحملهم المسير في طريق الايمان بالله , وتجرعوا الغصص في ذلك السبيل , تلك الغصص بالرغم من شدتها وعظم امرها , لم تمنعهم من الاتيان بالصالحات , فكانت الجنة هي مأواهم الاخير .
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَـذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ{26} الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ{27} ان الله عز وجل ضرب الكثير من الامثال , بغية تقريب المعنى الى الاذهان , ولفت الانظار الى الحكمة البالغة , فشهد العلم الحديث في ما للبعوضة من خصائص فيسلوجية غريبة وعجيبة , وحكم بالغة , قد وهبها الباري عز وجل ادق التفاصيل كي تستطيع العيش والتنقل في هذا العالم الكبير , فيستصغر الذين كفروا امرها , فكيف يليق بآله عظيم ان يضرب مثلا بتلك البعوضة الصغيرة الحجم , وغفلوا عن حقيقتها , وغفلوا من ان كل ما صغر حجم المخلوق , ازداد خلقه تعقيدا , وازداد ابداع الخالق في خلقه , وظهرت في خلقته عجائب الامور .
اما الذين امنوا , فيعلمون ويوقنون انه الحق من ربهم , فلا تثنيهم اقوال الكافرين , فيتمسكون بما جاءهم من ربهم , مسلمين له .
الجدير بالتأمل , ان الله عز وجل يصف الذين كفروا بمثل البعوضة , بأنهم فاسقين , قال العلامة الراغب الإصفهاني ، المتوفى بحدود سنة : 425 هجرية في كتابه مفردات القرآن ، مادة \" فسق \" .: فَسَقَ فلانٌ : خرج عن حجر الشرع ، و ذلك من قوله : فَسَقَ الرُطبُ ، إذا خرج عن قشره .
و هو ـ أي الفسق ـ أعَمُّ من الكفر ، و الفِسْقُ يقع بالقليل من الذنوب و بالكثير ، لكن تُعُورِفَ فيما كان كثيراً ، و أكثر ما يقال الفاسق لمن التزم حكم الشرع و أقرَّ به ثم أخَلَّ بجميع أحكامه أو ببعضه \"
فيما يذكر القران الكريم عدة من اعمال الفاسقين , (الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ
) , (وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ ) , (وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ ) , ويصفهم بالخاسرين .
ينطلق المتأمل , بين الخلق , ممعنا التفكير في كافة المخلوقات , صغيرها وكبيرها , ناظرا ما احتوت عليه من عجائب وغرائب , في اجسامها وسلوكياتها , واقفا عند كل حركاتها وسكناتها , فيرى بدائع صنع الله الذي اتقن كل شيء صنعه , فيتأمل في عظمة الباري , الخالق لكل شيء , {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ }الزمر62
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ{28} هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ{29} يسأل الله عز وجل الكافرين , كيف تكفرون به جل وعلا , وقد كنتم لا شيء , امواتا , ثم اخرجكم من بطون امهاتكم احياءا , ثم يميتكم , فتقبروا , ثم يحيكم ليوم لا ريب فيه , كيف تكفرون برب له القدرة على كل ذلك , ثم يبين الحق تعالى نفسه لهم , فيبين انه هو الذي خلق الارض والسماوات السبع , ويبين علمه بكل شيء , آله كهذا لا يكفر به ! .
في الواقع ان كلامه عز وجل موجه للمؤمن والكافر , فيتأمل المؤمن خلق الله عز وجل , فيزداد ايمانا , وثقة بربه ورسالة الاسلام وعظمة القرآن الكريم , ويتأمل الكافر في السموات والارض , فيجد امامه طريقان , الاول , ان يسلم لله رب العالمين , وهو الطريق الصحيح , والثاني , ان يزداد عتوا , وينسب كل ما في الوجود الى نظريات اهل الالحاد .
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ{30} وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ{31} قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ{32} قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ{33} يروي القران الكريم , حديثا دار بينه عز وجل وملائكته , حيث يخبرهم جل وعلا بأنه جاعل خليفة في الارض , فيكون جواب الملائكة بأنهم قد خبروا امر سكان الارض , من انهم سيفسدون فيها ويسفكون الدماء , الجدير بالملاحظة , ان جواب الملائكة لم يكن بنحو الاعتراض على امره تعالى , بل ليستفهموا مما يختلج في انفسهم في امر الخليفة الجديد , طالبين منه تعالى ان يبين لهم مدى اختلاف وتميز هذا الخليفة الجديد عمن سبقوه , فيجيبهم الحق تعالى بأنه يعلم ما لا يعلمون .
الاسماء التي علمها الله تعالى لادم (ع) , قد اختلف فيها المفسرون , وانحاز كل منهم الى ما يمليه عليه مذهبه , فيخرج المفسرون من اهل السنة عددا من الروايات بخصوص تلك الاسماء , ويعتبرون رواياتهم صحيحة غير قابلة للطعن , ويخرج المفسرون الشيعة روايات تقابل تلك التي يرويها اهل السنة , لكن بمفاهيم مختلفة , ويعتبرون رواياتهم صحيحة ايضا , اما المفسرون الذي يميلون الى التصوف , فيرتئون غير ذلك , حسب ما يميله عليهم نهجهم التصوفي .
المتأمل لا يستطيع الوقوف عند رأي دون اخر , فأولى له ان يترك الاراء للمفسرين اصحاب الاختصاص , ويكتفي بالوقوف عند نقطة واحدة , وهي ان الله جل وعلا قد علم ادم شيئا , ثمينا , لا يعلمه حتى الملائكة انفسهم , ربما كنزا من كنوز العلم , او حكمة بالغة ... الخ .
ينفي الملائكة علمهم بتلك الاسماء , فيطلب الله عز وجل من ادم ان ينبأهم بتلك الاسماء , فليبي ادم , و ليقول عز وجل ((قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ )) .
المتأمل يقف عند تفضيل ادم على الملائكة بتعليمه تلك الاسماء , وهي منحه وهبة خاصة من عند الحق تعالى له , لم يختص بها غيره , لا ملائكة ولا جن ولا شياطين ولا غيرهم من المخلوقات , فينطلق المتأمل ناظرا لهبات الحق تعالى له , كونه ابن ادم , ووريثه الشرعي , فيمعن النظر ويحدق طويلا في اختلاف ادم وابنائه عن باقي المخلوقات , فيجد نفسه يملك العقل والغريزة وجمال الخلقة , وهي مصادر الاختلاف بينه وبين الخلائق , فالملائكة مجرد عقل صرف محض , وليس لديهم غريزة , والبهائم تملك غريزة بدون عقل , اما الجن والشياطين فلديهم العقل والغريزة , الا انهم يفقدون جمال الصورة , فيترك المتامل الخلق , لينطلق الى الحق , ليعبر له عن امتنانه وشكره له , عما منحه اياه , من نعم لا تحصى , و هبات نفيسة , وينظر لعظمة من له القدرة على منح هكذا صفات وخصائص ! .