رمضان تناغم مع الكون تغذية للروح والعقل
هائل سعيد الصرمي
تناغم مع الكون
{ قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ)} يونس101 إن الله أنار هذا الكون بنوره , وخلق المخلوقات فيه ، فشوهدت عظمته وصفاته من خلالها.. فمن شاهد هذا الكون مجرداً دون مشاهدة الخالق ، فقد أعوزه وجود الأنوار, أي شاهد أجساماً وأجراماً وكائنات ، لا نور فيها ، ولا حياة لقلبه من تلك المشاهدة ، وتكون حينئذ مشاهدته جافَّة، خالية من الأثر ، وكأنه لم يشاهد شيئاً , فلا تغني الآيات عن قوم لا يؤمنون ،وهذه المشاهدة تحجب عنه المعرفة لله وإذا غابت المعرفة غابة الخشية له.
من خشيٍة سجدت لهُ الأكوانُ وتنافستْ في ذكره الأزمانُ
وتوددتْ كل الحياة وسبحتْ لـــــكماله وتكبـر الأنسـانُ
أنَّ التفتَ رأيت الله
كلما فتح الإنسان عقله ، وقلبه في مشاهدة الحق ، من خلال تأمل آياته المبثوثة في الكون ، والأنفس ، يتفتح القلب ، ويشرق ،ويفيض نوره ، وتزداد معارفه ومداركه ، ويرتقي في سلّم الصعود إلى ربَّه ، ويتدرج مع السالكين إلى مراتب الكمال ، ومنازل المقربين ؛ ليكون في ربيع دائم. يرى بنور قلبه كل آياته وما أكثرها من حوله وأمام ناظره.
أنَّ التفتَ رأيتَ الله.. آياتهُ تنبئكَ عنهُ فقل يا رب سبحانك
في كل ناحية أوصافه مثلتْ انظر إليه وقل يارب سبحانك
هذي بدائعه أنهارها انبجست وأنت منها فقل يارب سبحانك
إذا غفلتُ تأمل فضل نعمته حال الوصال وقل يارب سبحانك
وانظر له عندما أخلى رعايته وارجع إليه وقل يا رب سبحانك
يقول سيد قطب حول الآية السالفة" إن المخاطبين بهذا القرآن أول مرة ، لم يكن لديهم من المعرفة العلمية بما في السماوات والأرض إلا القليل ، ولكن الحقيقة الواقعة التي أشرنا إليها مراراً ، هي أن بين الفطرة البشرية وبين هذا الكون الذي نعيش فيه لغة خفية غنية ! وأن هذه الفطرة تسمع لهذا الكون - حين تتفتح وتستيقظ - وتسمع منه الكثير ! والمنهج القرآني في تكوين التصور الإسلامي في الإدراك البشري يتكئ على ما في السماوات والأرض ، ويستلهم هذا الكون ؛ ويوجه إليه النظر والسمع والقلب والعقل ، وذلك دون أن يخل بطبيعة التناسق والتوازن فيه ؛ ودون أن يجعل من هذا الكون إلهاً يؤثر في الإنسان أثر الله ! كما يجدف بذلك الماديون المطموسون ، ويسمون ذلك التجديف مذهبا "علميا" يقيمون عليه نظاماً اجتماعياً يسمونه:"الاشتراكية العلمية " والعلم الصحيح من ذلك التجديف كله بريء ! والنظر إلى ما في السماوات والأرض يمد القلب والعقل بزاد من المشاعر والتأملات ؛ وزاد من الاستجابات والتأثرات ؛ وزاد من سعة الشعور بالوجود؛ وزاد من التعاطف مع هذا الوجود وذلك كله في الطريق إلى امتلاء الكينونة البشرية بالإيقاعات الكونية الموحية بوجود الله ، وبجلال الله ، وبتدبير الله ، وبسلطان الله ، وبحكمة الله ، وعلم الله . ويمضي الزمن ، وتنمو معارف الإنسان العلمية عن هذا الكون ، فإن كان هذا الإنسان مهتدياً بنور الله إلى جوار هذه المعارف العلمية ، زادته هذه المعارف من الزاد الذي تحصله الكينونة البشرية من التأمل في هذا الكون ، والأنس به ، والتعرف عليه ، والتجاوب معه ، والاشتراك معه في تسبيحه بحمد الله:{وإن من شيء إلا يسبح بحمده ، ولكن لا تفقهون تسبيحهم} ولا يفقه تسبيح كل شيء بحمد الله إلا الموصول قلبه باللّه . وأما إن كانت هذه المعارف العلمية غير مصحوبة ببشاشة الإيمان ونوره ، فإنها تقود الأشقياء إلى مزيد من الشقوة ، حين تقودهم إلى مزيد من البعد عن الله ؛ والحرمان من بشاشة الإيمان , وماذا تجدي الآيات والنذر إذا استغلقت القلوب ، وتجمدت العقول ، وتعطلت أجهزة الاستقبال والتلقي في الفطرة ؛ واحتجب الكائن الإنساني بجملته عن هذا الوجود ، فلم يسمع إيقاعات حمده وتسبيحه ؟!. نوره ورفرفته وريّاه ! {وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون}
منهج القرآن يجعل الكون معرضا رائعاً تتجلى فيه الحقائق للقلب المفتوح
فما أجمل الآيات تنساب عذبة ومن بسمة الآيات ينحسر الكرب
إذا سمع الدهر التلاوة ينحني ولو أجدبت أرض يحل بها الخصب
إن المنهج القرآني في التعريف بحقيقة الألوهية يجعل الكون والحياة معرضاً رائعاً تتجلى فيه هذه الحقيقة ، تتجلى فيه بآثارها الفاعلة ، وتملأ بوجودها وحضورها جوانب الكينونة الإنسانية المدركة ، إن هذا المنهج لا يجعل "وجود الله" سبحانه قضية يجادل عنها ، فالوجود الإلهي يفعم القلب البشري - من خلال الرؤية القرآنية والمشاهدة الواقعية على السواء - بحيث لا يبقى هنالك مجال للجدل حوله ، إنما يتجه المنهج القرآني مباشرة إلى الحديث عن آثار هذا الوجود في الكون كله ؛ وإلى الحديث عن مقتضياته كذلك في الضمير البشري والحياة البشرية . "والمنهج القرآني في اتباعه لهذه الخطة إنما يعتمد على حقيقة أساسية في التكوين البشري ، فالله هو الذي خلق وهو أعلم بمن خلق: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه} والفطرة البشرية بها حاجة ذاتية إلى التدين ، وإلى الاعتقاد بإله ، بل إنها حين تصح وتستقيم تجد في أعماقها اتجاهاً إلى إله واحد ، وإحساساً قوياً بوجود هذا الإله الواحد ، ووظيفة العقيدة الصحيحة ليست هي إنشاء هذا الشعور بالحاجة إلى إله والتوجه إليه ، فهذا مركوز في الفطرة ولكن وظيفتها هي تصحيح تصور الإنسان لإلهه ، وتعريفه بالإله الحق الذي لا إله غيره ، تعريفه بحقيقته وصفاته ، لا تعريفه بوجوده وإثباته ، ثم تعريفه بمقتضيات الألوهية في حياته - وهي الربوبية والقوامة والحاكمية - والشك في حقيقة الوجود الإلهي أو إنكاره هو بذاته دليل قاطع على اختلال بين في الكينونة البشرية ، وعلى تعطل أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية فيها ، وهذا التعطل لا يعالج - إذن - بالجدل . وليس هذا هو طريق العلاج ! إن هذا الكون ، كون مؤمن مسلم ، يعرف بارئه ويخضع له ، ويسبح بحمده كل شيء فيه وكل حي - عدا بعض الأناسي ! - و "الإنسان" يعيش في هذا الكون الذي تتجاوب جنباته بأصداء الإيمان والإسلام ، وأصداء التسبيح والسجود ، وذرات كيانه ذاته وخلاياه تشارك في هذه الأصداء ؛ وتخضع في حركتها الطبيعية الفطرية للنواميس التي قدرها الله ، فالكائن الذي لا تستشعر فطرته هذه الأصداء كلها ؛ ولا تحس إيقاع النواميس الإلهية فيها هي ذاتها ، ولا تلتقط أجهزته الفطرية تلك الموجات الكونية ، كائن معطلة فيه أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية ، ومن ثم لا يكون هنالك سبيل إلى قلبه وعقله بالجدل ، إنما يكون السبيل إلى علاجه هو محاولة تنبيه أجهزة الاستقبال والاستجابة فيه ، واستجاشة كوامن الفطرة في كيانه ، لعلها تتحرك ، وتأخذ في العمل من جديد" .ولفت الحس والقلب والعقل للنظر إلى ما في السماوات والأرض ، وسيلة من وسائل المنهج القرآني لاستحياء القلب الإنساني ؛ لعله ينبض ويتحرك ، ويتلقى ويستجيب .
كتاب حوا كل المعارف ونتهتْ إليه المعاني والأحاديثُ والكتب
فماذا عسى نبض الحروف تزيده إذا كان من قال البيان هو الربّ
ولكن أولئك المكذبين من الجاهليين العرب وأمثالهم -لا يتدبرون ولا يستجيبون ، فماذا ينتظرون ؟"[1]
سأنثر باقة الإبـداع فـكــــــــــــراً وأحي ميتــــــــــــــــــا ببديع فكري
وأنسج من معاني الكون وحيا يغــــــــــــــــــني عبر أزماني ودهري
وهذا القدر مما قلت يكفي لأبلـــــــــــــــغ غايتي وأشـد أزري
فعذرا للكواكب و النجوم وهل يجدي مع التقصير عذري