إنه ينادينا (5)
د.عثمان قدري مكانسي
يقول الله تعالى في سورة البقرة
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا: لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ...... (264)
تقول العرب لِما يَمُنُّ : يدٌ سوداء. ولما يعطى عن غير مسألة : يدٌ بيضاء . ولما يعطى عن مسألة : يد خضراء ، وقال بعض الحكماء : منْ منَّ بمعروفه سقط شكره , ومن أعجب بعمله حبط أجره.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إياكم والامتنان بالمعروف فإنه يبطل الشكر ويمحق الأجر - ثم تلا - " لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى " ) . وقال صلى الله عليه وسلم كذلك :" لا يدخل الجنة مدمن خمر ولا عاق لوالديه ولا منـّان" .
ورحم الله تعالى الشاعر الأريب إذ قال :
أفسدت بالمنّ ما أسديت من حَسنٍ ليس الكريم إذا أسدى بمنـّانٍ
والقرآن الكريم جعل المنّ أذى ، فما المنّ؟: قال الجوهريّ في صحاحه : القطعُ والنقص . قال تعالى : ( لهم أجر غير ممنون) غير مقطوع ولا منقوص. وقال الفيروزأبادي : غير محسوب ولا مقطوع. وعل هذا كان المنّ في العطاء ذمّاً ومنقصة وليس لأحد أن يمنّ غير الخالق العظيم سبحانه وتعالى فهو صاحب الفضل الحقيقيّ.
فالصدقة تبطل بما يتبعها من المن والأذى فما بقي ثوابُ الصدقة بخطيئة المن والأذى، فهو كالمرائي ينفق أمواله دون أن يكسب أجراً ، وحين يعلم الله من صاحبها أنه يمنّ أو يؤذي فإنه لا يقبلها ويمنع الملـَك أن يكتبها – كما ذكر علماؤنا- .
: وقال أبو بكر الوراق :
أحسن من كل حسن في كل وقت وزمن
صـنيعـة مربـوبـة خـالـيـة من المـِنـَن
وسمع ابن سيرين رجلا يقول لرجل : فعلت إليك وفعلت. فقال له : اسكت فلا خير في المعروف إذا أحصي
قال القرطبي: قال علماؤنا رحمة الله عليهم : كره مالك لهذه الآية أن يعطي الرجل صدقته الواجبة أقاربه لئلا يعتاض منهم الحمد والثناء , ويظهر منته عليهم ويكافئوه عليها، فلا تخلص لوجه الله تعالى . واستحب أن يعطيها الأجانب , واستحب أيضا أن يولّي غيره تفريقها إذا لم يكن الإمام عدلا , لئلا تحبط بالمن والأذى والشكر والثناء والمكافأة بالخدمة من المعطى .
يقول القرطبيّ رحمه الله تعالى: مثـّلَ الله تعالى الذي يمن ويؤذي بصدقته بالذي ينفق ماله رئاء الناس لا لوجه الله تعالى , وبالكافر الذي ينفق ليقال جواد ، وليـُثـنى عليه بأنواع الثناء . ثم مثـّل هذا المنفقَ المنّانَ أيضا بصفوان عليه تراب فيظنه الظانُّ أرضا منبتة طيبة , فإذا أصابه وابل من المطر أذهب عنه التراب وبقي صلدا , فكذلك هذا المرائي . فالمن والأذى والرياء تكشف عن النية، فتبطل الصدقة كما يكشف الوابل( المطر الشديد) عن الصفوان (وهو الحجر الكبير الأملس الذي لا يثبت عليه الماء بل يكشف عنه التراب ) . فذهب ثوابُه باطلاً لا نفع له فيه , فالقاصد بنفقته الرياءَ غيرُ مثابٍ كالكافر لأنه لم يقصد به وجه الله تعالى فيستحق الثواب .
ولقد تحدث الإِمام الرازي عن الآثار السيئة للمن والأذى فذكر أن المنّ مذموم لوجوه :
الأول : إنكسار الفقير الآخذ للصدقة ، يُضاف إليها غلظة المنعم الفظ فينقلب الإحسان إساءة
والثاني : والمنُّ يبعد أهل الحاجة عن إظهار حاجتهم فيصيبهم العنت .
الثالث : يجب أن يعتقد المعطي أن ما يفعله نعمة من الله عليه ، فإن اعتقد غير ذلك زلّ وأساء.
إن الصدقة تربى لصاحبها حتى تكون أعظم من الجبل , فإذا خرجت من يد صاحبها خالصة على الوجه المشروع ضوعفت , فإذا جاء المن بها والأذى ذهبت أدراج الرياح .
إنه سبحانه ينادينا منبهاً وآمراً ومحذراً ..... فهل نسمع ونتعظ.