سهام الأسحار
سهام الأسحار
الطيب عبد الرازق النقر
الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا
دوحة الظلم في عالمنا العربي والإسلامي فينانة الأفرع، ريا الأماليد،
وسُعار الجور الذي غلب على الأبصار، وطغى على البصائر، أحال عوالمنا التي
تغلي غليان المرجل لقمع قميء، وشح دنيء، وصلف عاتي، الأمر الذي دفع بعض
هذه
الشعوب المنكوبة إلي أقاريز الشوارع بعد أن لاح لها أن الضرب في أودية
الهيام والخيال الجامح بتنحي من جعل الضجر يساور كل نفس، والامتعاض يرتسم
في كل وجه، أمر لن يتحقق إلا بزوال الكون، فطاغية تونس الهارب الذي سام
شعبه الخسف لم يكن يود أن يغادر بحبوحة امبراطوريته التي أرسى قواعدها
بالقتل، والشطط والتعدي حتى على حرمة الدين الخالد التي ما شادها أحد إلا
قصمه الله، غادر زين العابدين صولجان حكمه بعد أن اقتلعته تلك الثورة
التي ألهبت الحماس في عالمنا العربي فدالت أنظمة مستبدة بسططت حزم الذعر
والخوف والطغيان في كل صقع وواد.
والظلم الذي ينقسم إلي ثلاثة أقسام كما أخبرنا الصادق المصدوق عليه
الصلاة والسلام في حديثه الشريف: «ألا إن الظلم ثلاثة فظلم لا يغفر،
وظلم لا يترك، وظلم مغفور لا يطلب، فأما الظلم الذي لا يغفر فالشرك بالله
والعياذ بالله تعالى، قال الله تعالى: «إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر
مادون ذلك لمن يشاء» النساء:48. وأما الظلم الذي لا يُترك فظلم العباد
بعضهم بعضًا، وأما الظلم المغفور الذي لا يُطلب فظلم العبد نفسه.
أشده وأنكاه ظلم الحاكم لرعيته، فالحاكم ينبغي أن يكون كالوالد الحدب
الذي يشبل على أفلاذ أكباده، ويمد لهم أكناف رحمته، لا أن يبصر شعبه الذي
ذوى عوده النضر، وتلاشى عضله المكتنز، وتهدم جسده الوثيق، جراء الفقر
المدقع، والجهد المرهق، والخوف الدائب من بطش زبانيته، فيصر على التشبث
بكرسيه، ويغفل عن منجانيق الضعفاء التي سوف تصيبه حتماً في يوماً ما،
ومنجايق الضعفاء هذه كان يخشاها من لا يجد في نفسه مضاً ولا حزازة حينما
يظفر بخصمه، الخليفة الحليم سيدنا معاوية بن سيفان رضي الله عنهما، فقد
كان يقول:«إني لأستحي أن أظلم من لا يجد علىّ ناصراً إلا الله». فمن كان
يترقرق من وجهه ماء الكرم كان يدرك جلياً حديث خير البرية وهو كاتب
وحيه:«ما من عبدُ ظُلِمَ فشخص ببصره إلي السماء إلا قال الله عزوجل لبيك
عبدي حقًا لأنصرنك ولو بعدحين». هذا هو السبب الذي جعل سليمان بن
عبدالملك يهبط من منبره في جزع واضطراب حينما قاطعه رجل وهو يهضب بالكلام
في المسجد قائلاً: «يا سليمان أذكر يوم الأذان، فسأله سليمان حينما نزل
وما الأذان؟ فقال: قول الله تعالى: «فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على
الظالمين» الأعراف:44. قال سليمان: وما ظلامتك؟ فقال الرجل: أرض لي بمكان
كذا وكذا أخذها وكيلك، فكتب الخليفة الأموي السابع سليمان بن عبد الملك
إلي وكيله بأن يدفع إليه أرضه وأرضاً مع أرضه، والدعاء الذي يعد بمثابة
مناجيق الضعفاء يجتث شأفة القهر والظلم، وترتعد من فرائصه قبيلة السلاطين
الذين ما زال وميض الخوف من الله يتهادى بين جوانحهم، والدعوة إلي
الإصلاح والتهديد بالدعاء على كل من طغى وتجبر هي التي قومت اعوجاج حاكم
مصرأحمد بن طولون فقد كفّ عن شططه وجوره حينما تصدت له الطاهرة التي كانت
تلهم كل ذهن، وتشحذ كل خاطر، الشريفة الحسيبة السيدة نفيسة بنت الإمام
الحسن الأنور بن زيد الأبلج بن الإمام الحسن بن الكرار علي رضي الله عنهم
جميعاً، فقد هرع إليها قاطنو مصر كما جاء في المستطرف وأفواههم تضج
بالشكوى والتذمر من عسف الحاكم أحمد بن طولون، فأرسلت إليه رقعة مكتوباً
فيها: «ملكتم فأسرتم، وقدرتم فقهرتم، وخولتم فعسفتم، وردت إليكم الأرزاق
فقطعتم، هذا وقد علمتم أن سهام الأسحار نافذة غير مخطئة لا سيما من قلوب
أوجعتموها، وأكباد جوعتموها، وأجساد عريتموها، فمحال أن يموت المظلوم
ويبقى الظالم، اعملوا ما شئتم فإنا صابرون، وجوروا فإنا بالله مستجيرون،
واظلِموا فإنا إلى الله متظلمون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون».
ليت شعري هل يكف كل من طغى وتجبر عن الظلم إذا جالت أعينهم في حواشي
هذه الرسالة الجامعة لشتيت الفوائد... لا أظن.