الدينونة لله منهج للحياة وبريد للسعادة
هائل سعيد الصرمي
"الأشخاص الأكثر نجاحا في كل مجال ينفقون وقتا أطول بكثير في الإعداد والتحضير عن الأشخاص الأقل نجاحا"[1] لذلك فهم أكثر سعادة .
إن الإسلام يريد منا أن نكون في حالة إيمانية في كل أوقاتنا، لا أن نكون في أوقات العبادات فقط, هذه الحقيقة التي انجذبت القلوب إليها جذباً، وتوقدت العاطفة لها؛ لتبقى موصولة بصورة دائمة نحو السماء, تعني ديمومة الإيمان في كل حياتنا، إننا لا نشعر بالسعادة الحقيقية إلا بقدر صلتنا بهذا النور، صلتنا بخالق الوجود . أن ندين لله في كل مشارب الحياة، في كل أوقاتنا فذلك هو مصدر السعادة الحقيقية.
كيف يكون ذلك ؟ الجواب: بالتسليم والرضا به على كل أحوالنا، بالشعور الدائم بأن كل شيء منه، وكل عمل أو تصرف منا ينبغي أن يتوجه إليه، وهو فضل منه، ثم إن علينا أن نستصحب دائماً معنى الحديث: (عجبت للمؤمن! إن الله لا يقضي له قضاءً إلا كان خيراً له)([2]).
هذا الحديث يورث الرضا، والتسليم على كل أحوالك، ويولّد لديك حباً لربك، وحسن ظن في جميع الأحوال، فتلك هي السعادة، فلا سعادة بغير تصحيح العقيدة؛ لأن صحة العقيدة، وسلامة التوحيد،والإيمان، ينبع من تحرير الخوف والرجاء من غير الله، بحيث لا يخاف، ولا يرجو أحداً إلا الله، فهل بعد هذه السعادة سعادة، قال تعالى: ]وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ ـ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ[ [البقرة:130_131]، إن سيدنا إبراهيم يعلن إعلاناً مدوياً، بتسليمه تسليماً مطلقاً لرب الكون ومصرفه.
سلم أمورك وارضَ في أقداره |
|
تخلو من الأحزان والأدران |
يذكر ابن القيم في كتابه "مدارج السالكين" فيقول: (أن تفنى بعبادة الله عن سواها، وبمحبته عن محبة ما سواه، وبخشيته عن خشية ما سواه، وبطاعته عن طاعة ما سواه، ذلك بموالاته، وسؤاله، والاستغناء به، والتوكل عليه، ورجائة، ودعائه، والتفويض إليه، والتحاكم إليه، واللجوء إليه، والرغبة فيما عنده)." ([3]).
عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق ووافق ذلك مالاً عندي فقلت : اليوم أسبق أبا بكر رضي الله عنه فجئت بنصف مالي فتصدقت به فقال لي رسول الله : "ما أبقيت لأهلك يا عمر" قلت نصف مالي يا رسول الله ثم قال لأبي بكر : "ما أبقيت لأهلك" قال : أبقيت لهم الله ورسوله فقلت : لا أسابقك بشيء بعدها. وهذامن قوة الإيمان الذي يعد مصدرمن مصادر الحياة الطيبة فمن مصادر السعادة والطمأنينة الاتصال بالله .والتضحية في سبيله.
ولنقف في تجسيد هذه الحقيقة، وهذا المعنى الكبير _ الذي هو تعبيد الحياة لله ودورانها ودينونتها في رحابه _ مع سيد قطب في ظلاله ؛ كي تتضح هذه الحقيقة بجلاءٍ أكثر.
"إن الاعتقاد بالإلوهية الواحدة قاعدة لمنهج حياة متكامل، وليس مجرد عقيدة مستكنة في الضمائر. وحدود العقيدة أبعد كثيراً من مجرد الاعتقاد الساكن ...، إن حدود العقيدة تتسع وتترامى حتى تتناول كل جانب من جوانب الحياة، وقضية الحاكمية بكل فروعها في الإسلام قضية عقيدة، كما أن قضية الأخلاق بجملتها هي قضية عقيدة، فمن العقيدة ينبثق منهج الحياة الذي يشتمل الأخلاق والقيم، كما يشتمل الأوضاع والشرائع سواءً بسواء ...
ونحن لا ندرك مرامي هذا القرآن قبل أن ندرك حدود العقيدة في هذا الدين، وقبل أن ندرك مدلولات (شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله) على هذا المستوى الواسع البعيد الآمال. وقبل أن نفهم مدلول العبادة لله وحده، ونحدده بأنه الدينونة لله وحده، لا في لحظات الصلاة، ولكن في كل شأن من شؤون الحياة.
إن عبادة الأصنام التي دعا إبراهيم _ عليه السلام _ ربه أن يجنبه هو وبنيه إياها، لا تتمثل فقط في تلك الصورة الساذجة التي كان يزاولها العرب في جاهليتهم، أو التي كانت تزاولها الوثنيات في صورة شتى، مجسمة في أحجار وأشجار، أو حيوان أو طير، أو نجم أو نار، أو أرواح أو أشباح ...، إن هذه الصور الساذجة كلها لا تستغرق كل صور الشرك بالله، ولا تستغرق كل صور العبادة للأصنام من دون الله، والوقوف بمدلول الشرك عند هذه الصور الساذجة، يمنعنا من رؤية صور الشرك الأخرى التي لا نهاية لها، ويمنعنا من الرؤية الصحيحة لحقيقة ما يعتور البشرية من صور الشرك والجاهلية الجديدة!، ولابد من التعمق في إدراك طبيعة الشرك، وعلاقة الأصنام بها، كما أنه لابد من التعمق في معنى الأصنام، وتمثل صورها المتجددة مع الجاهليات المستحدثة! إن الشرك بالله _ المخالف لشهادة أن لا إله إلا الله _ يتمثل في كل وضع، وفي كل حالة لا تكون فيها الدينونة في كل شأن من شؤون الحياة خالصة لله وحده، ويكفي أن يدين العبد لله في جوانب من حياته، بينما هو يدين في جوانب أخرى لغير الله، حتى تتحقق صورة الشرك وحقيقته، وتقديم الشعائر ليس إلا صورة واحدة من صور الدينونة الكثيرة ...، والأمثلة الحاضرة في حياة البشر اليوم تعطينا المثال الواقعي للشرك في أعماق طبيعته.
إن العبد الذي يتوجه لله بالاعتقاد في ألوهيته وحده، ثم يدين لله في الوضوء والطهارة والصلاة والصوم والحج وسائر الشعائر، بينما هو في الوقت ذاته يدين في حياته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لشرائع من عند غير الله، ويدين في قيمه وموازينه الاجتماعية لتصورات واصطلاحات من صنع غير الله، ويدين في أخلاقه وتقاليده وعاداته وأزيائه لأرباب من البشر، تفرض عليه هذه الأخلاق والتقاليد والعادات والأزياء _ المخالفة لشرع الله وأمره _ أن هذا العبد يزاول الشرك في أخص حقيقته، ويخالف عن شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله في أخص حقيقتها، هذا ما يغفل عنه الناس اليوم فيزاولونه في ترخص وتميع، وهم لا يحسبونه الشرك الذي كان يزاوله المشركون في كل زمان."[4]
.يا رب أنت عوننا |
|
وأنت أنت عزنا |
[1] قانون الإعداد
([2])التميمي، أحمد بن علي بن المثنى أبو يعلى الموصلي، مسند أبي يعلى، تحقيق: حسين سليم أسد، الطبعة الأولى، 1404هـ _ 1984م، دار المأمون للتراث، دمشق، عدد الأجزاء (13)، (4218)، [7/ 221]
([3])ابن القيم الجوزية، محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله، مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، الطبعة الثانية، 1393هـ _ 1973م، دار الكتاب العربي، بيروت تحقيق: محمد حامد الفقي، عدد الأجزاء (3)، [3/ 483]
[4] ظلال القرآن سيد قطب ظلال ( هذا بلاغ للناس ....)