السلب بعد العطاء
د. نعيم محمد عبد الغني
إن السلب بعد العطاء، والنقصان بعد الزيادة شيء ثقيل على النفس، وهو الحور الذي استعاذ منه النبي –صلى الله عليه وسلم في قوله الذي رواه الإمام مسلم: (وأعوذ بك من الحور بعد الكور)، والحور هو النقصان والكور هو الزيادة، وفي روايات أخرى الكون، وجاءت من تكوير العمامة أو تكوينها، أما الحور فهو نقص الشيء أو نقضه.
وفي قوله تعالى: (إنه ظن أن لن يحور) معنى يحور أي يرجع، أي ظن عدم الرجوع إلينا، والحور كلمة حبشية في الأصل وقد وردت في شعر لبيد:
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه * يحور رمادا بعد إذا هو ساطع
وقد أعطى القرآن صورة السلب بعد العطاء في قوله تعالى: (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ)
وفصل هذه الصورة عندما تحدث عن قصة أصحاب الجنة، وقصة الرجلين، وهذه الصور الثلاث التي صورها القرآن أتت في سياق اغترار الإنسان بماله وعدم التصدق منه، والاعتراف بنعمة الله .
فآية البقرة أتت لتنهى عن إبطال الصدقات بالمن والأذى، وحث الناس على أن تكون الصدقة ذخرا لهم في حياتهم وبعد مماتهم، فهي إحدى ثلاث لا ينقطع ثوابها عن الإنسان الذي يحتاجها في أشد اللحظات وأقساها، وهي أول أمنية يتمناها المرء قبل الموت (وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين). وحين ذاك يكون توفيق الله لعبده في الصدقة التي لا يشوبها من ولا أذى، عطاء يحتاجه عند الحساب يوم يقوم الناس لرب العالمين. أما إن أتبع صدقاته المن والأذى والرياء فإنه سيحرم الأجر الذي يكون في حاجة شديدة له.
وهذه الآية اختلف حولها، فبعضهم خصها بمناسبة الرياء، وآخرون – ومنهم ابن عباس- جعلها في الذي يعمل عملا صالحا ثم يختمه بشر. ولكن المعنى العام لها أنها تصور حالة السلب بعد العطاءـ ذلك العطاء الذي تتعدد صوره وأشكاله، ومن ذلك:
أولا: عطاء الله لك في الهداية للإيمان والتوفيق للعبادة، ونحن ندعو الله فنقول: (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا)
ولذا فمن أعطي مثلا نعمة حفظ القرآن ثم سلبها فإن ذلك حسرة عليه يوم القيامة ففي الحديث (ما من أحد تعلم القرآن ثم نسيه إلا لقى الله يوم القيامة وهو أجذم (أحمد، وعبد بن حميد، والدارمي، والطبراني، والبيهقي في شعب الإيمان عن سعد بن عبادة)
كذا من حرم لذة الطاعة بالمعصية فقد جاءه السلب بعد العطاء، ونقرأ ذلك أيضا عند ابن الجوزي في صيد الخير، حيث نقل جملة من الآثار في ذلك، يقول: قال الحكماء: المعصية بعد المعصية عقاب المعصية، والحسنة بعد الحسنة ثواب الحسنة.
وربما كان العقاب العاجل معنوياً كما قال بعض أحبار بني إسرائيل: يا رب كم أعصيك ولا تعاقبني؟ فقيل له: كم أعاقبك وأنت لا تدري، أليس قد حرمتك حلاوة مناجاتي؟.
فمن تأمل هذا الجنس من المعاقبة وجده بالمرصاد، حتى قال وهب بن الورد وقد سئل: أيجد لذة الطاعة من يعصي؟ فقال: ولا من هم.
فرب شخص أطلق بصره فحرم اعتبار بصيرته، أو لسانه فحرمه الله صفاء قلبه، أو آثر شبهة في مطعمه فأظلم سره، وحرم قيام الليل وحلاوة المناجاة، إلى غير ذلك.
ومن المشهور في ذلك ما حدث للإمام الشافعي الذي كان ذا حافظة عجيبة وعندما أحس أن قدرته على الحفظ قلت شكا إلى وكيع أستاذه سوء حفظه فأرشده إلى ترك المعاصي، فتفكر الشافعي فوجد أنه رأ ساق امرأة رفع الهواء ثوبها، فأنشأ يقول:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي……فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال لي: إن العلم نورٌ……ونور الله لا يهدي لعاصي
وما أفقه التابعي الجليل الضحاك بن مزاحم رحمه الله عندما قال فيما رواه أبو عبيد رحمه الله:
"ما من أحد تعلم القرآن ثم نسيه إلا بذنب أحدثه، لأن الله يقول: "وما أصابكم من مصيبة بما كسبت أيديكم"
ورعاية هذا العطاء وتلك النعم بالمحافظة عليها وترك المعاصي والمداومة على الطاعة وإن قلت، وتجديد الإيمان الذي يزيد وينقص بقول لا إله إلا الله كما قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم
ثانيا: عطاء الله لك في النعم الحسية من مال وسلطان
أما السلب بعد العطاء في النعم الحسية كالمال والسلطان ونحو ذلك، فقد أجمله القرآن في قوله تعالى: (أيود أحدكم أن تكون له جنة...) وأعطى لذلك أمثلة منها: قصة أصحاب الجنة، حيث إنهم تقاسموا بينهم ألا يدخلنها اليوم عليهم مسكين، فخالفوا بذلك أمر الله الذي جعل للفقراء في أموال الأغنياء حقا معلوما، فكان جزاؤهم أن سلبهم الله بعد العطاء، وكان هلاك الجنة، (فطاف عليها طائف من ربك فأصبحت كالصريم)، وهناك لها مثل آخر في سورة الكهف في ذلك الذي اغتر بماله، وقال أنا أكثر منك مالا وولدا، فكان العقاب: (وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها، ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا).
وحين نتأمل قوله تعالى: (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء) نجد أنه الله قدم العطاء على السلب، وهنا تأتي السنة الكونية في السلب بعد العطاء، ذلك السلب الذي يكون بسبب نكران نعمة الله وعدم شكرها. وهذا العطاء ابتلاء من الله تعالى، لينظر هل يؤدي شكر النعمة أن أنه سيطغى: يقول الله تعالى: (أيحسب ألن يقدر عليه أحد، يقول أهلكت مالا لبدا، أيحسب ألم يره أحد، ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين، وهديناه النجدين فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة، يتيما ذا مقربة، أو مسكينا ذا متربة).
إن هناك من يغتر بماله كقارون الذي خسف الله به الأرض، ومن يغتر بسلطانه كفرعون الذي أغرقه الله، وما ربك بظلام للعبيد، لقد سمعنا ورأينا هلاك كثيرين تجبروا وظلموا وظنوا أن الله غير قادر عليهم، حتى قال أحدهم أتحدى أن يفقرني الله، فأصابه الله بمرض جعله يأكل ويشرب وتنفس ويخرج بالخراطيم، وأمامه الطعام والشراب، والمال، وهو غير قادر على الاستمتاع به، وتلك نكاية له وعذاب.
وهناك أمثلة أخرى، قال تعالى: (سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة، ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب)
كيف نحافظ على نعم الله؟
أولا: بشكر الله عليها ورعايتها وعدم التفريط فيها، فلا يرمى نصف الطعام، والناس يموتون جوعا.
إذا كنت في نعمة فارعها ...فإن المعاصي تزيل النعم
وداوم عليها بشكر الإله...فإن الإله شديد النقم
ثانيا: بإعطاء الحقوق لصاحبها
ثالثا: بالنظر إلى الضعفاء، والرضا بما قسم الله لك، انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تَزْدَرُوا نعمة الله عليكم (أحمد ، ومسلم ، والترمذى ، وابن ماجه عن أبى هريرة)
وهذا لا ينافي الطموح والاجتهاد في الحياة.
إن من وسائل التربية وتهذيب النفس أن يعيش المرء حياة لم يتعود عليها، كأن يدخل السجن مثلا، وهذه عقوبة بها حرم الحرية والعيش الكريم والأنس بالأهل، فهنا سلب بعد عطاء، وكان هذا من الأساليب التي اتبعها سيدنا عمر بن الخطاب لتأديب الولاة، فقد ورد أن سيدنا عمر بن الخطاب بلغه سوء سيرة عامله في مصر فاستدعاه فوجد عليه أثر النعمة، فأمره أن يخلع ثيابه ويلبس الصوف ويرعى الغنم في رمضاء مكة فذهب ومكث يوما، وقال اقتلني يا أمير المؤمنين، فقال إن أرجعتك تسير في الناس سيرة حسنة، فقال: والله لا تسمع عني إلا خيرا، وذهب وحسنت سيرته، فهنا أراد سيدنا عمر أن يؤدبه بعقوبة السلب بعد العطاء.