فتح مكة-11
فتح مكة-11
د.عثمان قدري مكانسي
خالدٌ بعد الفتح إلى بني جذيمة ،وعليّ يتلافى خطأ خالد
ووصاة الرسول له وما كان منه :
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم السرايا حول مكة يدعون إلى الإسلام وكان بعث خالد بن الوليد داعياً ، ولم يبعثه مقاتلاً ، ومعه قبائل من العرب : سليم بن منصور ، ومدلج بن مرة ، فوطئوا بني جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة ، فلما رآه القوم أخذوا السلاح ، فقال خالد : ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا . قال رجل من جذيمة يقال له جحدم : ويلكم يا بني جذيمة ! إنه خالد والله ! ما بعد وضع السلاح إلا الإسار ، وما بعد الإسار إلا ضرب الأعناق ، والله لا أضع سلاحي أبداً .
: فلما وضعوا السلاح أمر بهم خالد عند ذلك ، فكتفوا ، ثم عرضهم على السيف ، فقتل من قتل منهم ؛ فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رفع يديه إلى السماء ، ثم قال : اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد .
وكان قد انفلت رجل من القوم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبره الخبر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل أنكر عليه أحد ؟ فقال : نعم ، قد أنكر عليه رجل أبيض ربعة ، فنهمه خالد ( زجره)، فسكت عنه ، وأنكر عليه رجل آخر طويل مضطرب ، فراجعه ، فاشتدت مراجعتهما ، فقال عمر بن الخطاب : أما الأول يا رسول الله فابني عبدالله ، وأما الآخر فسالم ، مولى أبي حذيفة .
إرساله صلى الله عليه وسلم علياً بدية بني جذيمة :
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضوان الله عليه ، فقال : يا علي ، اخرج إلى هؤلاء القوم ، فانظر في أمرهم ، واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك .
فخرج علي حتى جاءهم ومعه مالٌ قد بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فودى لهم الدماء وما أصيب لهم من الأموال ، حتى أنه ليدي لهم ميلغة الكلب ، حتى إذا لم يبق شيء من دم ولا مال إلا وداه ، بقيت معه بقية من المال ، فقال لهم علي رضوان الله عليه حين فرغ منهم : هل بقي لكم بقية من دم أو مال لم يودَ لكم ؟
قالوا : لا ، قال : فإني أعطيكم هذه البقية من هذا المال ، احتياطاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، مما يعلم ولا تعلمون ، ففعل ، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر : فقال : أصبت وأحسنت ! قال : ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقبل القبلة قائماً شاهراً يديه ، حتى إنه ليرى مما تحت منكبيه ، يقول : اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد ، ثلاث مرات .
معذرة خالد في قتال القوم :
يقول خالدٌ ما قاتلت حتى أمرني بذلك عبدالله بن حذافة السهمي ، وقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرك أن تقاتلهم لامتناعهم من الإسلام .، وأنهم قالوا صبأنا صبأنا.
ما وقع بين عبدالرحمن بن عوف وخالد بن الوليد :
وقد كان جحدم قال لهم حين وضعوا السلاح ورأى ما يصنع خالد ببني جذيمة : يا بني جذيمة ، ضاع الضرب ، قد كنت حذرتكم ما وقعتم فيه .
قد كان بين خالد وبين عبدالرحمن بن عوف كلام في ذلك ، فقال له عبدالرحمن بن عوف : عملت بأمر الجاهلية في الإسلام . فقال : إنما ثأرت بأبيك .
فقال عبدالرحمن : كذبت ، قد قتلت قاتل أبي ، ولكنك ثأرت بعمك الفاكه بن المغيرة ، حتى كان بينهما شر . فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : مهلاً يا خالد ، دع عنك أصحابي ، فوالله لو كان لك أحد ذهباً ثم أنفقته في سبيل الله ما أدركت غدوة رجل من أصحابي ولا روحته .
خالد يهدم العزى
ثم بعث رسول الله صلى اله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى العُزّى ، وكانت بنخلة ، وكانت بيتا يعظمه هذا الحي من قريش وكنانة ومضر كلها ، وكانت سدنتها وحجابها بني شيبان من بني سليم حلفاء بني هاشم ، فلما سمع صاحبها السلمي بمسير خالد إليها ، علق عليها سيفه ، وأسند في الجبل الذي هي فيه وهو يقول :
أيا عز شدي شدة لا شوى لها * على خالد ألقى القناع وشمري
يا عز إن لم تقتلي المرء خالداً * فبوئي بإثم عاجل أو تنصري
فلما انتهى إليها خالد هدمها ، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وعن عبيد الله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود ، قال : أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد فتحها خمس عشرة ليلة يقصر الصلاة . وكان فتح مكة لعشر ليال بقين من شهر رمضان سنة ثمان .
إضاءة:
1- تثبيت الفتح عسكرياً يتبعه دعوةٌ تنشر الإسلام وتثبّتُ الدعوة ، فما إن فتح الرسول صلى الله عليه وسلم مكة حتى نشر السرايا فيما حولها يستبرئ القوم من الشرك ويدعوهم إلى التوحيد ، ولن يستقر الأمر في البلاد المفتوحة عسكرياً مالم تكن القاعدة الإيمانية ثابتة مكينة ممتدة الجذور أفقياً وعمودياً تحفظ القلب وتحمي الأطراف .
2- في السرايا الإيمانية قوة عسكرية تبسط الأمان وتحفظ الدعاة في سعيهم وتقطع على الصادّين مكرهم ، ودعاةٌ يطوفون بين الناس يحملون شعلة الإيمان للضالين والحيارى ينشرون نور الحق بينهم ويدعونهم بالحسنى إلى الصراط المستقيم دون فرض ولاإكراه ، ( لا إكراه في الدين) فلن يكون الإيمان إلا عن اعتقاد صادق ورضا.
3- ولن يكون القتال إلا بعد عرض الدعوة وتوضيحها أو الجزية لمن أباها ،ثم القتال لمن أنكر العرضين وأعرض عنهما. فمن دخل في دين الله كان من المسلمين ، ومن دفع الجزية خضع لهم وسمح للدعوة أن تشق طريقها دون عوائق ،ومن صدّ واستكبر ومنع نور الإيمان ان يبزغ وجب التصدّي له ومقارعته.
4- يُصرّح الداعية بدعوته ويزيل الغشاوة عن المتشككين بواضح العبارة كما فعل خالد حين قال لبني جذيمة " ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا" فأعلن أنه لم يأت لقتالهم . ولا بدّ من القتال إذا ما أشهر الآخرون السلاح في وجهك جهلاً أو معرفة . فإذا كان قتالٌ بعد الإعذار فلا بد من الإثخان حتى يرضخ المكابر للحق.
5- ينبغي التقيّد بالتعليمات الصادرة عن القيادة العليا ما لم يكن هناك سبب قاهر لتجاوزها. فإن حصل التباسٌ أو سوء فهم أوتقصير فإن القائد العام يصلح خطأ مرءوسه ، وعلى القائد العام أن يحاسب المخطئ ويبرأ مما فعل ويصوّب الخطأ ليعلم الجميع أنه لا ممالأة ولا محاباة . فنرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل علياً رضي الله عنه يحمل الديات ويرضي المظلومين ويزيد في الكرم كي يمحو الضغائن من نفوس القوم ويسترضيهم، فالحق أحق ان يُتّبع.
6- على المرءوس حين يرى من قائده خطأ أن ينبه ويقوّم ، فالطاعة المبصرة هدف المسلم لا الطاعةُ العمياء التي تزيد الطين بلة والانحرافَ ميَلاناً ، والناسُ في النصيحة نوعان ، فمنهم من ينبّه ويسكت ، ومنهم من يجادل ويراجع لتنفيذ المَهمّة على الوجه المطلوب،ولكلٍّ حجّته.
7- ضعفُ الإنسان بادٍ مهما ارتفع وسما عمله ، وهذه سنّة الله في خلقه فإذا كان الصحابة يتخاصمون أحياناً فلأنهم بشر ، لكنّهم سرعان ما يفيئون إلى الحق ويخضعون له، وقد يكون هذا لاختلافٍ في الفهم أو الرأي أو لأمور عالقة في النفس تظهر بين الفَينَة والأخرى أوحين يضعف الإنسان. سرعان ما يصلحها أو يغطيها ذكرُ الله واستغفارُه والاعتذارُ الذي يحمل في طياته الحب في الله والرغبة في مرضاته والفيء إلى الحق.
8- حفظ الإسلامُ للسابقين مكانتهم ، فعلى الرغم من وجوب احترام القائد وطاعته فإنّ قيادته لا تعني أنه خير من مرءوسه . يتجلّى هذا في قول النبي صلى الله عليه وسلم لخالد – قائد السرية فيها عبد الرحمن بن عوف- حين تطاول عليه – وعبد الرحمن من العشرة المبشّرين بالجنة – "مهلاً يا خالد ، دع عنك أصحابي ، فوالله لو كان لك أحُدٌ ذهباً ثم أنفقته في سبيل الله ما أدركتَ غَدوة رجل من أصحابي ولا روحته." وقوله صلى الله عليه وسلم ( دع عنك أصحابي) دليل على البون الشاسع بين السابقين واللاحقين.
9- كما ان الأسبقية في الإسلام لا تمنح صاحبها القيادة إلا إذا كان متّسماً بها وأهلاً لها ، فقد حفظ الإسلام للنابهين دورهم ومكانتهم – وإن تأخروا- وقلّدهم المسؤولية، فللمَهمّات أهلها القادرون على تنفيذها بقوة ، ولا بدّ من وضع الرجل المناسب في المكان المناسب للوصول إلى الهدف المنشود بنجاح، وخالد خيرُ مثال لهذا ، وقد أطلق عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم " سيف الله المسلول ، واعتمده الصدّيق رضي الله عنه كثيراً في المهمّات الصعبة.
10- كان على سادن العُزّى عين علم بقدوم خالد لهدمها – لو كان يؤمن بها حقاً – أن يدافع عنها ، لكنه علّق عليها سيفه وطلب إليها أن تدافع عن نفسها ، ولعلنا في هذا الموقف نستجلي أموراً عدة منها:
أ- أنه يقر بتقصيره عن الدفاع عما يعتقده ، وهذا ضعف في العقيدة ظاهر.بل إنه يُحمّلها إثم سقوطها.
ب- أنه وصوليٌّ كان يتخذ من سدانتها جاهاً ومالاً ، فلما ايقن بزوالها تخلّى عنها.
ت- ولعل علاقة الجاهليين عامّة بآلهتهم ضعيفة وبسيطة نجد هذا عند عبد المطلب حين طالب أبرهة بأنعامه ، وقال قولته المشهورة : للبيت ربٌّ يحميه".
ث- نلمح إصرار السادن على الكفر ، فهو لن يسلم إذا هُدمت العزى بل يحمّلها المسؤولية ويطلب إليها أن تتنصّر إن ضُيّق عليها .
11- يقصر المسلم صلاته في السفر ما شاء له أن يقصر ما دام مسافراً لا يعلم متى يعود إلى مقر إقامته ، ولعل قائلاً يقول : إن مكة دار رسول الله الأولى فلماذا لم يتم صلاته فيها ، فالجواب أنه لم يكن ينوي الإقامة بها ، وضرب خيمته في ظاهرها .
12- فتح مكة كان فتحاً للجزيرة كلها ، وبعده جاءته الوفود من أقطارها تعلن الإسلام لهذا الدين الجديد ، وتدخل فيه أفواجاً ، فغفر الله لرسوله الكريم ما تقدم من عمله وما تأخر ،وأتم نعمته – سبحانه – عليه- وأتم له الصراط المستقيم ونصره نصراً عزيزاً .
13- لرمضان فضائله العديدة من غفران وعتق للرقاب من النار ، ورفع الدرجات ، وفيه ليلة هي خير من الف شهر ، كما أن المعارك فيه والفتوحات توالت : منها غزوة بدر وغزوة تبوك وفتح مكة .. فإذا اجتمع الجهادان :جهادُ النفس وجهاد العدوّ كان النصرُ حليفَ المسلمين ...