نُزُولِ هَاجَرَ وَإِسْمَاعِيلَ مَكّةَ
نُزُولِ هَاجَرَ 1 وَإِسْمَاعِيلَ مَكّةَ 2
(إِذَنْ لا يُضَيِّعُنَا)
رضوان سلمان حمدان
﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ ]إبراهيم: ٣٧[.
إن الله تعالى إذا أراد شيئاً هيّأ له
أسباب وجوده، فإرادة الله تعالى أن يكون خاتم النبيين محمد عربياً يخرج في جزيرة
العرب، فجعل إبراهيمَ أبا الأنبياء يُسكن من ذريته (هاجر وإسماعيل) بوادٍ غير ذي
زرع (مكان الحرم المكي اليوم)، ويَخرج عربٌ من اليمن (جرهم) ليستوطنوا هذا المكان
ويتزوج إسماعيل منهم ويكون محمد من
هذا الصلب الطيب المبارك.
روى البخاري في صحيحه: قال ابنُ عباس: « جاءَ إبراهيمُ بهاجر وبابنها إسماعيلَ وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيتِ عند دَوحةٍ فوقَ زَمْزَمَ[3] في أعلى المسجد وليس بمكةَ يومئذٍ أحدٌ وليس بها ماءٌ فوضعهما هنالك ووضعَ عندهما جِرابًا فيه تمرٌ وسِقاءً فيه ماءٌ ثمَّ قفَّى إبراهيمُ مُنطلقًا فتبعتهُ أمُّ إسماعيلَ فقالتْ: يا إبراهيمُ أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذِي ليس فيه إنسٌ ولا شيءٌ فقالتْ له ذلك مِرارًا وجعل لا يلتفت إليها فقالتْ له: أاللَّهُ الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم[4] قالت إذن لا يضيِّعُنا ثم رجعتْ[5] فانطلقَ إبراهيمُ حتى إذا كان عند الثنِيَّةِ حيثُ لا يرَونه استقبل بوجهِهِ البيتَ ثم دعا بهؤلاء الكلماتِ ورفع يديه فقال ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾[6] ]إبراهيم37[..
وجعلت أم إسماعيلَ ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذَا نفِد ما في السِّقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوَّى - أو قال يَتلبَّطُ - فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا، فلم ترَ أحدًا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طَرَف دِرعها، ثم سعت سعيَ الإنسانِ الْمَجْهُودِ حَتَّى جَاوَزَتِ الْوَادِيَ، ثُمَّ أَتَتِ الْمَرْوَةَ فَقَامَتْ عَلَيْهَا وَنَظَرَتْ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ.
قال ابن عباس قال النبي
:
«فَذَلِكَ سَعْيُ النَّاسِ بَيْنَهُمَا».
فلما أشرفَتْ على المروة، سمعَتْ صوتًا، فقالت صَهٍ، تريدُ نفسَها، ثم تسمَّعَتْ فسمعَتْ أيضًا، فقالتْ قد أسْمعتَ إن كان عندك غِوَاثٌ، فإذا هي بالملكِ عند موضِع زَمْزَمَ، فبحَثَ بعقِبِه - أو قال بجناحه - حتى ظهر الماء، فجعلتْ تُحَوِّضُهُ وتقول بيدها هكذا وجعلتْ تَغْرِفُ من الماء في سِقائها وهو يفورُ بعد ما تَغْرِفُ.
قال ابن عباس قال النبي
:
« يرحمُ اللَّهُ أمَّ إسماعيلَ لو تركَتْ زَمْزَمَ - أو قال - لو لم تَغْرِفْ من
الماءِ لكانتْ زَمْزَمُ عينًا مَعِينًا ».
قال: فشربتْ وأرضعَتْ ولدَها، فقال لها الملَكُ: لا تخافوا الضيعَةَ فإن ها هنا بيت اللَّهِ يبني هذا الغلامُ وأبوه وإنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أهلَه.
وكان البيتُ مرتفِعًا من الأرض كالرابية تأتيه السيولُ فتأخذ عن يمينِه وشِمالِه.
فكانت كذلك حتى مرت بهم رُفقةٌ من جُرْهُمَ[7] أو أهلُ بيتٍ من جُرْهُمَ مقبِلينَ من طريق كداءٍ فنزلوا في أسفلِ مكةَ فرأوا طائرًا عائفًا فقالوا إنّ هذا الطائرَ لَيدورُ على ماء لَعهدُنا بهذا الوادي وما فيه ماء فأرسلوا جرِيًّا أو جريَّينِ فإذا هم بالماء فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا قال وأمُّ إسماعيلَ عند الماء فقالوا أتأذنين لنا أن ننزل عندكِ فقالت نعم ولكن لا حق لكم في الماء قالوا نعم[8].
قال ابن عباس: قال
:
« فألفى ذلك أمَّ إسماعيلَ وهي تحب الأنس فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم
حتى إذا كان بها أهل أبياتٍ منهم وشبَّ الغلام وتعلم العربيةَ منهم وأنفسهم وأعجبهم
حين شبَّ فلما أدرك زوجوه امرأةً منهم.
وماتت أمُّ إسماعيلَ[9] فجاء إبراهيمُ بعدما تزوج إسماعِيلُ يُطالعُ تَرِكَتَه فلم يجد إسماعيلَ فسأل امرأتَه عنه فقالتْ خرج يبتغي لنا، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم.
فقالت: نحن بِشَرٍّ، نحن في ضيقٍ وشِدةٍ فشكَتْ إليه.
قال: فإذا جاء زوجكِ فاقرئي عليه السلام وقولي له يغيِّرْ عتبةَ بابِه.
فلما جاء إسماعيلُ كأنه آنسَ شيئًا فقال: هل جاءكم من أحدٍ؟
قالت: نعم جاءنا شيخ كذا وكذا فسألنا عنك فأخبرتُه وسألني كيف عَيشنا فأخبرتُه أنَّا في جَهدٍ وشِدةٍ.
قال: فهل أوصاكِ بشيءٍ؟
قالت: نعم أمرني أن أقرأ عليك السلام ويقول غيِّرْ عَتَبةَ بابِكَ.
قال: ذَاك أبي وقد أمرني أن أفارِقَكِ الحقي بأهلِك فطلقها[10] وتزوج منهم أخرى.
فلبث عنهم إبراهيم ما شاء اللَّه، ثم أتاهم بعد فلم يجده فدخل على امرأته فسألها عنه فقالت: خرج يبتغي لنا.
قال: كيف أنتم وسألها عن عيشهم وهيئتهم؟
فقالت: نحن بخير وسعة وأثنت على اللَّه[11].
فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم. قال: فما شرابكم؟
قالت: الماء. قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء ».
قَالَ :
« ولم يكن لهم يومئذ حب ولو كان لهم دعا لهم فيه قال فهما لا يخلو عليهما أحد بغير
مكةَ إلا لم يوافقاه.
قال: فإذا جاء زوجك فاقرئِي عليه السلام ومريه يُثْبِتُ عتبة بابه، فلما جاء إسماعيلُ، قال: هل أتاكم من أحد؟)[12](.
قالت: نعم أتانا شيخ حسن الهيئة وأثنت عليه فسألني عنك فأخبرته فسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا بخير)[13](
قال: فأوصاكِ بشيء؟
قالت: نعم، هو يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبِت عتبة بابك.
قال: ذاك أبي وأنت العتبة أمرني أن أمسكك.
ثم لبث عنهم ما شاء اللَّه ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يَبري نَبلاُ له تحت دَوحَة قريبًا من زَمْزَم فلما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد ثم قال: يا إسماعيلُ إن اللَّه أمرني بأمر.
قال: فاصنع ما أمرك ربك. قال: وتعينني؟ قال: وأعينك.
قال: فإن اللَّه أمرني أن أبنِي ها هنا بيتًا[14] وأشار إلى أكَمَة مرتفعة على ما حولها.
قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾.
قال: فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾.
[1]. هاجر: قبطية.. وقيل كانت عندهم من سبي
جُرهم. في الحديث أن النبي قال:
إذا افتتحتم مصر فاستوصوا بأهلها خيراً فإن لهم رحماً وذمة. أراد بالرحم
أمومة هاجر وبالذمة أمومة مارية.
إنها الزوجة الثانية لإبراهيم عليه السلام.. المؤمنة الصابرة المحتسبة.. صارت معلماً مضيئاً في تاريخ المرأة المسلمة بتجاربها المثيرة القاسية، وبصبرها الكبير العظيم، ووعيها الباذخ بطبيعة الرسالة والتكليف والعلاقات والارتباطات.. هاجر المبتلاه على طول الخط.. مبتلاء فى بيتها، فى زوجها، فى ولدها الوحيد.. رباه ما أقوى قلبكِ؟!.. وما أرسخ إيمانك؟!.. وما أشد بلاءك؟!.. ما أعظمك يا سيدتى.. عاشت هاجر مع سيدتها سارة وزوجها إبراهيم في مصر أياماً قليلة، ثم ارتحلت معهما إلي فلسطين، حيث قرر إبراهيم عليه السلام العودة إليها مرة ثانية .
وفي فلسطين كانت هاجر نعم الجارية المخلصة لسيدتها سارة، وقد رأت في سيدها إبراهيم عليه السلام وسيدتها سارة ما لم تره في غيرهما من البشر، رأت أخلاقاً كريمة، ومعاملة طيبة، حيث كانت سارة رضي الله عنها تعاملها كصديقة لها، لا تثقل عليها في العمل، ولا تكلفها من الأعمال ما لاتطيق، فأحبتها هاجر حباً شديداً، وكانت لا تقصر في خدمتها وطاعتها، وقد دعاها إبراهيم عليه السلام إلي الإيمان بالله الواحد الأحد، فآمنت به، وعلمت أن إبراهيم عليه السلام رسول من عند الله، يدعو الناس إلي عبادة الله وفعل الخير، فكانت سعادة هاجر كبيرة بأن أنعم الله عليها بخدمته هو وزوجته الطيبة الصالحة السيدة سارة، فشكرت هاجر ربها وحمدته علي أن أنقذها من قصر الملك الجبار وأنعم عليها بخدمة نبيه ورسوله إبراهيم عليه السلام .
* مارية القبطية أم إبراهيم
عليه السلام، هي مارية بنت شمعون القبطية، أم إبراهيم ولد نبينا محمد
.
لم تحظ بلقب أم المؤمنين لكنها حظيت بشرف أمومتها لإبراهيم وبالزواج
والصحبة. ولدت في بلدة جفن بصعيد مصر. أمها نصرانية رومية. انتقلت مارية مع
أختها سيرين وقيل شيرين إلى قصر المقوقس عظيم القبط في مطلع شبابها الباكر.
وعندما بعث النبي
برسالة
إلى المقوقس ملك مصر، مع حاطب بن أبي بلتعة قرأ المقوقس الكتاب في عناية
وتوقير، ثم التفت إلى (حاطب) وأخذ يسأله عن النبي صلى الله عليه وسلم
وأوصافه.. لم يعلن المقوقس إسلامه، خوفا على ضياع ملكه. ولكنه بعث مع حاطب
بجاريتين (وهما مارية وأختها سيرين)، وعبد خصي يقال له مابور، وألف مثقال
ذهبا وعشرين ثوباً، وبعث ببغلته الشهباء (دلدل) وحماره عفير، وبعسل من
بنها، وببعض العود والمسك. وعندما عاد حاطب بكتاب المقوقس وهديته، أعجب
بمارية،
و اتخذها سُرِّيَّة، ووهب أختها لشاعره حسان بن ثابت الأنصاري وسرعان ما
سرت البشرى في أنحاء المدينة أن النبي
ينتظر
مولوداً له من مارية القبطية. ثم ولد إبراهيم وفرح به أبوه، فلما كان في
اليوم السابع عق عنه
لكن
مارية لم تنج من غيرة ضرائرها. قالت عائشة رضي الله عنها: (ما غرت على
امرأة إلا دون ما غرت على مارية، وذلك أنها كانت جميلة جعدة، فأعجب بها
،
وكان أنزلها أول ما قدم بها في بيت الحارثة بن النعمان الأنصاري، فكانت
جارتنا، فكان عامة الليل والنهار عندها. فجزعت فحولها إلى العالية . وكان
يختلف إليها هناك، فكان ذلك أشد علينا، ثم رزقها الله الولد وحرمناه منه).
وعندما مرض إبراهيم قبل بلوغه العامين وقيل كان عمره ستة عشر شهرا . فجزع
أبواه. ثم انطفأت جذوة الحياة فيه، فحمله
ووضعه
في حجره، كانت وفاة إبراهيم في شهر ربيع الأول سنة عشر في بني مازن، وصلى
عليه رسول الله
ودفنه
في البقيع. ثم وفاة أمه مارية- رضي الله عنها- في المحرم سنة ست عشرة من
الهجرة، وقد عاشت ما يقارب الخمس سنوات في ظلال الخلافة الراشدة، ودعا عمر
بن الخطاب الناس وجمعهم للصلاة
عليها. فاجتمع عدد كبير من الصحابة من المهاجرين والأنصار ليشهدوا
جنازة مـارية القبطية، ودفنت إلى جانب نساء أهل البيت النبوي، وإلى جانب
ابنها إبراهيم. رحمها
الله رحمة واسعة.
[2]. وكان سبب إنزال هاجر وابنها إسماعيل بمكة ونقلها إليها من الشام أن سارة بنت عم إبراهيم - عليه السلام - شجر بينها وبين هاجر أمر وساء ما بينهما، فأمِر إبراهيم أن يسير بها إلى مكة.
[3]. ذُكر أن جبريل - عليه السلام - همز بعقبه في موضع زمزم، فنبع الماء وكذلك زمزم تسمى: همزة جبريل، ويقال فيها أيضاً: هزمة جبريل لأنها هزمة في الأرض. وحكي في اسمها: زمازم وزمزم. وتسمى أيضاً: طعام طُعم وشفاء سُقم. وقيل: سميت زمزم، بزمزمة الماء وهي صوته وقيل: سميت زمزم؛ لأن الفرس كانت تحج إليها في الزمن الأول فزمزمت عليها. والزمزمة صوت يخرجه الفرس من خياشيمها عند شرب الماء. وذُكر عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنها سميت زمزم لأنها زمت بالتراب لئلا يأخذ الماء يمينًا وشمالاً، ولو تركت لساحت على الأرض حتى تملأ كل شيء. والزمزمة عند العرب: الكثرة والاجتماع.
[4] . انظر معى إلى رد الخليل عليها بـ "نعم"، كلمة جازمة حازمة لا اهتزاز فيها، ونفسه التي بين جنبيه لأمر الله طائعة راضية، قال نعم لتكون أعلى مما يعتلج بداخله من شعور الأب، وإحساس الزوج، نعم بكل قوة.. نعم الخارجة من قلب يقدم أمر ربه على أى أمر آخر.. نعم لله وفقط.. وبعدها يفيض الدعاء من قلبه مستعيناً بربه الذى قدمه على كل أمره: {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} ]سورة إبراهيم 38 [
[5]. إنها قصة التضحية والاستجابة مع السمع والطاعة المطلقة لأمر الله تعالى من إبراهيم عليه السلام الحَلِيم الأَوَّاه المنِيب.. ومن زوجه هاجر التي ما إن علمت أن تركها ورضيعها إسماعيل في الأرض المقفرة إنما هو إرادة الله تعالى ومشيئته وأمره حتى استسلمت وقالت كلمة اليقين "إِذَنْ لا يُضَيِّعُنَا". ولم يضيعهم الله تعالى وساق إليهم القبائل العربية ليكونوا لهم أنيساً ونسباً وصهراً بعد أن أكرمها الله تعالى بالماء الذي لا ينضب ولا يجف مدى الدهر "زمزم". وصدق الحق ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا*وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ ]سورة الطلاق 2-3[.
[6]. دعا إبراهيمُ، عليه السلام، ربَّه بعد أن أقامَ البيتَ الحرامَ (الكعبة)، فقال: رب إنني أسكنتُ أُناساً من أبنائي وذريتي بهذا الوادي الذي لا زرع فيه، عند بيتك الحرام، الذي أمرتني بإقامته فأقمته، وقد جعلته مُحَرَّماً ليتمكن أهله من إقامة الصلاة عنده، فاجعل جماعات من الناس تأتي إليهم ﴿أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾، ومعهم الأرزاق والمِيرة والثمرات ليأكلوا منها، وليكون ذلك عوناً لهم على طاعتك وشكرك. وقد استجاب الله تعالى لدعاء إبراهيم، عليه السلام، ففرض على الناس الحجَّ إلى البيت الحرام، وألهمهم القيام بذلك، وقال تعالى ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا﴾ تهوي إليهم - تسرع إليهم شوقاً ووِداداً. ]أيسر التفاسير: أسعد حومد[.
[7] . جرهم من اليمن. وهي طائفة من العرب العاربة من أمم العرب الأقدمين.
[8] . هذا من أخلاق العرب السامية إذ ذاك؛
فقد كانوا قادرين على غصْب الماء من هاجر وحدها ولكن الشهامة العربية
تحجزهم عن ما يخدش هذه الشهامة الأصيلة في الدم العربي الأصيل، هذا الخُلق
يفتقر إليه كثير من عرب هذا الزمان لفقدهم الأصالة العربية ولغيابهم عن
أصول أخلاق دينهم الذي ما بُعث خاتم النبيين محمد إلا
لييكمله ويتمه ويرسِّخه (إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق).
[9] . قيل عن تسعين عاماً، ودفنها إسماعيل -عليه السلام- بجانب بيت الله الحرام ودُفن إسماعيل بجوار أمه.
[10] . نعم الطاعة والبر والأدب .. فالزوجة هاجر المؤمنة أطاعت زوجها فى طاعته لله عندما تركهما فى الصحراء .. ثم يخرج الابن البار الطائع لأبيه إسماعيل عليه السلام: {يا أبت افعل ما تؤمن ستجدنى إن شاء الله من الصابرين} ]سورة الصافات 102[ .. رباه ما أحلى الحياة فى طاعة الله .. نعم حياة السلام والرحابة .. الأسرة كلها تطيع ربها .. الزوجة تطيع زوجها .. الابن يطيع أباه .. الجميع يسير فى كنف الطاعة الآخذة إلى الله .. وبفضل طاعتها تلك ينجيها الله تعالى هي ابنها مما وقعا فيه: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب} ]سورة الطلاق :2-3[.. وها هو المخرج يأتى تلو المخرج.. ماء زمزم تخرج من بين يد الطفل الباكى إسماعيل عليه السلام.. ثم مخرجاً آخر أن يرسل لهما قبيلة جرهم العربية وكانت نعم الجوار لهما .
وقد روى أبو هريرة عن النبي
فى
ثمرات الطاعة أنه قال: «قال ربكم عزَّ وجل: لو أنَّ عبادي أطاعوني لسقيتهم
المطر بالليل، وأطلعت عليهم الشمس بالنهار، ولم أُسمعهم صوت الرعد».. وقال
أبو سليمان الداراني: من صفا صفا له، ومن كدر كُدر عليه، ومن أحسن في ليله
كفى في نهاره.. وقال الفضيل بن عياض: إني لأعصى الله فأعرف ذلك في خلق
دابتي وجاريتي .. هذه
الأخلاق وهذا البر من الأبناء يفقده الآباء في زماننا هذا الذي عمّ فيه
العقوق حتى أصبحت بيوت دور العجزة والمسنين تعجّ بكبار السن الذين لا يتحمل
الأبناء وجودهم بينهم طلباً لرضا زوجاتهم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم.
يحكي لنا النبي
قصة
ثلاثة رجال اضطروا إلى أن يبيتوا
ليلتهم في غارٍ، فانحدرت صخرة من الجبل؛ فسدت
عليهم باب الغار، فأخذ كل واحد منهم
يدعو الله ويتوسل إليه بأحسن الأعمال التي عملها
في الدنيا؛ حتى يفرِّج الله عنهم
ما هم فيه، فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي أبوان
شيخان كبيران، وكنت أحضر لهما اللبن
كل ليلة ليشربا قبل أن يشرب أحد من أولادي،
وتأخرت عنهما ذات ليلة، فوجدتُهما
نائمَين، فكرهت أن أوقظهما أو أعطي أحدًا من
أولادي قبلهما، فظللت واقفًا - وقدح
اللبن في يدي - أنتظر استيقاظهما حتى طلع الفجر،
وأولادي يبكون من شدة الجوع عند
قدمَيَّ حتى استيقظ والديَّ وشربا اللبن، اللهم
إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك ففرِّج
عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، وخرج الثلاثة
من الغار].القصة من حديث
متفق عليه[.
بر الوالدين: هو الإحسان إليهما، وطاعتهما، وفعل الخيرات لهما، وقد جعل الله للوالدين منزلة عظيمة لا تعدلها منزلة، فجعل برهما والإحسان إليهما والعمل على رضاهما فرض عظيم، وذكره بعد الأمر بعبادته، فقال جلَّ شأنه: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء: 23،24[. وقال تعالى: ﴿وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾]النساء: 36[. وقال تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ [لقمان: 14[.
بر الوالدين بعد موتهما: المسلم يبر والديه في حياتهما، ويبرهما بعد موتهما؛ بأن يدعو لهما بالرحمة والمغفرة، وينَفِّذَ عهدهما، ويكرمَ أصدقاءهما.
يُحكى أن رجلاً من بني سلمة
جاء إلى النبي
فقال:
يا رسول الله، هل بقي من بر أبويّ شيء أبرُّهما به من بعد
موتهما؟ قال: (نعم. الصلاة عليهما (الدعاء)،
والاستغفار لهما، والإيفاءُ بعهودهما من
بعد موتهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا
توصل إلا بهما) [ابن
ماجه[.
وحثَّ الله كلَّ مسلم على الإكثار من الدعاء لوالديه في معظم الأوقات،
فقال: ﴿ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم
الحساب﴾ [إبراهيم: 41]، وقال: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾ ]نوح:
[28.
فضل بر الوالدين:
بر الوالدين له فضل عظيم، وأجر كبير عند
الله - سبحانه-، فقد جعل تعالى برَّ الوالدين من
أعظم الأعمال وأحبها إليه، فقد سئل
النبي :
أي العمل أحب إلى الله؟ قال: (الصلاة على
وقتها).
قال: ثم أيّ؟ قال: (ثم بر الوالدين). قال: ثم أيّ؟ قال:
(الجهاد في سبيل
الله) [متفق عليه]. ومن فضائل بر الوالدين:
رضا الوالدين من رضا الله: المسلم
يسعى دائمًا إلى رضا والديه؛ حتى ينال رضا ربه،
ويتجنب إغضابهما، حتى لا يغضب الله.
قال
:
(رضا الرب في رضا الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد)
]الترمذي]، وقال
:
(من أرضى والديه فقد أرضى الله، ومن أسخط
والديه فقد أسخط الله) [البخاري[.
الجنة تحت أقدام الأمهات: جاء
رجل إلى النبي
يريد
الجهاد، فأمره
أن
يرجع ويبر أمه،
فأعاد الرجل رغبته في الجهاد، فأمره
أن
يرجع ويبر أمه. وفي
المرة الثالثة، قال له
:
(ويحك! الزم رِجْلَهَا فثم
الجنة) [ابن ماجه[.
الفوز بمنزلة المجاهد: جاء
رجل إلى رسول الله فقال:
إني أشتهي الجهاد، ولا أقدر عليه. فقال
:
(هل بقي من
والديك أحد؟). قال: أمي. قال: (فاسأل الله في برها،
فإذا فعلتَ ذلك فأنت حاجٌّ
ومعتمر ومجاهد) [الطبراني[.
وجاء رجل إلى النبي
فاستأذنه
في الجهاد،
فقال
:
(أحيُّ والداك؟). قال: نعم. قال
:
(ففيهما فجاهد) [مسلم[.
وأقبل رجل على رسول الله
،
فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد؛ أبتغي الأجر
من الله، فقال
:
(فهل من والديك أحد حي؟). قال: نعم. بل كلاهما.
فقال
:
(فتبتغي
الأجر من الله؟). فقال: نعم. قال
:
(فارجع إلى والديك، فأَحْسِنْ
صُحْبَتَهُما) [مسلم[.
الفوز ببرِّ الأبناء: إذا كان
المسلم بارًّا بوالديه
محسنًا إليهما، فإن الله تعالى سوف يرزقه أولادًا
يكونون بارين محسنين له، كما
كان يفعل هو مع والديه، روي أن النبي
قال:
(بِرُّوا آباءكم
تَبرُّكم أبناؤكم، وعِفُّوا تَعِفُّ نساؤكم) [الطبراني
والحاكم[.
الوالدان المشركان: كان سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - بارًّا بأمه، فلما أسلم قالت له أمه: يا سعد، ما هذا الذي أراك؟ لتدعن دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتُعيَّر بي، فيقال: يا قاتل أمه. قال سعد: يا أمه، لا تفعلي، فإني لا أدع ديني هذا لشيء. ومكثت أم سعد يومًا وليلة لا تأكل ولا تشرب حتى اشتد بها الجوع، فقال لها سعد: تعلمين -والله- لو كان لك مائة نَفْس فخرجَت نَفْسًا نَفْسًا ما تركتُ ديني هذا لشيء، فإن شئتِ فكُلِي، وإن شئتِ فلا تأكلي.
فلما رأت إصراره على التمسك بالإسلام أكلت. ونزل يؤيده قول الله تعالى: ﴿وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفًا﴾ [لقمان: 15]. وهكذا يأمرنا الإسلام بالبر بالوالدين حتى وإن كانا مشركين.
وتقول السيدة أسماء بنت أبي
بكر - رضي الله
عنها -: قدمت على أمي وهي مشركة في عهد رسول الله
،
فاستفتيتُ
رسول الله
،
قلت: إن أمي قَدِمَتْ وهي راغبة (أي طامعة فيما عندي
من بر)، أفَأَصِلُ أمي؟ فقال
:
(نعم، صلي أمَّكِ) [متفق
عليه[.
عقوق الوالدين: حذَّر الله تعالى المسلم من عقوق الوالدين، وعدم طاعتهما، وإهمال حقهما، وفعل ما لا يرضيهما أو إيذائهما ولو بكلمة (أف) أو بنظرة، يقول تعالى: ﴿فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريمًا﴾ [الإسراء: 23[. ولا يدخل عليهما الحزن ولو بأي سبب؛ لأن إدخال الحزن على الوالدين عقوق لهما، وقد قال الإمام علي -رضي الله عنه-: مَنْ أحزن والديه فقد عَقَّهُمَا.
جزاء
العقوق:
عدَّ عقوق
الوالدين من كبائر الذنوب، بل من
أكبر الكبائر، وجمع بينه وبين الشرك بالله، فقال
:
(ألا أنبئكم
بأكبر الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين...)
[متفق عليه[.
والله تعالى يعَجِّل عقوبة
العاقِّ لوالديه في الدنيا، قال :
(كل الذنوب
يؤخِّر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا عقوق
الوالدين، فإن الله يعجله لصاحبه
في الحياة قبل الممات) [البخاري[.
[11] . القناعة... سرٌّ من أهم أسرار السَّعادة الزَّوجيَّة؛ إنَّه الكنز الَّذي يمنح صاحبه عزًّا بغير مالٍ وقوَّةٍ بغير سلطانٍ؛ إنَّه الدَّعامة الأقوى والرَّكيزة الكبرى لضمان السَّكن الزَّوجي والاستقرار الأسري الَّذي تنعم فيه العائلة بالغنى والرِّضا والسَّعادة والأمان...
إذا ما كنت ذا قلبٍ قنوعٍ = فأنت ومالك الدُّنيا سواء
الزَّوجة القنوعة تنظر إلى داخل بيتها لا إلى خارجه تهيئ فيه أسباب الرَّاحة وتفجر ينابيع الحنان وتفتش عن سبل السَّعادة فتجعل من بيتها مملكة ينعم فيها أميرها ومليك عمرها.. بيتها في عينها.. أثاثه فاخر، ومقعده وثير، حتَّى ولو كان متواضعًا في نظر غيرها.. أولادها هم ذهبها وجواهرها الثَّمينة؛ بل هم أغلى من كنوز الدُّنيا بأكملها.. إنَّها تحبُّ حياتها بكلِّ ما فيها.. ولا يملأ أحد عينها غير فارسها وتوأم روحها.. و كيف تنظر إلى أحدٍ غيره؟! وليس في العالم كلّه من يصلح زوجًا لها أفضل منه! أليست هذه المرأة سعيدة بحقٍّ؟! صدق الله إذ يقول: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}]الرُّوم: 21[
تأمَّلي يا سيدتي كيف تزوجت الطَّاهرة بنت الصِّديق أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- تقول -رضي الله عنها-: "بَنى بي رسول الله، ما نُحِرت عليَ جزور ولا ذُبحت عليَ شاة"، وتجهز أم العروس ابنتها وتقول: "أهلك يا رسول الله، وتدعو لهما بالبركة".
في غرفةٍ متواضعةٍ سقفها من جريد النَّخل ليس فيها أثاثٌ فاخرٌ ولا طلاءٌ زاهرٌ ولا زخارفُ مبهرةٌ أو تحفٌ نادرةٌ، ولكنَّ السَّعادة الَّتي تغمر القلوب، والقناعة الَّتي تعمر النُّفوس، أحالت هذا المكان إلى واحةٍ فيحاء وروضةٍ غناء، بهذه البساطة دخل أكرم زوجين وأشرف عروسين وعاشا أسعد حياة في جوِّ من راحة البال وهناءة العيش.
وانظري إلى فاطمة بنت رسول
الله سيدة
نساء أهل الجنَّة كيف تزوَّجت؟!
روى البيهقي عن علي -رضي الله
عنه- قال: »أنَّ
رسول الله أتى
عليًّا وفاطمةً وهما في خميل لهما والخميل القطيفة البيضاء من الصُّوف، قد
كان رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- جهَّزهما بها ووسادةً محشوةً
إذخرًا (حشائش) وقربةً (وعاء للماء)«
]رواه ابن ماجه 3366
وصحَّحه الألباني] ومهَرَها علي -رضي الله عنه-
بدرعٍ تقدر قيمته بأربعة دراهم.
هؤلاء هم سادة الدُّنيا وملوك الآخرة، فهموا هذه الحياة على حقيقتها، فتعلقت قلوبهم بالآخرة، وتطلعوا إلى ما عند الله.
انتبهي يا سيدتي، إنَّها ليست دعوةٌ للحرمان والتَّقشُّف، ولكنَّها دعوةٌ للرِّضا والقناعة، والسُّمو فوق مظاهر الدُّنيا الكاذبة وبريقها الخادع، فكم من زيجات اشترطت أغلى المهور وأقامت أعظم الأحفال، ودخلت على أفخر الأثاث، فما جلبت لهم هذه الأشياء الحبّ والسَّعادة ولا حققت لهم الطَّمأنينة والأمان.
واحذري يا سيدتي.. فلا تطالبي زوجك بما فوق طاقته، واصبري على معيشته، واطردي الأوهام الزَّائفة الَّتي تكدِّر صفو حياتك، فكلّ متاع الدُّنيا يزول، ولا يبقى لك إلا رَجُلك، وشريك حياتك وحبيب عمرك، الَّذي اخترتِه لنفسك ليكون لك قرينًا وفيًّا في الدُّنيا، وصاحبًا دائمًا في الآخرة {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ}]الزُّخرف: 70[.
وزوجة المرء عونٌ يستعين بها
مسلاة فكرته إن بات في كدرٍ
في الحزن فرحته تحنو فتجعله
إن عاد للبيت يلقى ثغر زوجته
فزوجها ملك والدَّار مملكة
هذي القرينة هذي من تحنُّ لهاعلى الحياة ونورٌ في دياجيها
مدت له لتواسيه أياديها
ينسى بذلك آلامًا يعانيها
يفترُ عما يسرُّ النَّفس يشفيها
والحبُّ عطرٌ يسري في نواحيها
نفس الأبي ولكن أين نلقيها؟
إنَّ كثيرًا من الزَّوجات
أنعم الله عليهنَّ بالحياة الرغدة، والبيوت الفخمة، والسَّيارات الفارهة،
والأموال الكثيرة، لكنَّ بعضهنَّ للأسف حرمن هذه النِّعمة، نعمة الرِّضا
والقناعة، فلم يذقن طعم السَّعادة على حقيقتها، وأصبحت الواحدة منهنَّ
أسيرةً للمظاهر والشّكليات، تطلعاتها لا تتوقف عند حدٍّ، طلباتها لا تنتهي
أبدًا، فعاشت في فقرٍ وعناءٍ، وحرمانٍ وشقاءٍ، مع ما لديها من مالٍ كثيرٍ!
في ظاهرها أنَّها منعَّمةٌ مترفةٌ، وحقيقة أمرها أنَّها مكتئبةٌ تعيسةٌ،
وصدق حين
قال» ليس الغنى عن كثرة
العرض، ولكن الغنى غنى النَّفس«
]رواه البخاري 6446 ومسلم 1051
[
أمَّا الزَّوجة القنوعة
فإنَّها تعيش غنيَّة النَّفس، هانئة الحال، هادئة البال، سواءً قلَّ من
الدُّنيا نصيبها أو كثر، لا تتطَّلع إلى ما عند الآخرين، ولا تشتهي ما ليس
عندها، محبوبة عند الله، وهي كذلك محبوبة عند النَّاس؛ مصداقًا لقول
النَّبيِّ :
»ازهد في الدُّنيا يحبُّك الله،
وازهد فيما في أيدي النَّاس يحبُّك النَّاس«
]صحَّحه الألباني 922 في صحيح
الجامع[
أهم ما يشغلها في الحقيقة حالها مع ربِّها، تحزن وتكتئب إن قصرت في إرضائه -سبحانه-...
وتفرح وتنشرح بما وفَّقها الله لطاعته ومرضاته، وبما غمرها من فضله ورحمته...
{قُلْ بِفَضْلِ اللَّـهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ }]يونس: 58[
[12]. تكرار السؤال من إسماعيل عليه السلام نتعلم منه أن للرجل أن يسأل عن حال بيته وزواره في غيبته، وأن على الزوجة أن تخبره وتصدُقَه ولا تخفي عنه شيئاً، إنها أمانة ورعاية ومسؤولية على المرأة فكما أن الرجل راع فالمرأة راعية والتكامل والتعاون من لوازم القيام بأعباء البيت والأسرة.
[13]. إن صبر المرأة على زوجها من أعظم القربات وأجل الطاعات، وأنها ستكون من الذين يوفَّون أجرهم بغير حساب يوم القيامة، فالله وعد الصابرين بأنه معهم وبشرهم بأنه يحبهم، وأن مقامهم عندهم في أعلى المقامات في الجنة بإذن الله، وصبر المرأة على زوجها هو نوع من أنواع الصبر العظيم الأجر، فإن مجرد خدمة المرأة لزوجها وتربيتها لأولادها يعدل الجهاد في سبيل الله، فما بالك لو كان الزوج يسيء العشرة وصبرت عليه ولم تقصر في حقه؟ قطعاً سيكون أجرها أعم وثوابها أتم وأفضل.
[14]. ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ*رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ*رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾]البقرة 127-129[.