عاقبة صبر المؤمن على الشدّة فرج كريم
الشيخ عبدالفتاح أبو غدة
روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة، ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة".
لقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الشريف أن الابتلاء في هذه الحياة الدنيا سنة الله تعالى في عباده الأخيار، يبتليهم على قدر ما أتاهم من قوة إيمان، ومتانة صبر، وسعة رضا، فما يخلو مؤمن من ابتلاء، وليس من علامة إيمان المؤمن أن لا يبتلى، وأن لا تنزل به المصائب والشدائد لحسن إيمانه بالله تعالى، بل أفاد الحديث الشريف أن الابتلاء أشد ما يكون في الأنبياء: الذين هم أكمل الناس إيماناً، وأرجحهم عقيدة ويقيناً، وأقواهم صبراً ورضاء، ثم يليهم في الابتلاء الأمثل فالأمثل أي الأشرف فالأشرف، والأول فالأول.
وقد يوسوس الشيطان لبعض الناس المؤمنين إذا نزلت به مصيبة، أو حلت به كارثة ثقيلة، أن إيمانه بالله تعالى لا يقتضي أن يصاب بما أصيب به من شدة أو محنة أو بلاء.
وما هذا إلا من وسوسة الشيطان الذي يستضعف الإنسان في حال حلول المصيبة عليه، فيدغدغ في إيمانه ويقينه، ليضعفه ويستولي عليه إن استطاع.
والمؤمن الحق يعلم تمام العلم أن المصائب والشدائد التي تعرض له لا تنافي متانة إيمانه، وقوة يقينه، وعميق رضاه، بل هي من علامة الإيمان كما أشار إلى ذلك الحديث المذكور.
ولقد حدث لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد دخولهم في الإسلام ومفارقتهم للكفر وأهله شدائد ومحن تشيب لهولها النواصي، فما استكانوا وما ضعفوا، وما زادهم ذلك إلا إيماناً وتثبيتاً، وكان لهم من الله أطيب العون والكرامة.
وأسوق للقراء الكرام نموذجاً من ذلك من حياة الصحابية الجليلة أم شريك الأنصارية، حيث أسلم زوجها وأسلمت معه، قال ابن سعد في "الطبقات الكبرى": أسلم زوج أم شريك، وهي غزية بنت جابر الدوسية من الأزد، وهو أي زوجها: أبو العكر، فهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي هريرة من دوس حين هاجروا.
قالت أم شريك: فجاءني أهل أبي العكر فقالوا: لعلك على دينه؟ قلت: إي والله إني لعلى دينه، قالوا لا جرم والله لنعذبنك عذاباً شديداً، فارتحلوا بنا من دارنا، ونحن كنا بذي الخَلَصة وهو من صنعاء –اليمن-، فساروا يريدون منزلاً، وحملوني على جمل ثفال – أي بطيء - شر ركابهم وأغلظه، يطعموني الخبز بالعسل، ولا يسقوني قطرة من ماء حتى إذا انتصف النهار وسخنت الشمس ونحن قائظون – أي في أشد أيام الحر والقيظ - نزلوا فضربوا أخبيتهم – أي خيامهم - وتركوني في الشمس، حتى ذهب عقلي وسمعي وبصري، ففعلوا بي ذلك ثلاثة أيام، فقالوا لي في اليوم الثالث: اتركي ما أنت عليه، قالت: فما دريت ما يقولون إلا الكلمة بعد الكلمة، فأشير بإصبعي إلى السماء بالتوحيد.
فوالله إني لعلى ذلك، وقد بلغني الجهد – أي التعب الشديد والتهالك من العطش وشدة الحر- إذ وجدت برد دلو على صدري، فأخذته فشربت منه نفساً واحداً ثم انتزع مني، فذهبت أنظر فإذا هو معلق بين السماء والأرض فلم أقدر عليه، ثم دلي إلي ثانية فشربت منه نفساً ثم رفع، فذهبت أنظر فإذا هو بين السماء والأرض، ثم دلي إلي الثالثة فشربت منه حتى رويت وأهرقت – أي صببت- على رأسي ووجهي وثيابي.
فخرجوا فنظروا فقالوا: من أين لك هذا يا عدوة الله؟! فقلت لهم: إن عدوة الله غيري من خالف دينه، وأما قولكم: من أين هذا؟ فهذا من عند الله رزقاً رزقنيه الله تعالى، فانطلقوا سراعاً إلى قربهم وإداواهم – أوعية مائه م- فوجدوها موكأة – مربوطة - لم تحل، فقالوا: نشهد أن ربك هو ربنا، وأن الذي رزقك ما رزقك في هذا الموضع، بعد أن فعلنا بك ما فعلنا: هو الذي شرع الإسلام، فأسلموا جميعاً وهاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا يعرفون فضلي عليهم وما صنع الله إلي" انتهى.
فانظر أيها القارئ الكريم: كيف يفتح الابتلاء على الإيمان بالله أقفال القلوب؟ وكيف يأتي الصبر على المحن بالفرج والتكريم من علام الغيوب؟
وهذه امرأة ضعيفة مستضعفة، ابتليت بسبب إيمانها فصبرت، حق الصبر، فكان لها أفضل الذكر وعظيم الأجر، آمنت قبيلتها بسببها، ودخلوا في دين الله تعالى بفضلها، وإن ابتلاء الأخيار بالأشرار سنة الله في عباده الأنبياء والمرسلين في هذه الدار.
فمن ظن من الناس أن شدة البلاء هوان بالعبد، فقد ظن غلطاً وارتكب شططاً، فقد ابتلي من أكابر هذه الأمة المحمدية ما لا يحصى، ألا ترى إلى قتل الخلفاء الثلاثة الراشدين: عمر، وعثمان، وعلي –رضي الله عنهم- ثم ما وقع بالحسين وابن الزبير وابن جبير، ثم إلى ما لقي الأئمة المتبوعون، فقد ضرب أبو حنيفة، وحبس وجر مالك، وضرب بالسياط وجذبت يده حتى انخلعت من كتفه، وضرب أحمد بن حنبل حتى خلعت يداه وأغمي عليه، وهكذا غيره من العلماء والصالحين لقوا الابتلاءات الشداد من الأشرار في هذه الدار.
فيا أيها الإخوة الأعزاء والمؤمنون الأمناء إذا نزلت بكم المحن أو ألمت بكم الشدائد، فلا تهنوا ولا تضعفوا، "اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون"، "والعاقبة للمتقين".
وحذار أن يفهم فاهم خطأ وغلطاً من أن المؤمن مبتلى، وأن الابتلاء سنة الأنبياء والصديقين والمؤمنين والصالحين: أنه ينبغي للإنسان أن يستسلم للمحن، ويصبر على الظلم والعدوان، والبغي عليه من أهل الباطل والطغيان، كلا، وإنما معنى أنه مبتلى أي معرض للابتلاء والشدائد، بسبب إتباعه الحق ودعوته إليه، واجتنابه الباطل، وتحذيره منه، فهو في صراع دائم مع الباطل وأهله ودعاته ومروجيه.
فالمؤمن من حق إيمانه عليه – إذا ابتلي صبر، وإذا أنعم عليه شكر، وإذا ناصبه الأعداء المبطلون تغلب عليهم وانتصر، فقد جاء في صفات المؤمنين الذين أثنى الله عليهم قوله سبحانه "والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون".
فلا يصح أن يفهم غلطاً أن المؤمن من صفته الصبر على الذل والهوان، والاستسلام والاستكانة، بل من صفته مدافعة الباطل بالحق ومقاومة الشر بالخير.
قال السيد الجليل والإمام النبيل الشيخ عبد القادر الجيلاني – رحمه الله -: ليس الرجل الذي يسلم – أي يستسلم- للأقدار بل الرجل الذي يدفع الأقدار بالأقدار، وفي رواية ثانية عنه قال: نفر من القدر الفاضل إلى القدر المفضول.
وقد صدق رحمه الله تعالى، وشاهد صدق قوله هذا قول سيدنا عمر – رضي الله عنه - لأبي عبيدة بن الجراح – رضي الله عنه - لما نزل بجند المسلمين بقرب البلد الذي نزل فيه الطاعون، وعزم على الدخول فيه، فمنعه عمر من الدخول فيه، وأمره بالابتعاد عنه، فقال أبو عبيدة: أفراراً من قدر الله؟ فقال له عمر: نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، فالاعتداء على المسلم ابتلاء وقدر، ودفعه الاعتداء عليه أيضاً قدر.