الدعاء والبلاء ونصر الله 3-4-5
الدعاء والبلاء ونصر الله
مجاهد مأمون ديرانية
(الحلقة الثالثة)
قلت في الحلقة السابقة أن الدعاء لا يستجاب كله حتماً، بل أقلّه على التحقيق، وهذا أمر يُستدَل عليه بالمنطق وبالمشاهدة كما أوضحت. إذا كان الأمر كذلك فأين نذهب بقول الله تبارك وتعالى ووعده لعباده: {ادعوني أستجب لكم}، وبالآيات الأخرى التي تَعِد الداعين بالاستجابة؟
الآن نعود إلى ما قلناه آنفاً عن الصلاة. ألم نتفق على أن الصلاة -وهي عبادة كالدعاء- لا تُفهَم الفهمَ الكامل الصحيح إلا إذا جمعنا ما ورد بشأنها في القرآن والسنّة جميعاً؟ إذا قرأنا آيات الصلاة في القرآن أدركنا أن الصلاة فريضة من أعظم الفرائض وأنها ركن الدين الركين، لكنّا لن نعرف هيئتها وصفتها وشروطها وأوقاتها وعدد ركعاتها إلا من السنّة النبوية الشريفة، والدين يؤخَذ من المصدرين، ألم يقل الله في قرآنه الكريم: {ما آتاكمُ الرسولُ فخُذوه} ويقل النبي عليه الصلاة والسلام: "لا ألفيَنّ أحدَكم متكئاً على أريكته، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه. ألا وإني أوتيت القرآن ومثلَه معه"؟
فكما أخذنا جزءاً كبيراً من علمنا بالصلاة من السنّة فإننا أيضاً نأخذ منها جزءاً كبيراً من علمنا بالدعاء. ماذا نجد في السنّة عن إجابة الدعاء؟ باب الدعاء في كتب الحديث كبير كبير، حتى إنه يستغرق في "جامع الأصول" أكثر من مئة وخمسين صفحة، فلا تتوقعوا أن أسرد أحاديثه جميعاً وإلا لتحولت هذه المقالات إلى كتاب عن الدعاء، إنما يهمني بعضها الذي له علاقة بموضوعنا الذي نبحثه، يهمني ما ورد من أحاديث تكمل وتفصل آيات الدعاء وتزيل ما بدا فيها من لبس، فتعالوا نستعرضها معاً.
(1) يقول لنا أحد الأحاديث الصحيحة إن الداعي مكلَّف بأن يجتهد في الدعاء، ولكن عليه أن يدرك أن الله يستجيب دعاءه إن شاء، وإن شاء أن لا يستجيب فلن يستجيب. أخرج البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، ارحمني إن شئت، ارزقني إن شئت. وليعزم مسألته؛ إن الله يفعل ما يشاء، لا مُكرِه له". وفي لفظ مسلم: "فإن الله صانع ما شاء، لا مكرِه له". الشاهد في قوله: الله يفعل ما يشاء، أو: الله صانع ما شاء، لا مُكرِهَ له.
المعنى نفسه نجده في حديث صحيح آخر، حينما وصف لنا النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أنواع من الناس يشهدون الجمعة، قال: "يحضر الجمعة ثلاثة نفر"، ذكر منهم: "رجل حضرها بدعاء، فهو رجل دعا الله، إن شاء أعطاه وإن شاء منعه" (رواه عبد الله بن عمرو بن العاص وصححه الألباني في صحيح الترغيب).
(2) يخبرنا حديث آخر صحيح أن موافقة بعض الساعات يوجب الإجابة، وبمفهوم المخالفة يَضِح لنا أن عدم موافقتها قد يعني عدم الإجابة أو تأخرها. عن جابر بن عبد الله قال: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بطن بواط... ثم ذكر رجلاً من الأنصار لعن بعيراً له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من هذا اللاعن بعيرَه؟" قال: أنا يا رسول الله. قال: "انزل عنه، فلا تصحبنا بملعون". ثم قال صلى الله عليه وسلم (وهنا موضع الشاهد): "لا تَدْعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعةً يُسأل فيها عطاء فيستجيب لكم" (أخرجه مسلم وأبو داود). فدلّ الحديث على أنها ليست كل ساعة ساعةَ إجابة.
(3) الحديثان السابقان يدلان على أن الله ربما استجاب الدعاء وربما لم يستجبه، وعلى أن بعض الأدعية يوافق ساعة إجابة فيُجاب وبعضها لا يوافق الساعة فلا يُجاب. ولكنهما يخالفان -بهذا الفهم- صريحَ القرآن، لأن الله تبارك وتعالى يقول في القرآن: {ادعوني أستجب لكم} ويقول: {أجيب دعوة الدّاعِ إذا دعانِ}، فكيف يتعهد الله بإجابة الدعاء ثم يقول: إن شئت أجبت وإن شئت لم أُجِبْ؟ وكيف يَعِدُ الله بالإجابة مطلقاً ثم نجد أن الدعاء يُجاب في بعض الساعات ولا يُجاب في غيرها؟
الجواب في الحديث الآتي الذي أثبتَ الاستجابة وأكّد الآيات المحكمات، ولكنه فصّل أكثر فقال: نعم، الدعاء يُستجاب حتماً، ولكنه قد يستجاب معجَّلاً وقد يستجاب مؤجَّلاً، فإذا كانت في إجابته فسحة فإن التأخر في الإجابة نوع من الإجابة. انظروا إلى هذا المعنى في الحديث الذي يرويه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يُستجَب لي" (أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وأحمد ومالك في الموطأ). وفي لفظ مسلم: "لا يزال يُستجاب للعبد ما لم يَدْعُ بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل". قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال: "يقول: قد دعوت وقد دعوت فلم أرَ يستجيب لي، فيستحسر عند ذلك ويَدَع الدعاء".
* * *
(4) لكن ليس كل الأدعية يحتمل الانتظار. إن لانتصار الثورة في سوريا أجلاً سيأتي بإذن الله، لا يشك في ذلك إلا من يشك في صدق وعد الله، لكنْ حتى ذلك الحين سيموت كثيرون ويعذَّب كثيرون وتُنتهَك حرمات وتُقصَف مدن وتُهدَّم بيوت، ولسوف يدعو الناس بالنصر والفرج كما لا يزالون يدعون منذ حين، فأين يذهب دعاء الناس؟ الجواب في حديث رسول الله عليه صلاة الله. يقول لك يا أيها المحزون: دعاؤك لن يضيع، فإما أن يتحقق في الدنيا ولو بعد حين، أو يتأخر كثيراً حتى يفوت وقته ولا تعود له فائدة، وعندئذ سيأتيك العِوَض في الحياة الباقية، ونِعمَ العوض، وما أحوجَنا يومئذ إليه في تلك الحياة الأخرى.
اسمعوا يا عباد الله: "ما من رجل يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يعجّل له دعوته، أو يدّخر له من الخير مثلها (أي في الآخرة)، أو يصرف عنه من الشر مثلها". قالوا: يا رسول الله، إذن نكثر؟ قال: "الله أكثر" (الحديث رواه أبو سعيد الخدري وأخرجه الألباني في شرح الطحاوية وقال: صحيح).
في هذا الحديث النفيس يشرح لنا نبينا الأكرم -عليه الصلاة والسلام- معنى الاستجابة فنجد أنها على ثلاثة أنواع كلها تسمى إجابة: تحقيق الدعاء بالصورة التي يطلبها الداعي، أو تعويضه في الدنيا بصرف شرّ يكافئ في حجمه الخيرَ الذي دعا به، أو تعويضه بما هو خير منه في الآخرة. فعَدّ التعويض نوعاً من الاستجابة، وبهذا التأويل يكون كل دعاء لكل عبد مسلم مستجاباً حتماً، استجابة معجَّلة أو عِوَضاً مؤجَّلاً.
المعنى الذي يقدمه هذا الحديث هو لُبّ الموضوع، وقد رواه عدد من الصحابة بألفاظ متقاربة تؤدي كلها المعنى نفسه، وهذه بعض رواياته الصحيحة: عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من أحد يدعو بدعاء إلا آتاه الله ما سأل أو كَفّ عنه من السوء مثله، ما لم يدعُ بإثم أو قطيعة رحم" (أخرجه السيوطي في الجامع الصغير وقال: حديث حسن، وتابعه الألباني في صحيح الجامع وصحيح الترمذي). ومثله عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه الله تعالى إياها، أو صرف عنه من السوء مثلها، ما لم يدعُ بإثم أو قطيعة رحم". قال رجل من القوم: إذن نكثر. قال: "الله أكثر" (أخرجه الألباني في صحيح الترمذي وفي صحيح الترغيب وقال: حسن صحيح). وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من رجل يدعو الله بدعاء إلا استُجيب له، فإما أن يعجَّل له في الدنيا، وإما أن يُدّخَر له في الآخرة، وإما أن يكفَّر عنه من ذنوبه بقَدْر ما دعا، ما لم يدعُ بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل". قالوا: يا رسول الله، وكيف يستعجل؟ قال: "يقول: دعوت ربي فما استجاب لي" (أخرجه الترمذي، قال الألباني: صحيح دون قوله: "وإما أن يكفّر عنه من ذنوبه بقدر ما دعا").
نعم، إن من الأدعية ما لا يُستجاب أبدَ الحياة، ولكن هل معنى هذا أن الداعي خسر دعاءه وأن ما بذله من جهد ووقت في الدعاء ضاع بلا فائدة؟ لا، ولو كُشف الغطاء واطّلع العبد المؤمن على الغيب لفرح بالدعاء الذي لا يستجاب أكثرَ من فرحه بالذي يستجاب منه، لأنه خير مؤجَّل مرحَّل إلى عالم الآخرة، إلى حيث يشتري المرء عذاب الدنيا بطولها من أجل لحظة من لحظات النعيم.
(5) ولكن الداعي المكروب الذي يمدّ يديه إلى السماء وهو في أشدّ حالات الضيق والاضطرار لا يريد سوى إجابة الدعاء، وكلما تأخرت الاستجابة طال عليه الكرب وزادت المعاناة. فكيف يمكن إقناع امرئ هذه حالُه بأن في تأخير الاستجابة خيراً؟ الذين يقصف جيش الاحتلال الأسدي في سوريا أحياءهم وقراهم، الذين تستبيح عصابات الأمن والشبيحة بيوتهم وحرماتهم، الذين يُعتقَلون ويعذَّبون ويتساقطون شهداء... هؤلاء كيف لنا أن نُطَمْئن قلوبَهم ونهدئ خواطرهم وهم يدعون دعاء المكروب المضطر فلا يستجاب لهم الدعاء؟
انظروا -يا أيها الصابرون على البلاء- إلى هذا الحديث العجيب: يقول نبيكم عليه أفضل الصلاة والسلام: "سَلُوا الله من فضله، فإن الله يحب أن يُسأل من فضله، وأفضل العبادة انتظار الفرج". يا الله ما أكرمك! لقد قدّرتَ المقادير وحكمت بتأخير استجابة الدعاء لحكمة أنت أعلم بها، ولكنك لم تبخل على عبادك بالأجر والثواب، بل اعتبرت صبرهم بانتظار فرجك واستجابتك رباطاً وعبادة، بل من أفضل العبادة، وأجريت لهم أجر العابدين وأجر الصابرين. اللهم لك الحمد.
* * *
لكن لماذا هذا كله؟ لماذا لا يُستجاب الدعاء من فوره، ولا سيما دعاء المضطر المكروب؟ الجواب في الحلقة القادمة وما بعدها إن شاء الله.
الدعاء والبلاء ونصر الله
(الحلقة الرابعة)
مجاهد مأمون ديرانية
لماذا لا يُستجاب الدعاء من فوره، ولا سيما دعاء المضطر المكروب؟ لماذا لا يتحقق النصر بالدعاء؟ سؤال يلحّ به كثيرون، ولعل أبلغَ ما وصلني تعبيراً عنه رسالةٌ ليست فيها سوى سبع كلمات، أنقلها بنصها: "السلام عليكم. أستاذ مجاهد، لِمَ تأخر النصر؟"
قلت سابقاً إن الدعاء المخلص الصادق يمكن أن يصنع أعاجيب ولكنه لا يحقق المعجزات، بمعنى أنه لا يخالف السنن والقوانين الطبيعية. هذه -فيما أحسب- واحدة من أهم القواعد التي نحتاج إلى إدراكها لفهم مسألة الدعاء وفهم السبب في تأخر النصر. هل تبدو مقنعة؟ ربما يوافقني كثيرون ويخالفني البعض، فإن إقناع كل الناس من المحالات. سأكمل مع الذين اقتنعوا بالقاعدة والذين يتساءلون مع المتسائلين: لماذا تأخر النصر؟ وأقول: تأخر النصر لأن الدعاء لا يحقق المعجزات ولا يخالف قوانين الوجود.
لنتحدث قليلاً عن قوانين الوجود. الذي يتبادر إلى الذهن غالباً هو قوانين الكون الفيزيائية، كقانون الجاذبية. لقد أدرك الناس على الدوام أن الأشياء تسقط إلى الأسفل إذا بقيت حرةً في الفضاء، ولكنها ليست كذلك، ليس هذا هو "القانون"؛ القانون الذي انتظر طويلاً حتى يكشفه أحد عباقرة الدنيا، نيوتن، يقول إن كل جسمين في الكون يجذب أحدُهما الآخَرَ حسب قانون رياضي صارم (يتجاذب الجسمان بقوة تتناسب طردياً مع حاصل ضرب كتلتيهما وعكسياً مع مربع المسافة بينهما). معنى هذا أن التفاحة المشهورة التي سقطت أمام نيوتن لم تسقط إلى الأسفل بالتعبير العلمي، ولكنها سقطت باتجاه مركز الأرض، وهو قد يكون أسفل أو أعلى حسب الجهة التي يراقب منها مراقبٌ خارجَ الأرض تلك الحادثة. والأغرب من ذلك أن الأرض ليست وحدها التي جذبت التفاحة، لقد جذبت التفاحةُ الأرضَ أيضاً، ولكن لأن كتلتها (كمية المادة فيها) أقل بكثير من كتلة الأرض (كمية المادة في الأرض) فإن جذبها لم يكد يؤثر أدنى أثر.
حسناً، لا يهمنا قانون الجاذبية بذاته، ولكن يهمنا أن نقول إن هذا القانون الصارم من قوانين الطبيعة لا يمكن أن يعطّله الدعاء، فلو كنتُ ماشياً في الطريق ومدَدتُ نظري إلى عمارة عالية فتوافقَت لمحتي مع سقوط طفلة صغيرة عن شرفة في الطابق السادس، فلهَج قلبي بالدعاء على الفور: "يا ربّ سلّمْ سلم". هل يمكن أن ينعكس اتجاه سقوطها فترتفع صُعُداً في الفضاء عائدةً إلى حيث كانت؟ لا، هذه المعجزة تخالف القانون ولا يمكن أن تتحقق حتى مع الدعاء. لكن الدعاء الصادق الخارج من أعماق القلب والواثق بالله قد يحقق أعجوبة من الأعاجيب، قد يهيئ مجموعة من الأسباب غير المتوقعة (ولكنها لا تخالف القوانين) فتنجو الطفلة. وقد عرف جدي رحمه الله -عندما كان قاضي دمشق- حادثة اجتمعت فيها هذه الموافقات الغريبة ورواها في كتابه "صور وخواطر"؛ قال إن ابنة صديق له وقعت عن شرفة في الطبقة السادسة، فتلقّتها حبالُ الغسيل الممدودة أمام الشرفة في الطبقة الخامسة فعاقتها قليلاً قبل أن تنفذ منها إلى حبال الطبقة الرابعة، وما زالت تمر من حبال إلى حبال، حتى إذا بلغت الشارع كانت سَقْطتها على كومة من الرمال صبّتها سيارة صباح ذلك اليوم، فوصلتإلى الأرض بسلام لم يصبها أذى.
* * *
إذا قلت إن الدعاء لا يعطل ولا يخالف قوانين الوجود انصرف الذهن إلى القوانين الفيزيائية، من نوع قانون الجاذبية الذي تحدثت عنه آنفاً، لكن مَن قال إن قوانين الوجود كلها من ذلك النوع؟ أين قوانين الحياة التي تتحكم في التكاثر والوراثة والمرض والشفاء والهرم والموت؟ وقوانين الاقتصاد وقوانين الأنفس والمجتمعات؟ كل هذه العوالم لها قوانين، إلا أن قوانين العالم الفيزيائي "قوانين كمّية" يعبَّر عنها عادة بالمعادلات ذات القِيَم الصارمة والمحدَّدة بدقّة، أما قوانين العوالم الإنسانية، الاقتصادية والنفسية والاجتماعية، فإنها "قوانين وصفية" غير كمية. سأضرب مثلاً بأهم قوانين الاقتصاد، وهو قانون "النُّدْرة". يقول القانون إن قِيَم المواد تتناسب طردياً مع ندرتها وعكسياً مع وفرتها، فالهواء مثلاً متوفر في كل مكان لذلك فإنه بلا قيمة، مع أنه من أهم المواد اللازمة لاستمرار الحياة، وبعده الماء، وهو متوفر كثيراً وقيمته زهيدة، وهذه من نعم الله على الناس. بالمقابل فإن الألماس من أغلى المواد لأنه من أندرها وجوداً على الأرض.
كما تلاحظون فإن قانون الندرة لا يمكن أن نصوغه رياضياً (كمياً)، ولكنه -مع ذلك- قانون حقيقي صارم، وهو الركيزة الأساسية لعلم الاقتصاد، وهو الذي يحكم قِيَم المواد والمنتجات (بالاشتراك مع قوانين أخرى أقل جوهرية ليس هنا محل بيانها). ولكنْ مَن جعل الهواء والماء وفيرَين وجعل الألماس نادراً؟ الذي جعلها كذلك هو خالق الألماس والماء والهواء وخالق الكون بما فيه، وقد جعل ما يحتاج إليه الناس في معاشهم وحياتهم وفيراً وجعل ما لا حاجة لهم به نادراً، فالهواء مجاني، والماء كذلك، إنما ندفع قيمة استخراجه من الأرض وتوصيله إلينا، أما الألماس الغالي فإن غلاءه لا يضر أحداً لأنه من الكماليات، بل إنه -ولا تنقلوا هذا عني للسيدات- من أسخف الكماليات في الدنيا. (وأزيدكم نصيحة: يا ليت سيدات الأمة المسلمة يزهدنَ في الألماس لأن صناعته وتجارته في الدنيا كلها محصورة بأيدي اليهود، وإذا لم تصدقوني فابحثوا بأنفسكم).
* * *
الخلاصة المهمة هي أن الكون محكوم كله بقوانين وضعها فيه الخالق يومَ خَلَقه، منها ما عرفنا ومنها ما لم نعرف، ومنها ما يُعبَّر عنه تعبيراً رياضياً بالكميات والأرقام، وهي قوانين الكون الفيزيائية، ومنها ما يعبَّر عنه بقوانين وصفية غير كمية، وهي قوانين الحياة، العضوية والنفسية والاقتصادية والاجتماعية. وهل تعلمون؟ إن القرآن مستودع فيه كنز من تلك القوانين، لولا أن يضيق المقام لحدثتكم عنها إلى الصباح، ولكن ليست هذه المقالة هي الموضع المناسب لها. على أني أحتاج إلى قانون واحد على الأقل فاسمحوا لي بأخذه من الكتاب المُبين، فإنه يساعدني على الجواب عن السؤال الكبير: لماذا تأخر النصر؟
هذا القانون هو "قانون الأجل"، وهو يَطّرد في القرآن بتركيز عجيب. لا أريد أن أكثر من الشواهد وإنما سأكتفي منها بأقل القليل؛ اقرؤوا قوله تعالى: {وما نؤخّره إلا لأجل معدود}، وقوله: {ولكل أمة أجل، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون}، وقوله: {إنّ أجَلَ الله إذا جاء لا يؤخَّر لو كنتم تعلمون}، وقوله: {ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون}. هذه الآيات تقدّم لنا خلاصة قانون الأجل، وهي "أن الفعل لا يتحقق إلا إذا جاء أوانه المكتوب، وأن زحزحته عن موضعه المحدد في الزمان يخالف القانون".
لولا ذلك لما طالت أعمار الظالمين، ولكن الله يمدّ لهم بانتظار الأجل: {ويستعجلونك بالعذاب، ولولا أجلٌ مسمّىً لجاءهمُ العذاب}، {ولولا كلمة سبقت من ربّك إلى أجل مسمّى لقُضي بينهم}، {وكذلك أخْذُ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة... وما نؤخّره إلا لأجل معدود}، {ولئن أخّرنا عنهم العذابَ إلى أمّة معدودة ليقولُنّ ما يحبسه؟ ألا يومَ يأتيهم ليس مصروفاً عنهم}. وليس هذا الأجل مقتصراً على الجماعة العاصية الظالمة، بل إنه يشمل الجماعة الصالحة أيضاً: {ثم توبوا إليه يمتعكم متاعاً حسناً إلى أجل مسمّى}، {يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى}، {أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعونِ، يغفرْ لكم من ذنوبكم ويؤخّرْكم إلى أجل مسمى، إنّ أجَلَ الله إذا جاء لا يؤخَّر لو كنتم تعلمون}.
إذا فهمنا قانون "الأجل" الفهمَ الصحيح أدركنا سرّ تأخر استجابة كثير من دعائنا الذي ندعو به في كل يوم، وأدركنا أيضاً سبب تأخر النصر في سوريا اليوم، وهذا ما سأبحثه في الحلقة القادمة إن شاء الله.
الدعاء والبلاء ونصر الله
(الحلقة الخامسة)
مجاهد مأمون ديرانية
إذا فهمنا قانون "الأجل" الفهمَ الصحيح أدركنا سرّ تأخر استجابة كثير من دعائنا الذي ندعو به في كل يوم، ولعل فهمه سيساعدنا أيضاً على تفسير حديث مهم من أحاديث الدعاء التي قرأناها سابقاً، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "يُستجاب لأحدكم ما لم يَعْجَل". بل إن فهم هذا القانون الذي اطّرد في كثير من الآيات المُحْكمات في كتاب الله المُبين يفتح للمسلمين فتحاً عظيماً في الحياة، لأنهم سيدركون أن العمل الذي لا يثمر اليوم سيثمر غداً إذا حان أجله، فلا يقطعون العمل يأساً ولا يفقدون الأمل مهما طال الطريق. وهو أيضاً مفتاح لفهم وظيفة العمل في الحياة لأن النتائج تأتي من تراكم أعمال فوق أعمال، فإذا قصّر المسلم فقطع العمل لم يقطف الثمرة.
لقد أثار انتباهي -منذ وقت طويل- التركيزُ الشديد على "قانون الأجل" في القرآن الكريم، سواء في عوالم الأحياء أو الجمادات، فتأملته كثيراً حتى أدركت أنه واحد من أهم قوانين الوجود، فكل شيء في الكون -من الذرات إلى الكواكب والمجرات ومن الأفراد إلى الأمم والجماعات- ينضبط إيقاعُه بانتظام غريب لا يمكن فهمه إلا بوضعه في إطار هذا القانون، ولولا أن أطيل هذه المقالة لأوضحت، على أني أرجو أن يوفقني الله يوماً إلى استكمال بحث في هذه السنّة (القانون) كنت قد بدأت بكتابته قبل الثورة بوقت طويل ولم أتمّه، فمن أحبّني فليَمُنّ عليّ بدعوة بظهر الغيب لعلي أكمله وأنشره بعد الانتصار العظيم لثورة سوريا العظيمة إن شاء الله.
* * *
سوف يسأل بعض الناس بمرارة وضيق: فهمنا القانون وعلمنا أنه لا بد منه لعمارة الدنيا، ولكن لماذا يطبقه الله -عزّ وتبارك- على المجرمين؟ لماذا يمدّ لهم ليزدادوا إجراماً؟ لماذا لا يعجّل بأخذهم ويريح منهم الناس؟ لماذا سمح الله لبشار وعصابته بالبقاء ومدّ لهم في آجالهم ليفسدوا في الأرض ويهلكوا العباد ويدمروا البلاد؟
يا أيها المبتلَون الصابرون في أرض الشام: ما أدراكم أن سؤالاً مشابهاً لم تسأله الجماعةُ المسلمة الأولى وهي تعاني ما تعانيه من اضطهاد كفّار قريش؟ وهل ترك الله -تبارك وتعالى- أولئك السائلين بلا جواب؟ اسمعوا الجواب يا عباد الله، فإنها قد تشابهت الأحوال واشتركنا مع تلك الجماعة الأولى في الابتلاء: {ولولا كلمةٌ سبقت من ربك لكان لزاماً وأجلٌ مسمى}.
لكي نفهم هذه الآية يجب أن نلاحظ أن فيها شيئاً من التقديم والتأخير، فالأجل المسمى معطوف على "كلمةٍ سبقت" وهو لذلك مرفوع، ولو كان معطوفاً على "لزاماً" لكان حقه النصب ولقرأنا "لكان لزاماً وأجلاً مسمى"، ومعنى الآية بعد إعادة ترتيب الكلمات: "ولولا كلمةٌ سبقت من ربك وأجلٌ مسمّى لكان لِزاماً". ما الذي كان لزاماً؟ هنا موضع الشاهد: إنه نصر المؤمنين وهزيمة الكافرين. أخبرهم ربهم في هذه الآية -وهو أصدقُ مَن أخبر- أنه لولا الأجل المسمى الذي سبق تحديده في لوح القضاء المحفوظ لكان نَصْرهم وتعذيب الكافرين لازماً على الفور وبلا أي تأخير.
قال المفسرون (أو قال أكثرهم) إن الأجل هو يوم بدر، ذلك كان أولَ نصر حققته الجماعة المسلمة. وهذا معناه أن الله يخبر عباده المؤمنين الصادقين الصابرين -من صحابة النبي عليه الصلاة والسلام- أن عليهم أن يستمروا بالصبر شوطاً آخر قد يطول، وقد طال فعلاً، فإن هذه الآية في سورة طه، وهي مكية باتفاق، أُنزلت قبل إسلام عمر رضي الله عنه لأنه لمّا دخل على أخته فاطمة بنت الخطّاب وخَتَنه (زوج أخته) سعيد بن زيد، كانت عندهما فقرأها فكانت سببَ إسلامه.
لقد نزلت الآية على قوم هم مثلنا اليوم، على قوم مستضعَفين يقاتَلون ويعذَّبون ويَمدّون أياديهم إلى السماء بالدعاء، وإنهم لمن أكرم الخلق ولمن أحب عباد الله إلى الله، ولكن النصر كان ما يزال بعيداً. أسلم عمر قبل الهجرة بخمس سنين، ولنقل إن سورة طه كانت قد نزلت قريباً من ذلك لأنهم كانوا يتعلمونها، ولم يأت النصر الأول في بدر إلا في السنة الثالثة من سنوات الهجرة، وإذن فقد انتظر المستضعفون المعذَّبون سبعَ سنوات أو ثمانياً حتى يأتي الأجل ويتحقق وعد الله اللازم بالنصر.
يا أيها الصابرون على البلاء في أرض الشام: إنكم ترون عبيد الأسد في صفحاتهم كيف يهزؤون بنا وبإلهنا، يقولون: "لو كان ما تقولونه حقاً لما سحقكم ربنا في حمص وفي غير حمص. أين ربكم الذي تزعمون؟" تعالى الله عمّا يقولون. لقد قالها قبلهم مَن هم أصحابٌ لهم في مدرسة الكفر والعناد، فلم يأخذهم الله أخذاً عزيزاً من فورهم لأن الأجل كان بالمرصاد لهم بعد حين؛ قال فيهم: {أفبعذابنا يستعجلون؟ أرأيت إن متّعناهم سنين، ثم جاءهم ما كانوا يوعَدون؟ ما أغنى عنهم ما كانوا يُمَتَّعون}، وقال: {ولئن أخّرنا عنهم العذاب إلى أمّة معدودة لَيَقولُنّ ما يحبسه؟ ألا يوم يأتيهم ليس مصروفاً عنهم، وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون}.
انتظروا يا عبيد الأسد؛ إن يومكم آت ولو بعد حين. انتظروا، إنا معكم من المنتظرين.
* * *
لا ريب أن للتأجيل سبباً ولا بدّ أن فيه حكمة. لو شاء الله لأهلك بشار الأسد وعصابته من الساعة الأولى، ولو شاء لأهلكهم بلا معاناة ولا تضحيات، ولكن كيف سَيَتمّ الامتحان عندئذ؟ هل رأيتم قط امتحاناً بلا أسئلة ولا تعب ولا مكابدة؟ نعم، لو شاء الله لأهلك الظالمين وصرف البلاء عن عباده: {ولو يشاء الله لانتصر منهم}، ولكنه لم يفعل. لماذا لم تهلكهم يا رب؟ اقرؤوا تتمة الآية العجيبة: {ولكنْ ليبلُوَ بعضَكم ببعض}. إنه يؤخر هلاك الظالمين لكي يبلوَ بهم عباده المؤمنين، بقتالهم (كما في سبب نزول الآية) أو بغير ذلك، فإن البلاء بالظالمين عام في كل حال.
هنيئاً لكم يا كرام الشام، لقد امتُحنتم فنجحتم في الامتحان، عمّا قليل تعلن النتائج وتحملون "جلاء" الانتصار بإذن الله، ويوم القيامة تحملونه بأيمانكم علامة على النجاح إن شاء الله.
نعم، إن لسنّة الأجل حِكَماً عظيمة يعلمها من يعلمها ويجهلها من يجهلها، ومن تأمل الثورة السورية المباركة أدرك كثيراً من الحِكَم التي ترتبت على "تأجيل النصر". لو فكرتم بكلمة "التأجيل" لوجدتم أنها مشتقة من "الأجل"، فتأجيل النصر ليس سوى دفعه إلى أجله المحدود في كتاب القدر، وقد ترتبت على هذا التأجيل آلام وتضحيات جِسام، ولكنها ترتبت عليه أيضاً فوائدُ لا تُحصى.
لو تعجل النصر في شهور الثورة الأولى لاكتفى الناس بتغيير جزئي في النظام الحاكم في سوريا، أمَا وقد تطاول إجرام النظام وانتشر حتى شمل أكثر الناس فقد زادت التِّرات والمصائب وتعاظمت الأهداف والمطالب، فلم يعد تجميل النظام سائغاً ولن يقبل الناس بإجراء إصلاحات محدودة في بنائه الخَرِب؛ إن الثوار يزدادون عزيمة وإصراراً على إسقاط النظام كله وإنشاء نظام جديد. وهذه من أبرك بركات تأجيل الانتصار، لأن معناها -بجملة واحدة- أن هذا الجيل سيدفع ثمناً إضافياً ثم ترتاح من بعدُ أجيال وأجيال بإذن الله ذي الجلال والإكرام، ولو تسارع النصر وتقاصرت المحنة لوفر هذا الجيل على نفسه بعض كؤوس المرارة لتتجرعها الأجيال اللاحقة بغير حساب.
ثم إن المعاناة الطويلة غيّرت الناس نحو الأفضل لأن المحنة تصقل الإنسان وتقوّيه. لا، بل لعلّي أستعمل تعبيراً أصدق فأقول إنها أعادت أهل الشام إلى جوهرهم النقي، أزالت قشرة رقيقة من الفحم غلّفهم بها طولُ الاستسلام لظلم النظام وقمعه واستبداده، فإذا هم جواهر من أنقى الجوهر وأغلاه. لقد عرف الناس ربهم وعادوا إليه، وما أعظمَ هذه الثمرةَ وما أبركَها على الثورة. لا تستقلّوا شأنها، فبعد نصف قرن من التجهيل والإفساد وصرف الناس عن ربهم وعن دينهم -تحت الحكم المظلم للبعث والعصابة الأسدية- كان يمكن أن تستغرق رحلة العودة إلى الله عشر سنين أو عشرين، لكن المحنة قصّرت الزمن وأنجزت في الشهور القليلة العصيبة ما يستغرق إنجازه السنوات الطويلة المسترخية. الحمد لله.
في شهور الثورة الأولى علّق الثوار قلوبَهم وآمالهم بدول وأنظمة ومنظمات، ولو أن النصر جاء في تلك الأيام لعبد الناس أميركا من دون الله، ولكن المحنة طالت حتى كشفت الوجهَ القبيح لأميركا كما كشفت الوجه القبيح لروسيا من قبل، فإذا هم في القبح سواء. يا لعظمة هذا الإنجاز الذي حققه طول الأجل، فإن سوريا الحرة يجب أن تعرف العدو وتعرف الصديق، ولو خُدعت الخدعة الخفية اليوم فربما دفعت الثمن عقوداً جديدة من المعاناة. ولم تكن أميركا فقط هي التي كشفها طول الأجل، بل ما أكثر ما كشفت هذه الثورة من دول ورجال، حتى سمّاها من سماها -وهو على حق- بالثورة الكاشفة والثورة الفاضحة. أعظِمْ بها من ثورة عظيمة، بل إنها الأعظم في الثورات.
يا أيها الصابرون على المحنة: إنكم ترون الفوائد والحِكَم التي ترتبت على تأجيل النصر أنّى نظرتم وكيفما التفتّم، فعدّوا ما شئتم ولن تفرغوا من العدّ، ولسوف تحصلون بأنفسكم على جواب السؤال الكبير: لماذا تأخر النصر مع طول الدعاء وشدة البلاء؟