المهاجرون والأنصار
رسائل الثورة السورية المباركة (90)
المهاجرون والأنصار
مجاهد مأمون ديرانية
-1-
تتحدث التقارير عن عشرات الآلاف من اللاجئين في تركيا والأردن ولبنان، وهؤلاء تُحصيهم المنظمات الإغاثية الدولية وتمدّ لهم يد العون، ولكنْ مَن يُحصي اللاجئين الذين تدفقوا من المدن المنكوبة وتبعثروا في أنحاء سوريا، وهم بمئات الآلاف، ومن يمد لهم يد العون؟ من لأولئك المنكوبين -بعد الله- سوى إخوانهم من أبناء الوطن الكرام؟
ألا لقد دار الفلك دورته وعدنا إلى الزمان الأول، زمان المهاجرين والأنصار. فيا أهل سوريا الذين لم تُصبهم مصائب النظام: لقد أتاكم إخوانكم لاجئين محتاجين، فكونوا لهم كما كان للمهاجرين الأوّلين أخوانُهم الأنصار.
يوم أقبل مهاجرو مكة على إخوانهم في يثرب فتحوا لهم بيوتهم وقاسموهم أموالهم وأملاكهم، وما مَنَّ أحدٌ منهم على أحد، لأن الذي ترك بيته وماله وهاجر في سبيل الله لم يكن أقلّ عطاء من الذي ترك للمهاجر نصفَ بيته ونصف ماله. فافتحوا -يا أحرار سوريا- بيوتكم وقلوبكم لإخوانكم ولا تَمُنّوا عليهم، فإنهم تركوا بيوتهم وتركوا أموالهم جميعاً وراء ظهورهم، وليس لهم سواكم بعد الله يا كرام الشام.
-2-
لقد انتشرت الثورة في سوريا حتى بلغت كل قريب وبعيد، ولكن لا تزال بعض "الجيوب" مُقِلّة مترددة لم تشارك في النشاط الثوري كالباقيات، وإن يكن أهلها في جملتهم مؤيدين للثورة تأييداً خفياً خفيفاً، وهي تعيش -من أجل ذلك- في أمان نسبي بعيداً عن القصف والعنف والاقتحام والانتقام. لقد كان تنشيط تلك المواقع هدفاً تسعى إليه الثورة، ولكني سأقترح الآن اقتراحاً قد يبدو غريباً: أن يستمر أهلها على هدوئهم النسبي وأن لا يَنشطوا في المظاهرات، لكي تبقى مناطقهم في أمان وتستطيع أن تستقبل اللاجئين الذين يتدفقون عليها من المناطق المنكوبة.
هذا الاقتراح يشمل البلدات الصغيرة التي أجد -باستعمال أدوات فقه المصالح والمقاصد- أن تخلّفها عن الموكب الثوري وبقاءها هادئة وقادرة على تقديم المأوى الآمن للاجئين أكثر فائدة من مشاركتها في الثورة. وليس من بينها يقيناً دمشق وحلب اللتان يفترض بهما أن تلعبا الدورين معاً، دور المدينة الثائرة ودور المدينة الحاضنة، وهو ثمن مزدوج يتوجب على المدينتين دفعه لأن الكبير يُطلب منه ما لا يُطلب من الصغير.
من أوضح الأمثلة على الفكرة السابقة مدن القلمون الأعلى، النبك ويبرود ودير عطية، وهي محطات على الطريق بين حمص ودمشق، فقد صارت أخيراً ملجأ لعشرات الآلاف من اللاجئين الفارّين من جحيم حمص وأهوالها، وغالبيتهم من النساء والأطفال. هذه المدن هادئة نسبياً، خرجت فيها عشرات المظاهرات خلال الشهور الماضية ولكنها لم تتحول إلى بؤر ثورية متفجرة، وأحسب أن المصلحة تقتضي بقاءها كذلك الآن في الوقت الذي فتح فيه أهلُها الكرام بيوتهم لاستقبال إخوانهم المنكوبين والنازحين.
لعلكم سمعتم أن مجموعات من الجيش الحر هاجمت أمس فرع الأمن السياسي في النبك وفرع الأمن العسكري على الطريق الدولي بين النبك ودير عطية، وهو في الأحوال العادية عمل محمود يُشكَرون عليه ويُرجى منهم المزيد من أمثاله، ولكني أرجو أن لا يعودوا إليه في وقت قريب، وأن "يهدأ اللعب" في المدن التي تحولت إلى محاضن للاجئين والنازحين، ولا سيما العائلات النازحة التي تكاد تقتصر على النساء والأطفال.
-3-
إن من شأن نزول العائلات الكثيرة في البيت الواحد أن يسبب بعض المشكلات الاجتماعية، ومن أهم مسببات المشكلات الفراغُ واختلاط الجنسين. الفراغ ثقيل على النفس وهو يُشعر المرء بالعجز فيزيد المرارةَ والمعاناة، فليبحث الضيوفُ والمُضيفون في كل بيت عن أشغال تشغل الفارغين فيما ينفعهم وتفيد الثورة. يمكن أن ينظّم الكبار فصولاً تعليمية للصغار، ويمكن أن تشتغل مجموعات بإعداد الطعام وتوزيعه على العائلات الأشدّ فقراً والأكثر حاجة... ولو ذهبت أحصي أوجه النشاط الممكنة لعجزت عن إحصائها، فلتبتكر كل جماعة ما يناسبها، وليستفد القاعدون من أوقاتهم فيما يعود عليهم بالنفع في دنياهم وأُخراهم على السواء.
المشكلة الثانية أصعب حلاً، وهي تحتاج إلى بعض الجهد الذي يمكن أن تقوم به التنسيقيات والجمعيات الخيرية، فتدرس حالة كل أسرة وافدة وتبحث عن أفضل بيت من بيوت المتطوعين لاستضافتها، فإذا كانت الأسرة مكونة من أم وبناتها فالأفضل أن لا تستضيفها أسرةٌ أكثرُ أولادها شبّانٌ كبار، فإن الحياة في البيت ستصبح صعبة على الفريقين، بل الأفضل أن تستضيفها أسرةٌ أولادُها أطفال صغار أو بنات كبيرات، والثانية أفضل لأن البنات يواسين البنات فتخف مصيبتهنّ وتَسْهل الحياة في البيت على الجميع.
أعلمُ أن الترتيب الأمثل والحل النموذجي قد لا يتأتى في ظروف العمل الطارئ التي يعمل ضمنها المغيثون والمنسّقون وأن الأسر النازحة تحتاج إلى أي مأوى مهما تكن طبيعته، لأن أي مبيت في أي بيت أهون من المبيت في الحدائق العامة، ولكن بعض الترتيب أفضل من لا شيء، وما لا يدرك كله لا يُترَك قُلّه (أي قليله).
-4-
لقد اختُبر الشعب السوري العظيم في هذه الثورة المباركة فنجح في الاختبار؛ قُصفت مدنه وقُتل أطفاله وأوذي في عرضه وهُجِّر من أرضه، فصبر وثبت ونجح في اختبار الصبر والصمود، ثم نجح في اختبار الوفاء والعطاء حينما فتح الآمنون بيوتهم للمنكوبين واحتضن القوي القادرُ منهم العاجزَ الضعيف؛ هذا ما صنعَته وتصنعه اليوم الغالبيةُ من أهل سوريا الكرام، ولكن لا تخلو أمة من لئام ولا يخلو مجتمع من ذئاب يرتدون أثواب البشر، فوجدنا -في هذه المحنة- مَن استغل ضعف الضعفاء وحاجة المحتاجين من اللاجئين الفارّين من حمص وغيرها، فأجّرهم الدار وأغلى عليهم الإيجارَ واستغل وأساء الاستغلال، وجدنا بعضاً من أولئك الجشعين في المدن الكبرى كدمشق وحلب، ووجدنا بعضهم في غيرهما من المدن الصغرى والقرى والبلدات.
ليس أولئك عاراً على مدنهم وقراهم، إنهم عار على سوريا كلها، بل هم عار على الإنسانية، فليس سورياً وليس إنساناً من يستغل حاجة أخيه السوري الإنسان في مثل هذه الأحوال. لا بارك الله في درهم يربحه تاجر جَشِعٌ من أولئك الضّعَفَة المساكين ولا دينار، بل أسأل الله أن يخسف به الأرض كما خسفها بقارون، حتى يطّلع عليه الناس فيقولَ قائلُهم: وَيْ كأنّه لا يفلح الكافرون!
ولا يمنعُ عذابُ الله من عقاب الناس، فإن ذلك التاجر الآثم الذي يتاجر بآلام الناس من حقه أن يُعرَف ويُشهَر في الناس فيُقاطَع اليوم وغداً ويُنبَذ، لا محل لمثله بين الشرفاء، فلا تعاملوه -يا أيها الشرفاء- اليوم ولا تنسوه في مقبلات الأيام، إنه وشبّيحةَ النظام ومخبريه ومجرميه سواء. ولا ترتكبوا -يا أيها الشرفاء- خطأ التعميم، فيحملكم بعضُ الجُناة في مدينة من المدن على أن تَصِموا المدينة كلها بوصمة العار، فما أكثرَ الشرفاءَ من أمثالكم وما أقل اللئام في كل مكان، ولكن النقطة السوداء تبدو ساطعة على الرقعة البيضاء.
-5-
بقيت المشكلة المادية، وهي أهون المشكلات وأيسرها على الحل مقارنة بغيرها من المآسي والأهوال. وليست هي أبداً مشكلة سكان سوريا وحدهم؛ إنها مشكلة ومسؤولية كل سوري مغترب خارج وطنه بمقدار ما هي مشكلة ومسؤولية السوري المقيم في الوطن، ومشكلة ومسؤولية كل مسلم في الدنيا بمقدار ما هي مشكلة ومسؤولية السوريين.
يا أيها أهل سوريا الكرام: سارعوا إلى نجدة إخوانكم المهاجرين وافتحوا لهم الجيوب والقلوب، فوالله الذي لا إله إلا هو إنهم لَينامون الليلة على جوانب الطرق وفي الحدائق العامة، حيث لا وِطاء سوى الرصيف ولا غِطاء سوى السماء.
يا أيها المسلمون: إن في سوريا اليوم مئة ألف أسرة مهجَّرة من بيتها أو مئتا ألف، أولئك هم إخوانكم المهاجرون، فمن منكم يريد أن يُكتَب اسمه في صحيفة الأنصار؟ من يريد أن ينال الشرف العظيم في الدنيا والآخرة؟ من يريد أن يفوز بالأجر العظيم؟ سارعوا -يا أيها الكرام- قبل أن تُطوى الصحف وتجفّ الأقلام.