الداعية.. والمسجد.. والعمل السياسي

أ.د. عبد الرحمن البر

أ.د. عبد الرحمن البر

أستاذ الحديث وعلومه بجامعة الأزهر

وعضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين

وعضو الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين

بعد أن تم انتخاب مكتب الإرشاد الحالي كثر سؤال الصحفيين والمهتمين بالحالة الإسلامية: هل أنتم فعلا ستعودون إلى الدعوة وتتركون السياسة؟ وكانت إجابتي دائما: أن المسلم العادي –فضلا عن الداعية-  إذا فهم دينه وأراد أن يطبقه لا يمكنه إلا أن يكون سياسيا، وأذكر له ما قاله الأستاذ الإمام المؤسس حسن البنا رحمه الله في (رسالة بين الأمس واليوم): «إذا قيل لكم: إلامَ تدعون؟ فقولوا: ندعو إلي الإسلام الذي جاء به محمد صلي الله عليه وسلم، والحكومة جزء منه، والحرية فريضة من فرائضه، فإن قيل لكم: هذه سياسة! فقولوا: هذا هو الإسلام، ونحن لا نعرف هذه الأقسام»

وقد عبر عن ذلك شيخنا القرضاوي حين قال:

فقل لمن ظنَّ أن الدينَ منفصل                عن السياسة: خذ يا غِرُّ بُرهانا

هل كان أحمدُ يوماً حِلْسَ صومعة؟           أو كان أصحابُه في الدِّيرِ رُهبانا؟

هل كان غيرُ كتاب الله مرجعَهم؟             أو كان غيرُ رسول الله سلطانا؟

لا، بل مضى الدين دستوراً لدولتهم           وأصبح الدينُ للأشخاص ميزانا

يرضى النبيُّ أبا بكر لدينهمو                 فيعلن الجمع: نرضاه لدنيانا

إن الإسلام هو السياسة الصحيحة, وهو دين ودولة, وليست السياسة هي تلك الممارسة الفاسدة التي أطلقها البعض على الذين يتقنون فن التهريج والمكر والكذب على الشعوب، ولكنها في مفهوم الإسلام تعني استصلاح الناس، بإرشادهم إلى ما يحقق سعادتهم في عاجلهم وآجلهم. فهي سياسة شرعية مبنية على أصول ثابتة من القرآن والسنة وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وسير الخلفاء الراشدين، تتوخى مصلحة الأمة، ويقوم بها رجال ونساء يملكون الشجاعة والروح الوثابة الغامرة التي تدفعهم للتغيير والإصلاح، ويتحلون بالروح الإيمانية المخلصة التي تتجاوز الأثرة والأنانيات الشخصية إلى الاهتمام بالمصالح العامة، ويصارعون الباطل بالحق، ويواجهون السياسة الفاسدة المنحرفة بالسياسة الشرعية الأخلاقية، ويرفضون الظهور بوجهين، وإطلاق التصريحات الكاذبة، ويواجهون الواقع بعلم ووعي ومعرفة وحزم وعزم.

هذا الفهم يناقض بوضوح ما يسعى البعض لترويجه من أن الدين والسياسة من نسيجَين مُختلِفَين ومِن معدَنَين مُتنافِرَين، ويرفض الادعاء بأن الإسلام نظامٌ ديني وليس مشروعًا سياسيًّا، ويرفض ما يسميه البعض خلطا بين السياسة باعتبارها لا تخضع لمعايير أخلاقية وبين الدين الذي هو في الأساس دعوة أخلاقية.

ومن هذا المنطلق فدعوة البعض للدعاة إلى الابتعاد عن ممارسة السياسة، وعدم تناول الأمور والقضايا السياسية في الخطب والدروس المسجدية؛ هي دعوة عجيبة وغريبة! فالداعية –أولا وأخيرا- هو مواطن يعيش في مجتمعه، ويحمل رسالة عظيمة لإصلاح الدنيا على منهاج الإسلام، ومن واجبه أن يكون عنصرا فاعلا ومؤثرا في توجيه الرأي العام نحو حقائق الإسلام ومنهجه الرائد في إقامة مجتمع الكفاية والعدالة والحرية والتنمية والريادة، وأن يبرز رأي الإسلام في كافة القضايا المعروضة على الساحة، وأن يقوم بتبصير الرأي العام بالمواصفات الأخلاقية والعلمية والإدارية ومعايير الكفاءة التي يجب أن تتوفر فيمن يتقدم لتمثيل الأمة في مواقع الحكم المختلفة، وأن يذكِّر بأصول المنافسة الشريفة بين الأفراد والتيارات المشاركة في العمل السياسي، وأن يوضح الضوابط الشرعية للدعاية الانتخابية، والقواعد الشرعية للممارسة السياسية، وأن يشارك في تقديم النموذج الإسلامي الذي يدعو إليه، وبذلك يكون الداعية مشاركا لمجتمعه مهتما بقضايا أمته، متواكبا مع تطلعات جماهيره ومستمعيه.

ولم يزل دور المسجد منذ فجر الإسلام واضحا في هذا المجال، بل إن أول وأهم مشكلة سياسية برزت بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي مشكلة الخلافة تمت البيعة عليها لأبي بكر رضي الله عنه في المسجد. وها نحن نرى ثورات الربيع العربي التحررية المنصورة بإذن الله تعتبر المساجد نقطة انطلاقها، وتعتبر الجمعات عناوين فصولها، فهذه جمعة الغضب، وهذه جمعة الرحيل، وهذه جمعة النصر، وهذه جمعة الوفاء للشهداء...إلخ.

ومع وضوح هذه المعاني ومشروعيتها فإن الجدل يشتد حول دور الداعية والمسجد بشكل كبير مع اقتراب مواعيد الانتخابات، حيث ترى التيارات الموصوفة بالليبرالية واليسارية وغيرها أن حديث الأئمة والدعاة في السياسة يصب بشكل واضح في صالح أصحاب المشروع الإسلامي في السياسة والحكم، ولهذا تتعالى الأصوات بالدعوة لمنع الدعاة من الحديث في الشأن السياسي.

وهنا لا بد من التفريق بين السياسة والعمل الحزبي، فإن «الفارق بعيد بين الحزبية والسياسية، وقد يجتمعان وقد يفترقان، فقد يكون الرجال سياسيا بكل ما في الكلمة من معان وهو لا يتصل بحزب ولا يمت إليه، وقد يكون حزبياً ولايدري من أمر السياسة شيئاً، وقد يجمع بينهما فيكون سياسياً حزبياً أو حزبياً سياسياً على حد سواء، وأنا حين أتكلم عن السياسة (التي يجب أن يمارسها الداعية في مسجده وفي خطبه) في هذه الكلمة فإنما أريد السياسة المطلقة، وهى النظر في شؤون الأمة الداخلية والخارجية غير مقيدة بالحزبية بحال» (هذا نص مقتبس من كلام الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله في مؤتمر طلبة الإخوان المسلمين).

أما العمل الحزبي فهو الذي يجب أن يتجنبه الداعية في المسجد وعلى المنبر وفي الدرس المسجدي، فلا يصح أن يدعو في خطبته أو في درسه المسجدي لحزب بعينه أو لمرشح بعينه، حتى لو كان هو نفسه مرشحا، فلا يصح له أن ينتهز فرصة صعوده على المنبر أو جلوسه على كرسي الدرس في المسجد ليدعو لنفسه أو لحزبه أو للمرشح الذي يؤيده، بل يجب أن يكون كلامه عاما منصبا على تنمية الإيجابية والدعوة للمشاركة وحسن الاختيار وشرح القواعد، وبيان المنهج الإسلامي والدعوة للفكرة لا للأشخاص ولا للأحزاب، وبيان الأحكام الشرعية لكل ما يتعلق بعملية الانتخاب، والتحذير من العصبية البغيضة ودعاوى الجاهلية المقيتة، ونحو ذلك بصورة عامة. فإذا خرج من المسجد فله أن يمارس العمل الحزبي كمواطن له كافة حقوق المواطنة، وله أن يرشح نفسه، وأن ينضم للحزب الذي يقتنع به، وأن يؤيد المرشح الذي يراه أصلح للمهمة التي ينتخبه لأجلها، وله أن يدعو الجماهير إلى رأيه واختياره بلا حرج.

ومع هذا فإنني أنصح الداعية إذا ترشح لأي انتخابات أن يأخذ أجازة من عمله المسجدي طوال مدة الدعاية، حتى لا يقال إنه يستغل منبره ومسجده للدعاية لنفسه.

وبهذا التفريق بين العمل السياسي والعمل الحزبي ننزه المساحد عن المشاحنات الحزبية، وبهذا نفهم معنى إعلان الأزهر كمؤسسة إسلامية دائما أنه لا يمارس السياسة، مع أنه يصدر الوثائق والبيانات والمواقف السياسية المتعلقة بالأوضاع المحلية والإقليمية، فهو لا يمارس السياسة بالمعنى الحزبي، لكنه لا يمكن أن يغمض العين عن السياسة بالمعنى المطلق الذي غايته الاهتمام بأمر الأمة وتوجيه الرأي العام، ولهذا رأينا الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يدعو لمناصرة التيارات الإسلامية في الانتخابات في أي بلد كانت، لكنه لا يتعرض للدعوة إلى انتخاب حزب كذا أو حزب كذا.

لعلي بهذا أجبت عن السؤال الذي يردده الكثيرون عن حدود دور الداعية والمسجد في الانتخابات المقبلة.

تهنئتان واجبتان:

أولاهما: أقدمها للشعب الليبي الشقيق على إعلان التحرير والخلاص من نظام الطغيان والاستبداد، وثانيتهما: أقدمها للشعب التونسي الشقيق على هذا العرس الانتخابي الرائع، ولئن كان حزب النهضة الإسلامي هو الفائز بهذه الجولة الانتخابية فإن الشعب التونسي هو الرابح الأكبر بشهادة الجميع. والله أسأل أن يوفق الشعبين إلى تحقيق العز والفلاح والآمال.