وفاء الأحرار.. صور ودروس
أ.د/ عبد الرحمن البر
أستاذ الحديث وعلومه بجامعة الأزهر
وعضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين
وعضو الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين
«أيها الإخوان، إن الأمة التي تحسن صناعةَ الموت، وتعرف كيف تموت الموتةَ الشريفةَ؛ يَهَب الله لها الحياةَ العزيزةَ في الدنيا، والنعيمَ الخالدَ في الآخرة، وما الوهن الذي أذلَّنا إلا حبُّ الدنيا وكراهية الموت، فأعِدُّوا أنفسَكم لعملٍ عظيم، واحرصوا على الموت تُوهَب لكم الحياة.. فاعملوا للموتة الكريمة تظفروا بالسعادة الكاملة».
تلك هي الكلمات التي ختم بها الإمام الشهيد حسن البنا (رسالة الجهاد)، والتي قفزت إلى مخيلتي وأنا أتابع بدموع الفرح مشاهد الأسرى المحررين من سجون الاحتلال الصهيوني، والعزة التي ارتسمت على وجوههم وفي عيونهم، والكلمات التي نطقت بها ألسنتهم، بل القذائف التي خرجت من أفواههم، تعبيرا عن حالة مبهرة من الصمود الذي تأبى على الاهتزاز والإرادة التي استعصت على الكسر، فأثبتوا أن الجهاد وحده هو السبيل لتحرير الإنسان والأوطان، وبه وحده يعلو الحق، ولا تعطي الأمةُ الدنِيَّةَ في دينها ولا في حقوقها، ولا يستهينُ بها أعداؤها، وبذلك تجمع عزَّ الدنيا ونعيم الآخرة بإذن الله، وها هم أبناء البنا وياسين والرنتيسي يحققون في وقتٍ قليلٍ عن طريق الجهاد ما عجزت الأمة في سنواتٍ طويلةٍ عن تحقيقه من طريق التفاوض والاستسلام الذي راح أصحابه يروِّجون -وراحت الأمة تسمع لهم- أن الجهاد إرهابٌ تنبغي محاربتُه، وشرٌّ يجب الوقوف في وجهه، حتى استخذى بعضهم من التفوُّه بهذا اللفظ بعد أن حُذف من مضابط جلسات القمم.
الانتصار على النفس أولا:
«إن ألفَ معركة خاسرةٍ في ميدان الحرب مع الأعداء أهونُ من معركة واحدةٍ خاسرةٍ مع النفس، وإن المجاهد إذا دخل المعركة مزعزعَ الإيمان مضطرب العقيدة متعلقاً بالشهوات سقط عند أول اختبار» تلك هي الحقيقة التي وعاها أسود حماس والقسام والجهاد في فلسطين، فتمت النجاحات التي حققوها أولا في ميدان النفس قبل أن تكون واقعاً حياً على الأرض، فرفضوا الهزيمة النفسية، ولم يضعفوا أمام كل الإغراءات والإغواءات، وصمموا على الصمود والشموخ والثبات وعدم الانحناء أمام عواصف الفتن الهوجاء، وفي وجه كل الضغوط من الصهاينة والمتصهينين والمنهزمين أمامهم، وسَخَتْ أنفسهم بالشهادة في سبيل الله، ولم يبخلوا على وطنهم بنفوسهم
يجود بالنفس إذا ضَنَّ البخيلُ بها والجودُ بالنفس أقصى غايةِ الجود
إن هذه الروحَ المعنويةَ العاليةَ وهذا الإيمانَ القويَ المتدفقَ بالله، وهذا الحب الجارف للوطن، وهذه العزيمة الماضية والإرادة المصممة على تحقيق الأهداف النبيلة؛ كانت السبب الأساسي لنجاح صفقة وفاء الأحرار، التي حررت الأسرى الأبطال، وأعادت معهم إلى الأمة روح الانتصار، وغيَّرت ميزانَ القوى في المعركة مع الصهاينة المجرمين، وحددت الطريق الأنسب لاستعادة فلسطين وتحرير المقدسات.
حتى لا ننسى .. سلاح الاستشهاد:
لا يمكن أن نغفل في غمرة هذا الفرح صناع هذه الفرحة الأصليين، من الاستشهاديين الذين دوخوا الصهاينة وحيروا مخابراتهم وأذلوا أنوفهم، وأصروا على تقديم أرواحهم قربانا لنجاح قضيتهم وتحرير وطنهم، وهنا لا بد من التذكير ببعض أقوال أولئك الأبطال: يقول الاستشهادي حاتم طلال شعبان رحمه الله في وصيته: «قد اخترت هذا الطريق إيمانا مني بأن هذا الطريق هو الطريق الوحيد الذي من خلاله سنحرر أرضنا، أدعو الأمة الإسلامية أن تسير على درب الجهاد في سبيل الله، وتنسى طريق المفاوضات والمساومة على الأرض».
ويقول الاستشهادي محمد هزاع الغول رحمه الله: «ما أجمل أن أكون الردَّ؛ لتكون عظامي شظايا تفجر الأعداء، ليس حباً في القتل، ولكن لنحيا كما يحيا الناس، فنحن لا نغني أغنيةَ الموت، بل نتلو أناشيدَ الحياة، ونموت لتحيا الأجيالُ من بعدنا».
أما الاستشهادية دارين أبو عيشة رحمها الله فتقول: «لأنَّ دور المرأة الفلسطينية لا يقلُّ في شأنه متانةً عن دور إخواننا المجاهدين، فأهَبُ نفسي رخيصةً في سبيل الله سبحانه وتعالى؛ انتقاماً لأشلاء إخواننا الشهداء، وانتقاماً لحرمة ديننا ومساجدنا، وانتقاماً لحرمة المسجد الأقصى».
أما السيدة أم نضال أم الاستشهاديين محمد ونضال وياسر فرحات فتقول لابنها محمد وهي تودعه ليفجر نفسه في الصهاينة وقد غلبها البكاء: «إياك أن تصدق دموعي، فإنها دموع أمّ تزفُّ ابنَها إلى الحور العين فأطعْ ربك، وجاهدْ، واثبتْ حتى تلقى ربك».
ثم توجِّه تلك السيدةُ العظيمةُ نساء الأمة، فتقول: «من يحب الله والوطن فلا يتوانى عن تقديم أبنائه فداء له، والأم التي تحب ولدها تطلب له النجاة في الدنيا والآخرة، وتدفعه للجهاد والشهادة ولا تجزع عند فوزه بها، ولا تشمت الأعداءَ بشعبنا بدموعها على شاشات التلفزة».
إنه ليس حبا في الموت، ولكنه استشهاد؛ رغبةَ في حياةٍ عزيزةٍ للأمة، وعيشةٍ كريمةٍ لأبناء الوطن، فأكْرِمْ بالطالب والمطلوب!.
الصفقة الرابحة.. الإنسان والوطن:
لقد كان لافتا عظمة وعبقرية المفاوض الفلسطيني، الذي حرص على أن تشمل الصفقة الأسرى من كل الفصائل تعبيرا عن وحدة الدم الفلسطيني، وأن تشمل الأسرى من كل مناطق الوطن في غزة والضفة والقدس وما يسمى بمواطني الثمانية والأربعين تعبيرا عن وحدة التراب الفلسطيني من البحر إلى النهر، وأن تشمل رفع الحصار عن غزة تعبيرا عن كسر الإرادة الصهيونية، وأن تتم وفق ترتيبات حمساوية قسامية معقدة أذهلت الجميع تعبيرا عن كفاءة المقاومة واستعصائها وتفوقها على كل أجهزة الرصد والاستخبارات الحديثة، وأن تكون برعاية وضمان مصري تعبيرا عن العمق الاستراتيجي والغطاء المصري للمقاومة الصادقة، خصوصا بعد الموقف المصري الشعبي الرافض بوضوح للتواجد الدبلوماسي الصهيوني على أرض الكنانة، حتى ليمكننا القول باطمئنان: إن هذا الإنجاز الرائع هو أحد تجليات الثورة المصرية المباركة، وهو علامة بارزة على تقدم المشروع التحرري العربي الإسلامي على حساب المشروع الصهيوني الذي يزداد انكسارا يوما بعد يوم، وهذا كله إعلان بأن بين الأمة وبين تحرير الأقصى بإذن الله مسافةً جد قريبة إذا توحدت وارتبطت بالله القلوب، واجتمعت على الحق الآراء، وجدير بالفرقاء في فلسطين أن ينتهزوا هذه اللحظة التاريخية لإتمام المصالحة والاتفاق، لتتوجَّه كلُّ الطاقاتِ لاستردادِ الأرضِ المغصوبةِ، والحقوقِ المسلوبةِ، بدلاً من ارتماءِ البعض على أعتابِ أمريكا، أو التَّسَكُّعِ على موائدِ المفاوضاتِ التي لم ولن تردَّ الحقوقَ المسلوبةَ، بل على العكسِ تعملُ على أن تمكِّنَ للغاصبِ وتُعطِيه شرعيةً.
لا مجال لليأس في مواجهة عدو منهزم:
بعد هذه الأعمال البطولية التي حققتها المقاومة لا ينبغي أن نلقي أذنا لأولئك المثبطين والمخذلين والساعين لجر الأمة مرة أخرى إلى مربع اليأس والإحباط، فرايات النصر والعز والشرف أوشكت أن ترفع فوق مآذن الأقصى بإذن الله، ما دام في الأمة أبطال من عينة أبناء القسام وياسين والرنتيسي ومشعل وهنية والزهار.
لا تقولوا: زَرَعَ الزَّارِعُ والباغِي حَصَدْ
ذهبَ الأقْصَى وضاعَتْ قُدْسُنا مِنّا وحَيْفَانا ويَافَا وصَفَدْ
لا تقولوا: حارسُ الثَّغْر رَقَدْ
أنا لا أُنكرُ أنَّ البَغْيَ في الدُّنيا ظَهَرْ
والضَّميرَ الحيَّ في دوَّامة العصر انْصَهَرْ
أنا لا أُنكر أنَّ الوهمَ في عالمِنا المسْكونِ بالوَهْمِ انْتَشَرْ
غيرَ أنَّي لم أزلْ أحلفُ باللهِ الأحَدْ
أنَّ نَصْرَ اللَّهِ آتٍ، وعدوَّ اللهِ لنْ يَلْقَى من الله سَنَدْ
لنَ يَنَالَ المعتدِي ما يبتَغِي في القُدْسِ... ما دامَ لنَا فيها وَلَدْ
فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا.