صلوات وتأملات علي الشاطئ
أ.د. ناصر أحمد سنه - كاتب وأكاديمي من مصر
لعالمنا الجليل الشيخ الدكتور" أحمد الشرباصي" (1918- 1980 ) كتيبا رائعاً بعنوان:"صلوات علي الشاطئ" (نُشر عام 1951 عن دار الكتاب العربي). وفيه يحكي الشيخ عن رحلته الأولي (1936) إلي مصيف رأس البر، وأتبعها بعد عقد من الزمن (1946) برحلة ثانية إليه. وبين رحلتي الشيخ، وعدة رحلات لكاتب هذه السطور إلي شواطئ مرسي مطروح عقود عدة، بيد أنه يجمعهم قاسم مشترك. ذلك الهدف المشترك هو الرغبة في التأمل والتدبر والتعقل والتفكرـ خالياً من المعيقات والمشتتات ـ في كتاب الله تعالي المشاهد.
تأمل وتدبر وتعقل وتفكر في آيات الجمال والإعجاز في الكون، والجلال في الخلق، والكمال في الصنعة. إنها رغبة في تمتع البصر بآيات الله تعالي، لتمتلئ البصيرة بنور التفكر في ملكوته تعالي، والتدبر في آلائه، وإعمار العقل بسنا الاهتداء إليه جل شانه. أمور لعل من سبل الوصول إليها سبيل الالتفات إلي ما في هذه الرحلات من تأملات، وما في هذه الشواطئ من آيات باهرات.
وكان ، من المهم، اختيار رفقة موافقة مصادقة. رفقة تقاربت، فتعارفت، فتآلفت، فتوافقت علي مبتغاها الذي لا تحيد عنه. فهي في أيام الطبيعة تسعي لجعل فكرها خاليا، وهمومها وراء ظهرها، فإذا سافر معها الهم فهي مقيمة لم تبرح. وما فائدة الانتقال من بلد إلي بلد، والنفوس لم تنتقل من شعور إلي شعور، ومن حال إلي حال؟. شعور وحال التفرغ لمخلوقات الله تعالي وبديع صنعه: النبت والشجر، الحجر والمدر، الطير والحيوان، الزهر والعشب، الماء والسماء، نور النهار وظلام الليل، شروق الشمس وغروبها..الخ"، يقول جل شأنه:" إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ" (البقرة:164).
إلي مرسي مطروح.. درة تاج البحر البيض المتوسط، ذلك المصيف "العتيق" الهادئ الجميل، قبلة الراحة والهدوء، مصحة الأبدان والقلوب والعقول، بقعه جملها الله تعالي، ضمن كونه العريض الجميل. بقعة خليجية تجمع بين شاطئ هادي، وآخر هادر، صفحة ماء منساب، وهدير موج قاصف، نسيم عليل، وريح عاصف، لألاء ثريا، وضوء خاطف.
لقد سعيت إلي مرسي مطروح اليوم كما سعيت كل مرة.. الأسباب هي الأسباب، والظروف هي الظروف، كان لم يمر زمن، ولم يتغير شيء. لكن هاهي الطبيعة كما خلقها الله تعالي لم تتغير ولم تتبدل.. هواء طلق نقي يشرح الصدور، نسيم منعش، وماء تبغي قضاء العمر بين أمواجه، وشمس تنفع في كل أحوالها..لينا وشدة، فتبعث القوة في الهامد بعثاً.
وكم فيك أيها البحر من أسرار، كم شاهدت من أحداث وكم طويت من أعمار، وكم ضممت من بررة وأشرار؟!. خلقك الله تعالي فواصل مائية بين أمم وشعوب، وطريقا سهلا ميسوراً مذللا للفلك والسفن، ومسبحا ومستودعا للأسماك والمخلوقات البحرية:"وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" (النحل:14)، ويقول تعالي:" وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ، إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ، أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (الشوري: 32-34). كذلك خلقك الله تعالي ملطفاً لحرارة جو الصيف، ومستودعا للمطر..بخارا وسحابا وركاما وماء عذبا زلالا. وأنت ابتلاء واختبار وسبب يقين وإيمان، واتعاظ وارتداع:"وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (لقمان:32). وقد جعل الله تعالي ماءك مالحاً.. لترتفع كثافته ـ علي خلاف الماء العذب ـ فيكون من ضمن اسابا حمل السفن، مصدرا للملح، شافيا من علل وأدواء، ولا تغيره ما يلقي إليه، علي كثرتها وعلي مر العصور، من جيف ومخلفات فلا يتأثر بها، بل يستوعبها في جوفه، لا يبالي بالمزيد.
وأخيرا أنت ـ أيها البحر ـ منظر جميل، وصورة رائعة تسحر الجنان، وتدهش الألباب، يقول المنفلوطي:"البحر عظيم، وفي صفحته الرجراجة صور الأمم التي طواها، والمدن التي محاها، والدول التي أبادها وهو باق علي صورته، لا يتغير ولا يتبدل ولا يبلي علي كر العصور والأيام.. أنت كالطائر السجين في قفصه، فمزق عن نفسك هذه السجن الذي يحيط بك، وطر بجناحيك في أجواء هذا العالم المنبسط الفسيح، وتنقل ما شئت في جنباته وأكنافه، واهتف بأغاريدك الجميلة فوق قمم جباله، ورؤوس أشجاره، وضفاف أنهاره، فأنت لم تخلق للسجن والقيد، بل للهتاف والتغريد"