مع نوح في سفينته

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

يبذل الداعية جهده وينصح الناس ويهديهم إلى طريق الحق ولا ييئس من صلاحهم فإن خامره شك في ذلك تهاون ، وهذا لا يكون فيمَن فهم واجبه وعلِمه تمام العلم ، وقد رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عائد من الطائف - التي آذتْه - إلى مكة يقول حين عرض عليه ملك الجبال إذ جاءه يعرض عليه أن يهدم جبال مكة فوق رؤوس أهلها : اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ، وأبى ذلك ، ونراه صلى الله عليه وسلم في حصاره للطائف – بعد فتح مكة- وقد علم أن حصونهم لا يمكن الخلوص إليها – وقد سأله أصحابه أن يدعو عليهم – يقول : " اللهم اهد ثقيفاً وائت بهم " .

ويظل نوح عليه السلام يدعو قومه لا يكل ولا يمل حتى جاءه الوحي يقول " إنه لن يؤمن من قومك إلا مَن قد آمن " ولعله حزن لكفرهم واستكبارهم كما حزن رسول الله محمد عليهما الصلاة والسلام فقال له الله تعالى " فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً " ويخفف الله عنه قائلاً " فلا تذهب نفسك عليهم حسرات" وقال كذلك " ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون" يقول الله تعالى لنوح عليه السلام " فلا تبتئس بما كانوا يفعلون" . ويظل الإنسان يعمل حتى يطلب إليه صاحب العمل أن يقف عنه وينتهي ، وصرح القرآن أن العمل يقف فقط حين تنعدم الفائدة ، أما إذا كان منه فائدة - ولو قليلة - فينبغي أن يستمر . ويأسى المرء حين يدعو إلى الحق ليل نهار ويرى الناس منصرفين عنه إلى الهوى وحظوظ النفس ..

وكان نوح عليه السلام – في إحدى حالات ضيقه من صد قومه وجحودهم – قد دعا على قومه " رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديّاراً " وكانت ساعة مستجابة . فقد حكم المولى على الكافر الذي نأى واستكبر بعد أن جاءه الهدى بالعقاب المناسب " إنهم مغرقون " .

ولا بد من العقوبة لمن ظلم نفسه وحاد عن الحق وهو يعلمه زهداً به ورغبة عنه واتباعاً للهوى، إنّ نوحاً ظل في قومه يدعوهم إلى الله تسع مئة وخمسين عاماً يتابعهم ، " فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً " ويلح عليهم ، ويشرح لهم وهم سادرون في غيهم ، وقد كان أحدهم يأتي بولده إلى نوح ويريه إياه قائلاً : يا ولدي لقد حذرني جدك من هذا الرجل وتخرصاته ، وهاأنا  أحذرك منه . وفيهم وفي أمثالهم يقول المولى تعالى " أتواصوا به؟! بل هم قوم طاغون" .

والعقوبة في القرآن الكريم للأمم أربعة أنواع " فكلاً أخذنا بذنبه : فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ، ومنهم من أخذتْه الصيحة ، ومنهم من خسفنا به الأرض ، ومنهم من أغرقنا ، وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون وكان عاقبة قوم نوح وقوم فرعون الغرق .

ولا بد من اتخاذ الأسباب في كل شيء ، ومنها عملية الإغراق هذه التي كتبها الله عقوبة على قوم نوح ، وإذا حُدّدَتْ العقوبة وجاءتْ فـ " لات حين مناص "  . لقد بدأ نوح والمؤمنون معه بالعمل المؤدي إلى تنفيذ العقوبة ، فلن يُساق الناس إلى البحار ليغرقوا ، إنما البحارهي التي تجتاحهم في عقر دارهم . ولأن الغرق لا يبقي ولا يذر من يبقى على الأرض فلا بد من صنع سفينة تحمل المؤمنين مع نبيهم بين جبال الأمواج القادمة من المجهول . ويبدأ النبي نوح يعمل عمل النجارين ، غير المهنة التي اعتادها الناس منه، فبدأوا يسخرون منه ، ( نجار ، ولعلهم يصفونه بالهبل والجنون لأنه يصنع سفينة كبيرة في مكان ليس فيه تلك البحار التي تحملها . وتصور معي الإيمان الراسخ الذي يمتاز به هذا النبي العظيم الذي يتحمل في سبيل الله كل هذه السخرية والهزء من قومه الذين يمرون به في كل آن ويسمعونه قارص الكلام وسيئه ، وهو صابر محتسب ، يرى عين الرعاية الربانية تحيط به من كل جانب فيأرز إليها ، ويسكن إلى رحمانيتها ، ويعمل بمعونتها وإرشادها " واصنع الفلك بأعيننا ووحينا " وهل أكثر أماناً من حفظ الله تعالى ورعايته؟! .

قد يسخر الناس منه بألفاظ نابية ،أو تعليق قاس ،أو ابتسامة ذات معنى ،أو إشارة فاضحة ، أو ضحكة مهينة : " وكلما مرّ عليه ملأ من قومه سخروا منه " انقلبت الأمور فبدل أن يعتمد على قومه في مؤازرتهم ومساندتهم أمام الأعداء والغرباء يجدهم أكثر الناس إساءة إليه ، وهذا أمر يحزن ويفت في العضد في كثير من الأحيان . ألم يقل الشاعر الحكيم :

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة     على المرء من وقع الحسام المهنـّد

والنبي نوح عليه السلام وهو يتلقّى منهم كل هذا يجيبهم إجابة الحكيم الذي يعلم أن العاقبة للمتقين ، وأن الدنيا مهما طال زمنها ذاهبة بأهلها ، والويل لمن يعصي الخالق العظيم ويشاقّه ، فإنه – سبحانه - يمهل ولا يُهمل ، ويملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفلِته. إنهم يسخرون ، وسوف تُحسب عليه سخريّتُهم . ويهزأون ويُحسب عليهم هزءهم. ولكنهم حين تحق الحقيقة غارقون في لجة الماء في هذه الدنيا ولن ينجو منهم أحد ، وسوف يكونون من أهل العذاب يوم القيامة خالدين فيه أبداً . فمن الذي يسخر من الآخر يا أولي الألباب ؟. " فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ " .

وجاء وقت الحسم ، لقد بنى النبي نوح عليه السلام سفينة الإنقاذ ، فمن يركبها ؟ إنها أزواج الحيوانات ، ليكون منها التكاثر مرة أخرى ، والمؤمنون من أهله والمسلمون الذين وحّدوا الله تعالى ، أما زوجته وبعض بنيه فمع الغارقين ، لقد كفروا به مع من كفر، وليس هناك من وساطة ورحمة إلا لمن استجاب للدعوة المباركة . ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة – وهي قرة عينه وأقرب الناس إلى قلبه – " يا فاطمةُ ؛ سليني ما شئت من مالي ، لا أغني عنك من الله شيئاً . " كان المؤمنون قلة ، وأصحاب القلوب الشفافة وأهل الهدى أقل عدداً ولكنهم أقوى أثراً ، فليست العبرة بكثرة العدد والعدة . إنها بالنوعية الرائدة الفريدة . ألم يقل الله تعالى مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم " وإن تُطِعْ أكثر من في الأرض يُضلوك عن سبيل الله ؟" وقد قال الحبيب المصطفى في الدلالة على القلة الواعية الرائدة في المجتمعات " الناس كإبل المئة ، لا تكاد تجد فيها راحلة ."

وحين استوى المؤمنون في السفينة دعا القائد الرباني دعاء الحفظ والصون " وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ۚ إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ "  تدفقت المياه كأغزر ما تكون من الأرض ، ونزل الماء كأقوى ما يكون نزوله من السماء ، وبدأ الماء يرتفع بقوة غامراً الوديان والوهاد ، لا يترك ثقباً في الأرض إلا دخله ولا كهفاً في جبل أو تل إلا غمره ، يخطف الناس والحيوانات  والأشجار ، ويأخذها أخذاً عنيفاً ، وكانت السفينة تسير بهم في موج كالجبال ، يحفظهم سيد الكائنات ويسيّرهم بلطفه سبحانه ، وما الأمن والأمان إلا بمعية الله " لا إله إلا هو " ومن كان مع الله كان الله معه. ومن اتكل عليه كفاه .

كان قلب الأب الرحيم يتابع أحد أولاده ممن تنكب سبيل الهدى وخاض في الضلالة ، وهذا يحزن الأب كثيراً فهو يريد أن ينجو فلذة كبده  فيكون مؤمناً ، لقد انطلق ابنه بعيداً عنه على الرغم أنه ناداه قائلاً " يا بنيّ اركب معنا ولا تكن مع الكافرين " والإيمان شرط الركوب في السفينة ، هذا ما قرره الله تعالى وقضاه ، والفتى يقوده الغرور إلى ارتقاء جبل يظن أنه يمنعه من الغرق ، فمهما ارتفع الماء فلن يرتقي الجبلَ خُمُسَه أو ربعَه أو نصفـَه ، هكذا اعتاد الناس إذا هاجمهم الماء ، وسوف يعود عاجلاً أو آجلاً إلى الانحسار ، فما لأبيه يصنع سفينة ويتعب نفسه الشهور في تركيبها ويتحمل هذا العناء كله؟! أفقد عقله يا ترى ، لعله كذلك ، ولعل الناس صادقون في وصف أبيه بما لا يليق برجل محترم ، هكذا كان يقول في قرارة نفسه حين ردّعلى نداء أبيه الرحيم يستعطفه أن يكون معه في الفلك . فكان ردّه عقوقاً ظاهراً وجحوداً متمكناً في نفسه " سآوي إلى جبل يعصمني من الماء " فكان آخر ما سمعه من والده الثاكل " لا عاصم من أمر الله إلا مَن رحِم " ففي هذا الموقف رحمة أو غضب ، ثواب أو عقاب . ولا يعلم هذا إلا قلب المؤمن المتصل بالله " ولكن أكثر الناس لا يعلمون " فما إن انتهى الأب من دعوته لابنه أن يكون معه حتى " .. وحال بينهما الوج ، فكان من المغرقين " لم تنفعه القرابة ولا النسب . فهـِمَ هذا مصعبُ ابن عمير حين قال له أخوه أبو عزيز ، وقد أسره أحد المسلمين في غزوة بدر : يا أخي وصِّ هذا المسلم بي . فقال مصعب للمسلم : اشدُدْ عليه يا أخي فإن له أماً غنية تفديه .  فقال أبو عزيز له : أهذه وصاتك بي يا أخي ؟! قال له : صَهْ ؛ إنه أخي من دونك.

انتهت العملية في أيام معدودة ، ولا بد من العودة إلى الحياة الطبيعية : فبلعت الأرض ماءها بأمر الله واستعادت السماء ما أنزلته ، فالإقلاع ارتفاع ، ألا نقول : أقلعت الطائرة ؟ نعم لقد استعادت السماء ماءها وعادت الأمور كما يريدها المولى كي تبدأ الحياة من جديد . وإذ بالسفينة ترسو في أعلى جبل الجودي لتكون عبرة للأجيال القادمة " ولقد تركناها آية ، فهل من مُدّكر" . نزل المؤمنون سادة على الأرض بمدد من الله وعون منه ، وقد كان الكفار قبل الغرق يسرحون فيها ويمرحون وكأنهم السادة الباقون ، ذهبوا كما ذهب أسلافهم من الطغاة ، وكما سيذهب أمثالهم من طغاة العصور القادمة ، ولكنْ " هل من مُدّكر " . وتصور معي الاستعلاء الحقيقي لرب السماء والأرض  " وقيل بعداً للقوم الظالمين ". أقالها سبحانه مقرراً أفول نجم الظلمة مهما طغوا وبغوا ، أم قالها المؤمنون وهم ينزلون من السفينة ، أم قالتها الملائكة .. بعداً للقوم الظالمين .

ولعل الأبوّة حين تتملّك صاحبها تخرجه أحياناً عن الصواب – ولو كان معصوماً - أو تنسيه ما أمِر به قبل الصعود إلى السفينة ، فيختلط عليه الأمر ، فلقد نادى نوح ربه مسائلاً : " ربّ إن ابني من أهلي " ، ألم تقرر هذا حين سمحت لي أن أحمل أهلي في السفينة ، وقد مضى ولدي فابتلعه الماء . يارب إنك أرحم الراحمين فأحيِ ابني وأعده لي . أو لعله طلب أن لا يكون ابنه من أهل النار . فكان الجواب عتاباً أعاده إلى الصواب وذكـّره بقاعدة ما تزال هي القانون الأبدي إلى قيام الساعة . لا علاقة للنسب في العقيدة ، ولا صلة حقيقية إلا في العلاقة الإيمانية . وما عدا ذلك لا يُعتَدّ به ، ولو كان من ذريتك. " إنه ليس من أهلك ، إنه عمل غير صالح " وقد عاش نوح عليه السلام ألف سنة في أجواء الإيمان الحق ، فلا ينبغي أن يقع في مثل هذا الخطأ " إني أعظك أن تكون من الجاهلين "

وسرعان ما يفيء النبي الكريم إلى الحق ويقر بخطئه ويسأل الله تعالى العفو والمغفرة ، وهذا دأب القدوة الصالحة ترجع إلى الحق سريعاً . "  قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ۖ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ " فكان الاعتراف بالخطإ أولاً والتوبة ثانياً وطلب العفو والمغفرة ثالثاً سبيلَ الصالحين  جعلنا الله منهم .

وينزل النبي الكريم ومن معه إلى الأرض بسلام من الله وتحية منه وبركات... إن من يؤوب إلى الله تعالى يجد غفران الذنوب وستر العيوب ، والتجاوز عن الأخطاء ويجد المغفرة تحوطه والراحة الإيمانية تغمره .

هذا ما أخبر القرآن نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم من أنباء الرسل قبله ، ولم يكن يعلم من أنبائهم شيئاً ، وهذا دليل على أن القرآن من لدن حكيم عليم نزل به الروح الأمين على قلب الحبيب المصطفى ليكون نبراساً للبشرية يهديها إلى الصراط المستقيم .