رسالة إلى الباحثين عن السعادة
د. بدر عبد الحميد هميسه
الناس جميعاً يبحثون عن السعادة ويجدون في طلبها ويكدحون في تحصيلها , ولكن ليس كل من يطلب السعادة يجدها ؛ لأن فهم كل واحد منهم لها يختلف , ومشاربهم في سبل تحصيلها تتباين , فالبعض يظن أن السعادة في كثرة المال , فيسعي إلى تحصيله بكل السبل وشتى الوسائل والطرق , ولا يدري أن هذه السعادة وهمية غير حقيقية، وأن هناك يوماً سيأتيه ويصرخ فيه قائلاً : " مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ . هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ ". سورة الحاقة: 28-29.
بل قد يكون المال سبباً لشقاوته وعذابه , كما قال تعالى: " وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ . يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ". سورة التوبة: 34-35.
وقد أشار القرآن الكريم إلى شقاء أصحاب الأموال الذين لا يتقون الله تعالى في جمعها وإنفاقها، ومعرفة حق الله عز وجل فيها، فقال تعالى: " فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ" . سورة التوبة: 55 .
ويا حريصاً على الأموالِ تجمعُها * * * أُنْسيتَ أنَّ سرورَ المالِ أحزانُ ؟
زع الفؤاد عن الدنيا وزينتها * * * فَصَفْوُها كدرٌ والوصلُ هِجْـرانُ
وقال آخر :
يذكر أن زوجاً قال لزوجته بغضب: لأشقينَّك . فقالت الزوجة في هدوء وإيمان وعزة : لا تستطيع أن تشقيني كما لا تستطيع أن تسعدني.فقال الزوج في حنق : وكيف لا أستطيع ؟ فقالت الزوجة في ثقة : لو كانت السعادة في راتب لقطعته عني أو زينة من الحلي لحرمتني منها ، ولكنها في شيء لا تملكه أنت ولا الناس أجمعون !فقال الزوج في دهشة: وما هو ؟ فقالت الزوجة في يقين : إني أجد سعادتي في إيماني ، وإيماني في قلبي ، وقلبي لا سلطان لأحد عليه غير ربي .
وقد يظن البعض أن السعادة في الجاه والسلطان والمناصب والولايات : وهذا فهمٌ وظن خاطئ أيضاً، فأهل الجاه والسلطان والمناصب البعيدين عن الله، هم في شقاء وتعاسة وهمٍّ ونكد, عَنْ أَبِي ذَرٍّ ، قَالَ:قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَلاَ تَسْتَعْمِلُنِي ؟ قَالَ : فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي ، ثُمَّ قَالَ : يَا أَبَا ذَرٍّ ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ ، وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ ، إِلاَّ مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا ، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا.أخرجه مسلم 6/6(4746).
وأعز ما يبقى ودادٌ دائمٌ * * * إن المناصبَ لا تدوم طويلا ً
فاصنع من الفعل الجميل فضائل *** فـــإذا عزلـــت فإنهـــا لا تعزل
1ـ الإقبال على الطاعة والعبادة وترك الذنوب والمعاصي:
فالتقرب إلى الله تعالى بالطاعة والعبادة سبب لحب الله للعبد , وإذا أحب الله العبد هيأ له أسباب السعادة والإنس به , قال تعالى : " وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ .. (165) سورة البقرة , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِى وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِى بِشَىْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِى يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِى يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِى يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِى يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِى يَمْشِى بِهَا ، وَإِنْ سَأَلَنِى لأُعْطِيَنَّهُ ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِى لأُعِيذَنَّهُ ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَىْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِى عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ. أخرجه البخاري 8/131(6502) .
قال تعالى: " فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى.وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى.قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا.قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى". سورة طه: 123–126. قال ابن كثير – رحمه الله- في تفسيره: قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما:{فَلا يَضِلُّ}: في الدنيا، { وَلا يَشْقَى}: في الآخرة، {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي} أي: خالف أمري، وما أنزلته على رسلي، أعرض عنه وتناساه، وأخذ من غيره هداه، {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} في الدنيا، فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيق حرج لضلاله، وإن نعم ظاهره، ولبس ما شاء، وأكل ما شاء، وسكن حيث شاء.
فمن قرت عينه بالله قرت به كل عين، ومن لم تقر عينه بالله، تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، والله تعالى إنما جعل الحياة الطيبة لمن آمن به وعمل صالحاً. كما قال تعالى: " مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ" . سورة النحل:97.
ويتأكد هذا أيضاً في قوله تعالى: " قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ{1} الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ{2} وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ{3} وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ{4} وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ{5} إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ{6} فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ{7} وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ{8} وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ{9} أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ{10} الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" . سورة المؤمنون:1-11.
ويقول ابن القيم كما في: ( الوابل الصيب" صـ69 : 71): وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية – قدَّس الله روحه- يقول: إن في الدنيا جنةً، مَن لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة. وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ إن جنتي وبستاني في صدري أينما رحت، فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة. وكان يقول: المحبوس مَن حُبِس قلبه عن ربه تعـالى، والمأسور من أسره هواه، ولما دخل القلعة وصار داخـل سورهـا نظر إليه وقال: " فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ" . سورة الحديد: 13. يقول ابن القيم: والله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش، والحبس، والتهديد، والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً، وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً، وأسرَّهُم نفساَ، تلوح نضرة النعيم على وجهه، وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه، ونسمع كلامه، فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحاً، وقوة، ويقيناً، وطمأنينة، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فآتاهم من روحها، ونسيمها، وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها.
2ـ كثرة الذكر والدعاء لله تعالى :
ترك ذكر الله تعالى يصيب القلب بالقسوة والجفاء ، وقاسي القلب مستحق لوعيد الله تعالى، قال سبحانه : " وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ" . سورة الزخرف:36.
وانظر لمَن يُكثِر من ذكر الرحمن، تجده دائماً في راحة واطمئنان، كما قال تعالى: " الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" . سورة الرعد:28 .
وإذا اطمئن القلب انشرح الصدر، وارتاح البال وأنس بالله، وسعد في الدنيا والآخرة، وهذا هو عين الفلاح، الذي أرشدنا تعالى إلى تحصيله؛ وذلك بكثرة ذكره، فقال تعالى: " َاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ" . سورة الأنفال: 45.
كما أن صدق اللجوء إلى الله تعالى بالدعاء سبب للسعادة وانشراح الصدر , قال سبحانه : " رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي . وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي". سورة طه: 25-26.
3ـ الرضا بالقضاء والقدر:
يقول ابن الجوزي كما في "صيد الخاطر" صـ329 : 330: "رأيت سبب الهموم والغموم الإعراض عن الله U، والإقبال على الدنيا، وكلما فات فيها شيء وقع الغم لفواته، فأما مَن رزق معرفة الله تعالى وأطاعه استراح؛ لأنه يستغني بالرضا بالقضاء، فمهما قدر له رضي، ولم يختلج في قلبه اعتراض؛ لأنه مملوك مدبر، فتكون همَّته في خدمة الخالق، ومن هذه صفته لا يؤثر جمع مال، ولا مخالطة الخلق، ولا الالتذاذ بالشهوات، ولكن يقبل على عبادة وطاعة رب الأرض والسموات.
إن السعادة أن تعيش * * * لفكرة الحق التليد
لعقيدة كبرى تحل * * * قضية الكون العتيد
هذي العقيدة للسعيد * * * هي الأساس هي العمود
من عاش يحملها ويهتف * * * باسمها فهو السعيد
4ـ القناعة والرضا بما قسم الله تعالى:
إنَّ الغنيَّ هو الغنيُّ بنفسهِ *** وَلَو أنّهُ عاري المَناكِبِ، حَافي
ما كلُّ ما فوقَ البسيطة ِ كافياً *** فإذا قَنِعتَ فكُلّ شيءٍ كافِ
روي أن داود عليه السلام قال: كيف أشكرك يا رب، والشكر نعمة منك! قال: الآن قد عرفتني وشكرتني؛ إذ قد عرفت أن الشكر مني نعمة، قال: يا رب فأرني أَخْفَى نعمك عليّ. قال يا داوود تنفس، فتنفس داود،. فقال الله تعالى: من يحصي هذه النعمة الليل والنهار.
5- محبة الخير للناس وترك الحسد لهم:
6ـ حضُور مجالس العلم ومجالسة الصالحين:
قال تعالى : " يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) سورة المجادلة .فأهل العلم هم أهل الرفعة والشأن في الدنيا والاخرة يسعد المرء بمجالستهم , ويأنس بذكرهم ,
ـ وقد سمَّى النبي صلى الله عليه وسلم مجالس الذِّكْر (أي: مجالس العِلْم) رياض الجنة,فـقد أخرج الترمذي بسند حسن حسنه الألبـاني كمـا في "صحيح الترمذي" (2787) عن أنس t عن النبي r قال: "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، فقيل: وما رياض الجنة؟ قال: حِلق الذِّكْر".
7- متع حياتية تجلب السعادة :