لو كان الموت يترك أحدا

(إلى روح الشيخ محمد حسن سرحان)

رحمه الله

أبو جابر

منذ أن كان يافعا ، صار الناس ينادونه : (شيخ محمد) ، لما عرف عنه من طيبة وصفاء وحسن معاشرة ، وخفة روح ، ودماثة أخلاق ، ومواظبة على المسجد .. وكانت الابتسامة لا تفارقه ، يستقبلك مبتسما ، ويودعك مبتسما ، ويتقبل المداعبات اللطيفة والسمجة ، ممن هم في عمره أو عمر أبيه ، فلا تجد أحدا لا يوادده ، ويستلطف مداعبته.. وكنت من أترابه ، وكانت علاقتنا  لا تخلو من الملاطفة ، ويغلب عليها الجد ..

ذات مرة أخذني الشيخ محمد جانبا ، وأخرج من جيبه مبلغا من المال ، ودسه في جيبي وقال - بعد أن غمز بعينه : أوصله للجماعة ! قلت له بشيء من التجاهل : أي جماعة ؟ ولماذا لا توصله بنفسك ؟ ابتسم كعادته ، وشدّ على يدي ، وقال : أنت عارف الحاجة الوالدة ، والله أخشى إن أصابني أمر، أن تجن أو تصعق ..

كانت الحاجة (أم عدنان) شديدة التعلق بابنها محمد ، وكان شديد البر لها ، فقد عوضها عن والده الذي له شأن آخر .. وكان يرعى إخوته ، وهو ما يزال طالبا ، بما يتيسر له من أجر عن عمل في أوقات الفراغ والإجازات المدرسية ، ثم بعد أن أصبح معلما . وكانت تشعر أنها ملكت به الدنيا ، لاسيما بعد أن تخرّج من الصف الخاص ، وكان قد توسط له أناس مرتبطون بالحزب والسلطة ... دون سعي منه ، وأصبح المعلم الوحيد المثبت في المدرسة ، بين عدد من أبناء القرية الوكلاء ، وكانت أمه امرأة بسيطة ، تحوطه بعيونها ، وتخاف عليه من هبة النسيم. وكانت تكرم أصحابه أيّما إكرام من أجل خاطره ، وكأنها تعيش من أجله ..عذرت الشيخ محمد لما أعلم من صدق نيته ، وسلامة سريرته ، وحرصه على مناصرة إخوانه المطالبين بالحرية والعدالة والكرامة لشعبهم ، بما تيسر ، كحرصه على رعاية أمه وبرها ، ووعدته بأن أحاول ..

ودارت الأيام ، ولم أكن أعبأ بما يمكن أن ألقى ؛ فلم تكن لي أمٌ تجنّ علي ، أو تصعق إذا أصابني مكروه ، وصرت مطلوبا للسلطة ، ومطاردا مع المطاردين .. وفي ذات يوم تسللت إلى القرية ، والتقيت بأحد الأصحاب ، وسألت عن أخبار القرية ، وقد صعقت عندما حكى لي الخبر المفجع عن الشيخ محمد، الذي التحق بخدمة الاحتياط في الجيش ،وذلك في أوائل عام 1982م ، وكان قدره أن يخدم في الجيش العامل في لبنان ، عند احتدام الحرب الأهلية ، وأن يستشهد في تلك الأحداث .. سألت صاحبي عن أخبار الحاجة (أم عدنان) ، وكان الجواب كما توقع الشيخ محمد ؛ لقد جنت المرأة المسكينة على ولدها ، وهامت على وجهها، وصارت تأتي إلى المدرسة في كل صباح تسأل معلمي المدرسة عن الشيخ محمد ، وتهيج مشاعرهم .. رحمك الله يا شيخ محمد حسن سرحان ، فقد أردت أن تبقى وتعيش لتبر أمك ، ولو كان الموت يترك أحدا .. لتركك لها ، ولكن أنّى ذلك!