نواسف الفهم السليم 1

نواسف الفهم السليم

(1 من 2)

جمال زواري أحمد - الجزائر

[email protected]

إن الدعاة إلى الله ، إذا لم يجمعوا بين عمق العلم ولباقة التصرف وسلامة التحرك ، وقبل ذلك ومعه وبعده صحة التجرد ونبل المقصد وسمو الغاية ، فإن فشلهم محقق لا محالة .

وسلامة السير تكون نتيجة للفهم السليم للدعوة ، بمبادئها وأصولها وثوابتها وأهدافها وغاياتها ، وكذلك للواقع بطبيعته ومكوناته ومؤثراته وإفرازاته ، فضغط الواقع ينبغي أن لا يسوق الدعاة إلى الحلول الخاطئة والخيارات القاصرة ، فمهما طال انتظار الحلول الصحيحة الدائمة والخيارات العميقة المدروسة ، فإنه هو الصواب، وطول الزمن وتسارع الأحداث ، لا يفقدان الحق أحقيته، وقصر الزمن وضغط الأحداث، لا يمنحان الخطأ صفة الصواب ، ولا القصور صفة الحكمة.

لذلك كانت نعمة الفهم السليم مع حسن القصد من أعظم نعم الله على العبد ، كما قال ابن القيم رحمه الله :( صحة  الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده ، بل ما أعطي عبدٌ عطاء بعد الإسلام أفضل ولا أجلّ منهما ، بل هما ساقا الإسلام ، وقيامه عليهما ، وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد قصدهم ، وطريق الضالين الذين فسدت فهومهم ، ويصير من المنعم عليهم الذين حسنت أفهامهم وقصودهم ، وهم أهل الصراط المستقيم الذين أمرنا أن نسأل الله أن يهدينا صراطهم في كل صلاة ، وصحة  الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد ، يميز به بين الصحيح والفاسد ، والحق والباطل ، والهدى والضلال ، والغي والرشاد ، ويمدّه حسن القصد وتحرّي الحق وتقوى الرب في السر والعلانية ، ويقطع مادته إتباع الهوى وإيثار الدنيا وطلب محمدة الخلق وترك التقوى).(1)

كما أن سوء الفهم أصل كل بلية ، يقول ابن القيم كذلك :( سوء الفهم عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام ، بل هو أصل كل خطأ في الأصول و الفروع ، ولا سيما إن أضيف إليه سوء القصد).(2)

لأجل ذلك كلّه جعل الإمام البنا رحمه الله ركن الفهم أول أركان البيعة قبل الإخلاص والعمل وغيرهما من الأركان.

فالتحرك السليم نتاج الفهم السليم ، والتحرك الخاطئ نتاج  الفهم الخاطئ ، وقد ترفض في كثير من الأحيان أفكار سليمة ومواقف حكيمة ، بسبب الفهم الخاطئ والسقيم لها ،  كما قال الشاعر:

 وكم من عائب قولا سليما      وآفته من الفهم السقيم

وللفهم السليم نواسف ونواقض كثيرة نذكر منها:

1)  عدم الإخلاص:

فالعمل لدعوة الله الغاية منه مرضاته عز وجل ، والمقصود به وجهه سبحانه ، فإن قصد به غير ذلك ، ودخلت فيه الأهواء الجانحة ، والشهوات الخفية ، والنزوات الدفينة ، أظلمت القلوب ، واختلت العقول ، وطاشت الإفهام ، فينسف عند ذلك الفهم السليم للدعوة، وتتعثر المسيرة ، فقد قال ابن الجوزي رحمه الله :(إنّما يتعثر من لم يخلص) ، وقيل :(مالا يراد به وجه الله يضمحل).

فالقلب القفر من الإخلاص لا ينبت قبولا ، كالحجر المكسو بالتراب لا يخرج زرعا.

والعلل الناشئة عن فقدان الإخلاص كثيرة ، وهي إذا استفحلت استأصلت الإيمان ، وإذا قلّت تركت به ثلما شتّى ، ينفذ منها الشيطان.(3)

ونظرا للعلاقة الوثيقة بين الإخلاص والفهم ، كان الصالحون يجزمون بأنه :( ما فتح الله تعالى على عبد حالة سنية ، إلا بإتباع الأوامر وإخلاص الطاعات ولزوم المحاريب).(4)

2)  الجهل وقلّة العلم:

مستحيل أن يفهم الإنسان شيئا يجهله ، أو لا يعلم منه إلا القليل ، والجهل بقواعد الدعوة وأصولها وثوابتها وأبجدياتها ، قد يؤدي إلى معاداتها والإضرار بها من حيث يراد نفعها ، إن على مستوى التبليغ والاستيعاب ، أو على مستوى النشاط والممارسة ، لأن من جهل شيئا عاداه ، وقد قال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله :(ما عصي الله تعالى بمعصية أعظم من الجهل ، قيل له:  يا أبا محمد هل تعرف شيئا أعظم من الجهل؟، قال: نعم ، الجهل بالجهل).(5)

وقد سئل سفيان الثوري رحمه الله: عمّن يحدّث بالعلم قبل تأهله، فقال :(إذا كثر الملاحون غرقت السفينة).(6)

فقلّة العلم تنسف الفهم السليم، وتعمّق دوائر الخلاف لأنه :(لو سكت من لا يعلم ، لسقط الخلاف( ، كما قال حجة الإسلام الغزالي رحمه الله.(7)

(فالعامل على غير علم كالسائر على غير طريق ، والعامل على غير علم ما يفسد أكثر مما يصلح ، فاطلبوا العلم طلبا لا يضر بترك العبادة ، واطلبوا العبادة طلبا لا يضر بترك العلم ، فإن قوما طلبوا العبادة وتركوا العلم ، حتى خرجوا بأسيافهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ولو طلبوا العلم لم يدلهم على ما فعلوا) ، كما أوصى الحسن البصري رحمه الله .(8)

كما أن قلة العلم والفقر المعرفي والثقافي ، تضيّق مساحة التصور ، وتمنع من النظر إلى المسألة أو الموقف أو المشكلة من كل جوانبها ، وتحجب الرؤية السليمة والعميقة والمتكاملة ، ممّا يؤثر سلبا على سلامة الفهم وصحته.

3)  إتّباع الهوى:

   فإن غلبة الهوى وإتباعه :

  تصدّ عن الحق : بحيث تظهر الأدلّة المقنعة والحجج الدامغة، لكن صاحب الهوى لا يقنعه كل ذلك ، بل يجحده وينكره ويحرّفه ويؤوّله تأويلات تبرر هواه ، وقد كان أعظم تخوّف الإمام علي رضي الله عنه من ذلك فقال :(إنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنتين : طول الأمل وإتباع الهوى، فأمّا طول الأمل فينسي الآخرة، وأمّا إتبّاع الهوى فيصدّ عن الحق).

 وتفسد العقول السليمة : كما قال الشاعر:

إنّ الهوى يفسد العقل السليم ومن      يعصي الهوى عاش في أمن من الضرر

وفساد العقل معناه اختلال الفهم ونسفه ونقضه.

 وتثير التنازع بين الإخوة : كما قال سيد رحمه الله :(ليس الذي يثير النزاع هو اختلاف وجهات النظر ، إنما هو الهوى الذي يجعل كل صاحب وجهة يصر عليها ، مهما تبيّن له وجه الحق في غيرها ، وإنما وضع الذات في كفة والحق في كفة ، وترجيح الذات على الحق ابتداء).

 وتورث البطالة وترك الجماعة والقعود عن العمل والمشاركة في أبواب الخير : كما قال الشاعر :

ثلاث مهلكات لا محالة    هوى نفس يقود إلى البطالة

وشح لا يزال يطاع دأبا    وعجب ظاهر في كل حالة

وقال الشاعر كذلك:

إذا اعتادت النفس الرضاع من الهوى   فإن فطام النفس عنه شديد).(9)

كذلك فإنه :( إذا غلب الهوى أظلم القلب وإذا أظلم القلب ضاق الصدر وإذا ضاق الصدر ساء الخلق وإذا ساء الخلق أبغضة الخلق وإذا أبغضه الخلق أبغضهم وإذا أبغضهم جفاهم وإذا جفاهم صار شيطانا).(10)

فكيف لمن يصاب بهذه السلسلة المتراكمة أن يرزق حسن الفهم ؟؟؟ ، هيهات هيهات.

كما أن استحواذ الهوى على العبد أيضا ، يحرمه التوفيق في الفهم والسلوك والممارسة ، فقد قال الفضيل رحمه الله :( من استحوذ عليه الهوى وإتباع الشهوات ، انقطعت عنه موارد التوفيق ).(11)

ومن انقطعت عنه موارد التوفيق كيف يوفق إلى فهم سليم ؟؟؟

4)  العجلة وعدم التروّي:

  فعدم التأنّي وعدم التريث، في التعامل مع الأفكار ، يفقد الرأي صوابه ، وينزل بالفهم إلى مدارك القصور والخلل، إذ لا فهم مع العجلة ، وقد أوصى أعرابي أولاده قائلا :( إياكم والعجلة ، فإنّ أبي كان يسميها أم الندم).(12)

وقديما قال الشاعر:

وما الرأي إلاّ بعد تثبّت          ولا الحزم إلاّ بعد تلوّم ، ( والتلوم :  الانتظار والتأني).

وقال الآخر :

قد يدرك المتأني بعض حاجته      وقد يكون مع المستعجل الزلل

(وإنما يؤتى الناس من ترك التثبت وقلّة المحاسبة) ، كما أكّد الجاحظ.(13)

وحول علاقة التثبت بالفهم الصحيح للمواقف والأحداث والمسائل ، يقول ابن الجوزي كذلك :(ما اعتمد أحد أمرا إذا همّ بشيء مثل التثبت ، فإنه متى عمل بواقعة من غير تأمل للعواقب ، كان الغالب عليه الندم ، ولهذا أمر الإنسان بالمشاورة ، لأن الإنسان بالتثبت يطول تفكيره ، فتعرض على نفسه الأحوال وكأنه شاور ، وقد قيل : خمير الرأي خير من فطيره ، وأشد الناس تفريطا من عمل مبادرة في واقعة من غير تثبت ولا استشارة).(14)

ولقد خلق الله السموات والأرض في ستة أيام ، مع قدرته تعالى على ذلك بقوله كن ، وذلك ليعلمنا التأني في الأمور ، كما يذكر الإمام النسفي رحمه الله في تفسيره.(15)

ورحم الله الأميري الذي قال :

فريث المثابر أمضى خطى     وأبلغ من قفزات الصخب

وكانت أناة الفتى في التقدم     أهدى وأجدى لنيل الأرب

ومستعجل الشيء قبل الأوان     يصيب الخسار ويجني النصب.(16)

فلينظر السالك طريق الدعوة أين يضع القدم، فربّ مستعجل وقع في بئر بوار ، كما نصح الإمام ابن الجوزي رحمه الله.(17)

5)  السطحية وعدم التعمٌّق:

وعدم التعمق في فهم الأفكار والمعاني مرض اشتكى منه علماؤنا قديما ، حيث قال ابن الجوزي رحمه الله :(فأقلّ موجود في الناس ، الفهم والغوص في دقائق المعاني).(18)

والسطحية في التعامل مع الأفكار والآراء والمواقف والأحداث ، تجعل العقل لا يستوعب بالطريقة الصحيحة، ومن ثمّ لا تكتمل الصورة لديه ، فلا يتعمق ولا يدقّق ، فينتج عنها فهم غير سليم وسطحي وقاصر، فيبني عليه مواقفا وأحكاما ، تكون عواقبها وخيمة على الفرد والمجموع، لأن نسف الفهم نتيجته نسف كلّ ما يرتبط به ويبنى عليه.

يتبع......

                

1  ابن القيم ، إعلام الموقعين ، ج1 ، ص87.

2  ابن القيم ،  الروح ، ص 58.

3  محمد الغزالي ، خلق المسلم ، ص73/78.

4  محمد أحمد الراشد ، رسائل العين ، ص 40.

5  جمعة أمين ، الدعوة قواعد وأصول ، ص181.

6  بكر أبو زيد ، التعالم وأثره في الفكر والكتاب ، ص 6.

7  بكر أبو زيد ، المرجع السابق ، ص5.

8  الشاطبي ، الاعتصام ، ج2 ، ص 398.

9  محمد أحمد الراشد ، العوائق ، ص63/64/65.

10  أحمد الشرباصي ، أخلاق القرآن ، ج6 ، ص 190.

11  ابن القيم ، روضة المحبين ونزهة المشتاقين ، ص 479

12  أحمد الشرباصي ، أخلاق القرآن ، ج3 ، ص27.

13  العسكري ، الأوائل ، ج1 ، ص 333.

14  ابن الجوزي ، صيد الخاطر ، ص 374.

15  موسى إبراهيم الإبراهيم ، تأملات تربوية في فقه الدعوة الإسلامية ، ص27.

16  محمد أحمد الراشد ، المسار ص45.

17  ابن الجوزي ، مرجع سابق ، ص199.

18  ابن الجوزي ، مرجع سابق ، ص486