في حب الله (11)

أهل الفهم عن الله تعالى

عبد المعز الحصري

[email protected]

إعلم أيها الأخ الحبيب أن أساس العلم اللدنّي - ]] قوله تعالى ( فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ). سورة الكهف (65) [[ - هو التقوى لقوله تعالى " واتقوا الله ويعلمكم الله " وثمرته الخشية لقوله تعالى " انما يخشى الله من عباده العلماء " ونتيجتة المنزلة والدرجات العليا ، قال الله تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ المجادلة 11

وأساس الخير كله - الفهم عن الله - الفقه وأن يتعلم المرء العلم لايريد به الا وجه الله تعالى " من يرد الله به خيرا يفقه في الدين " قال الامام علي رضي الله عنه : ( لاخير في عبادة لا فقه فيها ولافي قراءة لاتدبر فيها ) المرجع : الكتاب الجامع لفضائل القرآن الكريم ص15 مؤسسة آل البيت الملكية للفكر الاسلامي ، وحيثما تواجد الفقه والخشية من الله تواجدت البصيرة ، وصدق القائل ( لم يتخذ الله وليا جاهلا ولو اتخذه لعلمه )

وصدق القائل

إن   لله   عباداً  فطنا          تركوا الدنيا وخافوا الفتنا

نظروا فيها فلما علموا          أنها  ليست  لحي  وطنا

جعلوها لجة  واتخذوا  صالح الأعمال فيها  سفنا

قلت : أهل الفهم عن الله هو كل مؤمن كيّس فطن آثر ماعند الله على مافي يديه وباع نفسه لله فصلاته ونسكه وحياته ومماته لله " قل ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين.." ، وسلم قلبه من الاغيار – أي ماكان لغير الله – وعلم أن الواجبات أكثر من الاوقات فلم تكن له راحة ولا طمأنينة نفس الا بالله تعالى وعرف معنى " وأعبد ربك حتى يأتيك اليقين " واليقين معناه هنا الموت ، وكان من ذوي الهمم العالية في التسابق والمسارعة الى الخيرات " أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون " وكان من أهل السخاء بالنفس ، قال ابن عطاء السكندري " ...فان السخاء بالنفس والبذل لها من أخلاق الصديقين وشأن أهل اليقين عرفوا الله فبذلوا له نفوسهم علما منهم أن العبد لايملك مع السيد شيئا " المرجع التنويرفي اسقاط التدبير / ابن عطاء السكندري

 وأهل الفهم عن الله هم العلماء العاملين الربانيين وهم مصابيح يهتدي بهم الأنام وصدق القائل

مصابيح الانام بكل أرض          هم  العلماء  أبناء الكرام

تلألأ  علمهم  في كل واد          كنور البدر لاح بلا غمام

وهم الذين يرون الله قبل النعمة أومعها أو بعدها فهم على درجات من القرب ، فيأخذهم الوجد بقرب المنعم فلايلتفتون الى النعمة الا أنها عارية مستعارة

غنى لا فاقة فيه (1)

قال الشيخ أبو الحسن رحمه الله أيست من نفع نفسي لنفسي ، فكيف لا أيأس من نفع غيري لنفسي ، ورجوت الله لغيري ، فكيف لا أرجوه لنفسي وهذا الكيمياء والإكسير الذي من حصل له حصل له غنى لا فاقة فيه وعز لا ذل معه وإنفاق لا نفاد له وهو كيمياء أهل الفهم عن الله

الفهم عن الله (2)

 وليس يدل على شعار العبد كثرة عمله ولا مداومته على ورده وإنما يدل على نوره غناه بربه وانحباسه إليه بقلبه وتحرره من رق الطمع وتحليه بحلية الورع وبذلك تحسن الأعمال وتزكو الأحوال قال الله تعالى " إنا جعلنا ما على الارض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا ..." الكهف7 فحسن الأعمال إنما هو بالفهم عن الله ،

 والفهم هو ما ذكرناه من الاغتناء بالله والاكتفاء به والاعتماد به ورفع الحوائج إليه والدوام بين يديه وكل ذلك من ثمرات الفهم عن الله ، وتفقد وجود الورع من نفسك أكثر مما تتفقد ما سواه وتطهر من الطمع في الخلق فلو تطهر الطامع فيهم بسبعة أبحر ما تطهره إلا اليأس منهم ورفع الهمة عنهم وأنه لا يكمل فهم العبد حتى يكون مما في يد الله أوثق منه بما في يديه وبضمان الله الحق أوثق منه بضمان الخلق ويكفيك جهلا ألا تكون كذلك .

و أهل الفهم عن الله توكلوا على الله فكان هو المدخر لهم ، و استحفظوه فكان هو الحافظ لهم و كانوا له و به فكان بمعونته لهم فكفاهم ما أهمهم و صرف عنهم ما أغمهم اشتغلوا بما أمرهم عما ضمن لهم علماً منهم بأنه لا يكلهم إليهم ، و من فضله لا يمنعهم فدخلوا في الراحة ، و رفعوا في جنة التسليم و لذاذة التفويض ، فرفع الله بذلك مقدارهم و كمل أنوارهم ، و يحق أن يرفع المحاسبة عنهم بفضله كما قال رسول الله - عليه السلام - : " سبعون ألفاً من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب " ( 3 ) . قيل : من هم يا رسول الله ؟ قال : " هم الذين لا يرقون و لا يسترقون و لا يتطيرون و على ربهم يتوكلون " ( 4 ) و كيف يحاسب من لا شيء له أم كيف يسأل عن فعله من شهد أنه لا فعل له ؟ و إنما يحاسب المدعون ، و يناقش الغافلون الذين يشهدون أنهم مالكون أو مع الله فاعلون ، و من لم يدخر ثقة بالله و توكلاً عليه ساق الله له رزقه بوجود الهنا و أوجد في قلبه وجود الغنا .

 - إن الله وتر يحب الوتر ( 5 )

( إن الله وتر يحب الوتر ) : أي يحب القلب الذي لا يشفع بمشوبات الآثار فكانت هذه القلوب لله و بالله ، و تركوا الله يتصرف لهم فلم يكلهم إلى أنفسهم ، و لم يدعهم لتدبيرهم فهم أهل الحضرة الفاتحون بعين المنة لا تقطعهم عن الله محاسن الآثار ، و لا تشغلهم عنه بهجة الحسن المعار . المرجع التنوير في اسقاط التدبير / ابن عطاء السكندري

 قال عبد المعز الحصري معنى تركوا الله أي تركوا أنفسهم الى الله فتوكلوا على الله ولم يتواكلوا ، ولم يكن لهم خيار إلا ما اختاره الله لهم ، واستسلموا لأمر الله ومراده ، كما حصل مع سيدنا ابراهيم عليه الصلاة والسلام عندما قذف في النار .

 موانع السبق الى الله تعالى

انما منع العباد من السبق الى الله تعالى جواذب التعلق بغير الله فكلما همت قلوبهم أن ترحل الى الله جذبها ذلك التعلق الى مابه تعلقت فكرّت راجعة اليه ومقبلة عليه ، فالحضرة محرمة على من هذا وصفه وممنوعة ممن هذا نعته ، (6)

 قال بعض العارفين : أتظن أن تدخل الى الحضرة الالاهية وشيءمن ورائك يجذبك ، وافهم ههنا قوله سبحانه " يوم لاينفع مال ولابنون ، الا من أتى الله بقلب سليم " الشعراء 88 ، 89 والقلب السليم هو الذي لاتعلق له بشيء دون الله تعالى (7)

 الوقت عند أهل الفهم عن الله

علموا – أهل الفهم عن الله - أن الوقت كله له فلم يجعلوا شيئا منه لغيره وعلموا أن الانفاس أمانات الحق عندهم وودائعه لديهم فعلموا أنهم مطالبون برعايتها فوجهوا هممهم لذلك وكما أن الربوبية له دائمة كذلك حقوق ربوبيته عليك دائمة فربوبيته عليك غير مؤقتة بالاوقات فحقوق ربوبيته ينبغي أن تكون أيضا ، (8) ، وصدق القائل : من عرف الله بالربوبية قام له بأشراط العبودية . المرجع حال أهل الحقيقة مع الله لسيدي أحمد الرفاعي

 قلت : وأول آية بعد البسملة في ترتيب المصحف " الحمد لله رب العالمين " فلم يقل سبحانه ، الحمد لله اله العالمين - أو خالق أورازق العالمين - وقدّم " قل أعوذ برب الناس " على التي تليها فافهم ماقاله الشيخ سابقا " أي حقوق ربوبيته عليك دائمة " ولذلك وجب عليك عبادة دائمة وهو قوله تعالى " وماخلقت الجن والانس الاليعبدون "

 قال أبو محمد الجريري: من أراد صفاوة الوقت فليؤثر الله على شهوته ، المرجع : حال أهل الحقيقة مع الله لسيدي أحمد الرفاعي ص155 .

 ولقد أكرمني الله تعالى بمجالسة بعض أهل الفهم عن الله تعالى ( 9) أكثر من أربع عقود منهم سيدي الوالد الشيخ أحمد الحصري رحمه الله والذي لم يكن لديه وقت مخصص للراحة أو النوم أو الطعام أو السياحة ولو حول المعرة واستنشاق نسيمها العليل ، وكان باب بيت الشيخ الوالد مفتوح ليلا ونهارا أمام الناس للأسئلة الشرعية وحل المشاكل فيما بينهم ، قال عنه الشيخ الدكتور نور الدين عتر : كان الشيخ أحمد الحصري " عالما عاملا ربانيا فالفراغ الذي تركه الشيخ يلزمه عشرة من العلماء العاملين ليملؤوه "

قال الشيخ محمود الغانم ( أزهري ومن طلاب الشيخ ) : كان الشيخ يعمل في نشر العلم وجباية الزكاة - من القرى التابعة للمعرة في فصل الصيف – من أذان الفجر حتى الساعة الثانية عشر ليلا بلا كلل ولا ملل

 قلت وهذا من باب علم سيدي الوالد رحمه الله أن الوقت كله لله تعالى

 ولم يكن لنا نصيب من اجتماعنا مع سيدي الوالد رحمه الله على مائدة الطعام الا في شهر رمضان على مائدة الافطار ولدقائق معدودة وما ذلك الا لانشغاله بنشر العلم وحل مشاكل البلد والقرى التابعة له

 اللهم أتمم لنا نورنا وأصلح لنا شأننا وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين واحشرنا في زمرة العالمين العاملين تحت لواء سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام برحمتك يا أرحم الراحمين آمين .

سبحان ربك رب العزة عما يصفون ، وسلام على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين

                

(1)،(2): التنوير في إسقاط التدبير / ابن عطاء السكندري .

( 3 ) أخرجه البخاري ( رقاق 21 ، 50 ) منقول من المرجع السابق .

( 4 ) أخرجه البخاري ( طب 17 ، 42 ) منقول من المرجع اعلاه .

( 5 ) : أخرجه البخاري ( دعوات 69 ) .

(6) :التنوير في اسقاط التدبير / ابن عطاء السكندري

(7) : المرجع السابق

8) ) : المرجع السابق

(9) : كما أكرمني الله بمجالسة الشيخ الجليل عبد العزيز بن باز رحمه الله ، وسيدي الشيخ الدكتور محمد هشام البرهاني (دمشق) حفظه الله ، والعارف بالله الشيخ محمد الحامد (حماة ) رحمه الله ، والشيخ الفاضل الدكتور يوسف القرضاوي (مصر ) حفظه الله ، و العالم الجليل الشيخ أبو الأعلى المودودي (الهند ) رحمه الله ... الخ ، ولقد ذكرت هذه الفقرة ليعلم الكثير منا أن أهل الفهم عن الله والصادقون أنهم موجودون ،

قال الله تعالى " يا أ يها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين " وأن الأ نموذج الذي كان في عصر الصحابة – رضي الله عن الصحابة اجمعين - قد يتواجد شبيها له في زماننا فمنهم من يطأ بعرجته الجنة كالشيخ أحمد ياسين رحمه الله ولانزكي على الله أحدا ،

 و كما تواجدت في زماننا أيضا خنساء عصرها فجزاها الله خيرا ....