قبس من الهجرة النبوية
م. محمد عادل فارس
إن بقاء الدّعوة في أرض قاحلة يعوق مسارها ويشُلّ حركتها. وقد جرت سنّة الله في خلقه أن يُقبل بعض النّاس على دعوات رسله فتشرقَ نفوسُهم لهدايته، وأن يُعرض بعض الناس فينشأ الصّراع بين الحقّ والباطل. فإذا كانت الفئة المؤمنة من القلّة بحيث لا تملك إلا أن تظلّ مستضعفة في الأرض، فلن يكون أمامها إلا أن ترحل لتتمكّن من الانطلاق في أرض أخرى.
*دوافع هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وصحابته
استخدم المشركون وسائل كثيرة ضدّ الدّعوة الإسلاميّة، دفعت الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته إلى الهجرة. منها:
- أولا:ً مواجهة قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولدعوته وأتباعه بالسّخرية والاستهزاء.
- ثانياً: محاولات قريش صرف الناس عن الاستماع لرسول الله صلى الله عليه وسلم
- ثالثاً: استخدام وسائل البطش والتعذيب كافّة، ضدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته.
- رابعاً: مساومته صلى الله عليه وسلم بعرض الأمور الدنيويّة المُغْرِية عليه لاستمالته في الرّجوع عن هذا الدّين.
- خامساً: المقاطعة الظّالمة له ولبني هاشم، والتي استمرت ثلاث سنوات.
* الهجرة إلى المدينة المنورة
لو أنه صلى الله عليه وسلم نجح في دعوته بدون أي مشقّة أو جهد، لطمع أصحابه والمسلمون من بعده بأن يستريحوا كما استراح، ولاستثقلوا المصائب والمحن التي يجدونها في طريقهم إلى نشر الدعوة الإسلامية.
روى ابن ماجه في سننه عن جابر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَعْرِض نفسه على النّاس في المواسم فيقول: "هل رجلٌ يحملني إلى قومه فإنّ قريشاً قد منعوني أن أبلّغ كلام ربّي".
وجاء موسم الحج في السنة الحادية عشر من النّبوّة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعرض نفسه على قبائل العرب، كما كان يصنع في كل موسم، فبينما هو عند العقبة لقي رهطاً من الخزرج، فدعاهم إلى الله عزّ وجلّ، وعرض عليهم الإسلام، فأجابوه إلى ما دعاهم إليه.
ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم، وقد آمنوا وصدقوا.
فلما قدموا إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعوهم إلى الإسلام فاستجابوا حتى فشا بينهم، فلم تبقَ دار من دور يثرب إلا وفيها ذِكرٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعد عام من مقابلة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأولئك النّفر، وفي موسم الحجّ أيضاً خرج من المدينة اثنا عشر رجلاً من الذين أسلموا، وعزموا على الاجتماع برسول الله صلى الله عليه وسلم ليوثقوا معه إسلامهم.
وقد لقيهم النبي صلى الله عليه وسلم بالعقبة، وعقد معهم بيعة على الإيمان بالله وحده، والاستمساك بفضائل الأعمال والبعد عن منكَرها، وهي البيعة التي عُرِفت ببيعة العقبة الأولى.
ورأى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبعث معهم أحد الصحابة الكرام ليُعَلِّمَ من أسلم من أهل المدينة القرآن والفقه في الدين، ويدعو من لم يُسلِم إلى الإسلام. وكان هذا الصّحابي هو مصعب بن عمير t أول سفير في الإسلام.
كان مصعب متّسماً في دعوته بحسن أسلوبه، فنجح أيّما نجاح في نشر الإسلام. وعاد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبيل موسم الحج، يخبره بما لقي الإسلام من قَبولٍ حسن في يثرب.
4- بيعة العقبة الكبرى (أو الثّانية)
قال جابر بن عبد الله: "... فرحل إليه منّا سبعون رجلاً، فواعدناه شِعْب العقبة، فاجتمعنا عندها من رجل ورجلين حتى توافينا، فقلنا: يا رسول الله علام نبايعُك؟ قال: تبايعوني على السّمع والطاعة في النّشاط والكسل، والنّفقة في العُسر واليُسر، وعلى الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وأن تقوموا في الله لا تخافون لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني –إذا قدِمت عليكم- مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنّة.
وأمَرَهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُخرجوا منهم اثني عشر نقيباً يكونون على قومهم بما فيهم، فأخرجوا منهم النّقباء، تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس". حديث صحيح رواه الإمام أحمد.
تلكم بيعة العقبة الكبرى...
إنّ روح اليقين والفداء والاستبسال سادت هذا الجمع، وتمشت في كل كلمة قيلت، وبدا أن العواطف الفائرة ليست التي توجّه الحديث أو تملي العهود... كلا، فإن حساب المستقبل رُوْجع مع حساب اليوم، والمغارم المتوقعة نُظر إليها قبل المغانم الموهومة. لقد قام الأمر كله على التّجرّد المحض، والبذل الخالص.
لقد كان نجاح الإسلام في تأسيس وطن له وسط صحراء تموج بالكفر، أعظم كسْب حصل عليه منذ بدأت الدعوة إليه. فلم تكن الهجرة تخلصاً من الفتنة والاستهزاء فحسب، بل كانت تعاوناً عامّاً على إقامة مجتمع جديد في بلد آمن.
*هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة
أوحى الله تعالى إلى رسوله بما دبّر له المشركون من كيد، وأذِن له بالهجرة إلى المدينة.
ونحن لا نعرف بشراً أحق بنصر الله، وأجدر بتأييده مثل الرسول صلى الله عليه وسلم الذي لاقى في جنب الله ما لاقى. ومع ذلك فإن استحقاق التأييد الأعلى لا يعني التّفريط في استجماع أسبابه وتوفير وسائله. فأحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم خطة هجرته، وأعدّ لكل فرض عُدّته، فقد استبقى معه علياً وأبا بكر، وأذِن لسائر المؤمنين بتقدّمه إلى المدينة.
أما أبو بكر فقد اختاره ليكون صاحبه في الهجرة. وأما علي t فقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتخلّف حتى يؤدي عنه الودائع التي كانت عنده للناس. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده، لما يعلم من صدقه وأمانته!.
وقد كتم رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرار مسيره. فلم يُطْلِع عليها إلا من لهم صلة ماسّة بها، ولم يتوسع في إطلاعهم إلا بقدر العمل المنوط بهم.
واتفق مع أبي بكر على تفصيلات الخروج، وتخيّرا الغار الذي سيأويان إليه في بداية هجرتهما، تخيّراه جنوباً في اتجاه اليمن لتضليل المطارِدين، وواعدا فيه ابن أريقط بعد ثلاث ليالٍ بعد أن سلّماه راحلتيهما لعلفها وتجهيزها للسفر، وحددا الأفراد الذين سيتصلون بهما في أثناء اللجوء إليه، ومهمّة كل فرد منهم. فكانت مهمّة عبد الله بن أبي بكر أن يأتيهما بأخبار قريش، وهذا يدلّ على ما للشباب من أثر في نجاح الدعوات، فهم عِمادُ كل دعوة إصلاحيّة، وباندفاعهم للتّضحية والفداء تتقدّم الدعوات.
وهذا عامر بن فهيرة يرعى غنم أبي بكر نهاراً فإذا أمسى مرّ عليهما في الغار ليحتلبا ويذبحا، ثم سار بغنمه مُتتبّعاً آثار أقدام عبد الله بن أبي بكر ليَمْحوها حتى لا يستدل المشركون على أي أثر يوصلهم إلى الغار. وأوعز رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك إلى عليّ t أن يرتدي بُرْدَهُ الذي ينام فيه، وأن يتسجّى به على سريره. فنرى علياً الشابّ القويّ الإيمان، يستجيب لطلب رسول الله، ويفدي قائده بحياته.
وفي هجعة الليل وغفلة من الحرس الذين أحاطوا بمنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، انسلّ عليه الصّلاة والسّلام من بيته إلى دار أبي بكر، ثمّ خرجا إلى غار ثور الذي استودعته عناية الله مصير الرّسالة الخاتمة.
وانطلق مشركو مكة في آثار المهاجرين يرصدون الطّرق، حتى وصلوا قريباً من غار ثور، وأنصت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه إلى أقدام المطاردين تخفق إلى جوارهم، فهمس أبو بكر يُحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا. فقال الرسول عليه الصّلاة والسّلام: "يا أبا بكر ما ظنّك باثنين الله ثالثهما". رواه البخاري ومسلم.
وقال تعالى: }إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه: لا تحزن إنّ الله معنا. فأنزل الله سكينته عليه وأيَّدَهُ بجنودٍ لم تَرَوها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى. وكلمةُ الله هي العليا. والله عزيز حكيم{. التوبة:40.
والجنود التي يُخذَل بها الباطل ويُنصر بها الحقّ ليست مقصورة على صورة خاصة من الخوارق. إنّها أعمّ من أن تكون مادّيّة أو معنويّة، وإذا كانت ماديّة فإنّ خطرها لا يتمثّل في ضخامتها، }وما يعلم جنود ربّك إلا هو{.المدثر:31.
مرّت ثلاث ليالٍ على مبيت رسول الله وصاحبه في الغار، وخَمَدت حماسة المشركين في الطلب. فتأهّب المهاجران لاستئناف رحلتهما الصّعبة. وجاء ابن أريقط في موعده ومعه الرّواحل، وسار الرّكب على اسم الله.
ومن الجدير ذكره أن سُراقة بن مالك هو الوحيد الذي استطاع أن يقترب من رسول الله وصاحبه في أثناء هجرتهما. إلا أن فرسه ألقته عنها مرات عدة. فعرف أنّه لن يستطيع الوصول إليهما، فطلب من الرسول الكريم أن يعفو عنه، وعرض عليه الزّاد والعون، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلمم: "عَمِّ عنا الطلب" فقال: قد كُفيتم، ثم رجع فوجد النّاس جادّين في البحث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وصاحبه، فجعل لا يلقى أحداً من الطلب إلا ردّه... يا سبحان الله، أصبح أول النّهار جاهداً عليهما، وأمسى آخره حارساً لهما...
*الوصول إلى المدينة
وفي اليوم الثّاني عشر من ربيع الأول لثلاث عشرة سنة من البعثة، برز الأنصار على عادتهم، وفي حر الظهيرة وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. فأسرع الأنصار إلى السّلاح يستقبلون به رسولهم صلى الله عليه وسلم.
نزل النّبيّ صلى الله عليه وسلم أول ما نزل بقُباء، في بيت عمرو بن عوف، فأقام فيهم أربع عشرة ليلة. أسس خلالها مسجد قُباء.
بادر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بناء المسجد لتظهر فيه شعائر الإسلام التي طالما حُورِبت، ولتُقام فيه الصّلوات التي تربط المرء بربّ العالمين، وتنقّي القلب من أدران الأرض. إنّ للمسجد في الإسلام دوراً كبيراً... فهو مدرسة للعلم يتخرّج فيها دعاة الإسلام، ومنه تُوجَّه الجيوش لتأديب المعتدين. وفيه أيضاً تُعقد مجالس الشّورى، وتبحث مشكلات المسلمين...
واشترك الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في حمل اللبِنات والأحجار على كاهله... وكانوا يُروِّحون عن أنفسهم عناء الحمل والنّقل والبناء بهذا النشيد:
اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة
وقد ضاعفت حماسة الصّحابة في العمل رؤيتُهم النبي صلى الله عليه وسلم يَجْهَدُ كأحدهم، ويكره أن يتميز منهم، فارتجز بعضهم هذا البيت:
لئن قعدنا والرسول يعمل لذاك منا العمل المضلّل
وتم بناء المسجد في حدود البساطة: فراشه الرمال والحصباء، وسقفه الجريد، وأعمدته الجذوع.
هذا البناء المتواضع هو الذي ربّى ملائكة البشر، ومؤدبي الجبابرة، وملوكَ الدار الآخرة...
وحَرَصَ الأنصار على الحفاوة بإخوانهم المهاجرين، فما نزل مهاجري على أنصاري إلا بقُرعة (لشدّة تنافسهم في استقبالهم)!! وقدّر المهاجرون هذا البذل الخالص فما استغلّوه، ولا نالوا منه إلا بقدر ما يتوجّهون به إلى العمل الشّريف.
فما أحوجنا اليوم، نحن المسلمين، إلى استيعاب هذا الدرس في الأخوّة الإسلاميّة التي افتقدناها بسبب الأثَرة والشّحّ، فتمزّقنا شرَّ ممزّق، وأصبحنا فريسة عاجزة تُغري كل مُعتدٍ بالعدوان، وتشجّع كل طامع في استلابنا، ومن هانت عليه نفسه فهي على غيره أهون.
****
عندما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وَجَدَ بها يهوداً توطّنوا، ومشركين مستقرّين. فلم يتّجه فكره إلى رسم سياسة للإبعاد أو الخصام، بل قَبِلَ وجود اليهود والوثنيّة، وعرض على الفريقين أن يعاهدهم معاهدة الندّ للندّ، فسنّ بهذا الشأن قوانين السّماح والتّجاوز التي لم تُعهَد في عالم مليء بالتّعصّب والتّغالي.
لقد كانت كل بنود الوثيقة تنطق برغبة المسلمين في التعاون الخالص مع يهود المدينة لنشر السّكينة في ربوعها، والضرب على أيدي العادين، ومدبّري الفتن أيّا كان دينهم، وقد نصّت بوضوح على أن حق التديّن مكفولٌ لسائر الفرقاء.. بل تكاتفت العبارات في هذه المعاهدة على نصرة المظلوم، وحماية الجار، ورعاية الحقوق الخاصّة والعامّة.
أحكام الهجرة
الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام:
كانت الهجرة في أيام النبيّ صلى الله عليه وسلم من دار الحرب إلى دار الإسلام فرضاً، وفرضيّتها هذه باقية إلى يوم القيامة، والدليل على ذلك ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحاديث كثيرة تدلّ على بقاء هذه الفرضيّة.
فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد –ورجاله ثقات- عن معاوية t. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها".
بل إن حكم فرضيّة الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام، قد جاء في القرآن الكريم نفسه في نحو قوله تعالى: }إنّ الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا: فيم كنتم؟ قالوا: كنا مُستضعَفين في الأرض. قالوا: ألم تكن أرض الله واسعة فتُهاجروا فيها؟ فأولئك مأواهم جهنّم وساءت مصيراً. إلا المُستضعَفين من الرّجال والنّساء والولدان لا يستطيعون حِيلة ولا يهتدون سبيلاً. فأولئك عسى الله أن يعفوَ عنهم وكان الله عفوّاً غفوراً{. سورة النّساء:97-99.
قال الزّمخشريّ: وهذا يدلّ على أن الرّجل إذا كان في بلد لا يتمكّن فيه من إقامة أمر دينه كما يجب، لبعض الأسباب، وعلِم أنه في غير بلده أقوَمُ بحق الله، حقّت عليه الهجرة.
وقال الإمام الفخر الرازي في تفسير قوله تعالى: }والذين آمنوا من بعدُ وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم{.سورة الأنفال:75. :" وقال الحسن: الهجرة غير منقطعة أبداً، وأما قوله عليه السّلام "لا هجرة بعد الفتح" فالمراد الهجرة المخصوصة. فإنها انقطعت بالفتح وبقوة الإسلام.
وأما حديث "لا هجرة بعد الفتح"، وحديث "إن الهجرة قد انقطعت" فهي الهجرة من مكة إلى المدينة، إذ بعد فتح مكة صارت دار إسلام، ولا معنى للهجرة منها.
على من تجب الهجرة؟
تجب الهجرة على من تحققت فيه صفتان: أولاهما القدرة على الهجرة، والأخرى: العجز عن إظهار دينه, والقيام بشعائر عبادته في أرض الكفر، فهذا تجب عليه الهجرة بدينه إلى الله ورسوله استعلاءً لعقيدته، وتمرداً على الضّعف والاستكانة، وطلباً للعزّة والحريّة والكرامة. فإذا هاجر فقد التزم بالشّرع الحنيف، وإذا لم يهاجر فقد تقاعس عن الإذعان للحقّ، ورضي بالمعيشة في دار لم يستطع فيها إظهار دينه مع قدرته على الهجرة منها. وفي هذا التّقاعس جاء النّعي والتّنديد في الآيات من سورة النّساء.} إنّ الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا: فيم كنتم؟...{ولا تجب الهجرة باتفاق، ولا تستحبّ كذلك، على من فَقَدَ القدرة على الهجرة.
وهؤلاء هم المعنيّون بالاستثناء في قوله عزّ وجلّ: }إلا المُستضعَفين من الرّجال والنّساء والولدان لا يستطيعون حِيلة ولا يهتدون سبيلاً{. فهؤلاء الذين لا يقْدرون فعلاً على المقاومة, لشيخوختهم، وكذلك النّساء والأطفال الذين لا يجدون وسيلة تخلّصهم مما هم فيه من القهر والذلّ، ولا يعرفون طريقاً يستطيعون سلوكه للنجاة، إمّا للضّعف أو المرض، وإمّا للفقر والجهل بمسالك الأرض، فهؤلاء يُرْجى أن يعفو الله عنهم، لأنه سبحانه وتعالى لا يكلّف نفساً إلا وسعها. انظر تفسير المنار: ج5، ص191.
أما من كان قادراً على الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام لكنه يمكنه إظهار دينه بها، فإن الهجرة في حقّه لا تجب، ولكن تُستحبّ.
قال صاحب المغْنِي:
"الناس في الهجرة على ثلاثة أضرب:
أحدها: من تجب عليه وهو من يقدر عليها، ولا يمكنه إظهار دينه، ولا تمكنه إقامة واجبات دينه مع المقام بين الكفار.
الثّاني: من لا هجرة عليه، وهو من يعجِز عنها، إمّا لمرض أو إكراه على الإقامة، أو ضعف من النّساء والولدان وشبههم.
والثّالث: من تُستحبّ له ولا تجب عليه، وهو من يقدر عليها لكنه يتمكّن من إظهار دينه وإقامته في دار الكفر، فتُستحبّ له ليتمكّن من جهادهم وتكثير المسلمين ومعونتهم، ويتخلص من تكثير الكفار ومخالطتهم ورؤية المنكر بينهم.
موالاة من لم يهاجر، مع قدرته على الهجرة
قال تعالى: }والذين آمنوا ولم يُهاجروا ما لكم من وَلايتهم من شيء حتى يُهاجِروا. وإن استنصروكم في الدّينِ فعليكمُ النَّصرُ إلا على قومٍ بينكم وبينهم ميثاقٌ، والله بما تعملون بصير{.الأنفال:72.
أي الذين دخلوا في الدين الإسلاميّ عقيدةً، ولكنّهم لم يلتحقوا بالمجتمع المسلم فعلاً... ولم يهاجروا إلى دار الإسلام التي تحكمها شريعة الله، وتُدبِّر أمرَها القيادةُ المسلمة، ولم ينضمّوا إلى المجتمع المسلم الذي أصبح يملك داراً يقيم فيها شريعةَ الله، بالولاء للقيادة الجديدة والتّجمّع في تجمّع عضوي حركيّ، مستقلّ ومنفصل عن المجتمع الجاهليّ.
وُجِدَ هؤلاء في مكة، أو في الأعراب حول المدينة، يعتنقون العقيدة، ولكنهم لا ينضمّون للمجتمع الذي يقوم على هذه العقيدة، ولا يدينون فعلاً دينونةً كاملةً للقيادة القائمة عليه.
وهؤلاء لم يُعدُّوا أعضاء في المجتمع المسلم، ولم يجعل الله لهم ولاية كاملة مع هذا المجتمع. وهذا الحكم مفهوم ومنطقيّ مع طبيعة هذا الدين ومع منهجه الحركي الواقعيّ؛ فهؤلاء الأفراد ليسوا أعضاءً في المجتمع المسلم، ومن ثَمّ لا تكون بينهم وبينه ولاية. ولكن هناك رابطة العقيدة، وهذه لا ترتِّب – وحدها- على المجتمع المسلم تبعاتٍ تجاه هؤلاء الأفراد، اللهم إلا أن يُعتدى عليهم في دينهم، على شرط ألا يُخِلّ هذا بعهدٍ من عهود المسلمين مع معسكر آخر. ذلك أن الأصل هو مصلحة المجتمع المسلم. فهذه لها الرّعاية أولاً. هجرة أُخرى عامة تجب على كل أحد في كل أرض
وبعد أن تناولنا الهجرة الجسمانيّة التي تكون من بلد إلى بلد نتناول: هجرة أُخرى تعدّ أصلاً لهجرة الأجساد ألا وهي الهجرة بالقلب إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وهذه الهجرة يهاجر فيها المسلم بقلبه، من محبّة غير الله إلى محبّته، ومن عبوديّة غيره إلى عبوديّته، ومن خوف غيره ورجائه والتوكّل عليه، إلى خوف الله ورجائه والتّوكّل عليه، ومن دعاء غيره وسؤاله والخضوع له والذلّ والاستكانة له... إلى دعائه وسؤاله والخضوع له والذلّ والاستكانة له.
وهذا بعينه معنى الفرار إليه. قال تعالى: }ففرّوا إلى الله{. سورة الذّاريات:50.
والتّوحيد المطلوب من العبد هو الفرار من الله إليه.
والفرار إليه سبحانه يتضمّن إفراده بالطلب والتعبّد ولوازمهما، فهو متضمّن لتوحيد الإلهية التي اتّفقت عليها دعوة الرّسل الكرام.
وأما الفرار منه فهم متضمّن لتوحيد الربوبيّة وإثبات القدر، وأن كل ما في الكون من المكروه والمحذور الذي يفرّ منه العبد، فإنّما أوجبته مشيئة الله وحده، فإنّه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. فإذا فرّ العبد إلى الله فإنّما يفرّ من شيء إلى شيء وُجِد بمشيئة الله وقدره فهو في الحقيقة فارّ من الله إليه.
ولهذا قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: "المُهاجِر من هَجَرَ ما نهى الله عنه". رواه البخاريّ. ولهذا يقرن الله سبحانه بين الإيمان والهجرة في غير موضع، لتلازمهما واقتضاء أحدهما للآخر.
والمقصود: أن الهجرة إلى الله تتضمّن هِجْران ما يكرهه، وإتيان ما يحبّه ويرضاه، وأصلها الحبّ والبغض، فإن المهاجر من شيء إلى شيء، لابدّ أن يكون ما هاجر إليه أحب مما هاجر منه، فيُؤثِر أحبَّ الأمرين إليه على الآخر.
اللهم تقبّل هجرة من هاجر إليك إليك، وثبّت منه الأقدام، وهيّئ له مُراغَماً كثيراً وسَعة، واكتب له الأجر العظيم.