فَتَبَيَّنُواْ 24
النداء الرابع والعشرون
فَتَبَيَّنُواْ
رضوان سلمان حمدان
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾ النساء94
المعاني المفردة[1]
ضَرَبْتُمْ: أي : ذهبتم.
فِي سَبِيلِ اللّهِ: إلى أرض العدو للغزو .
فَتَبَيَّنُواْ: التثبُّت، والبيان، وهما متقاربان لأن مَنْ تَثَّبت في الشيء تبينه، وقال الفارسي: "التثبُّت هو خلاف الإقدام والمراد التَّأنِّي، والتثبت أشد اختصاصاً بهذا الموضع.
السَّلاَمَ: التّحية، أو الاستسلام والانقياد بقوله كلمة الشهادة التي هي أمارة على الإسلام.
تَبْتَغُونَ: أي : تطلبون بقتله.
عَرَضَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا: أي : ماله الذي هو سريع النفاد. متاعها الفاني من الغنيمة.
مَغَانِمُ: أي أرزاق ونِعم.
في ظلال النداء[2]
يأمر الله المسلمين إذا خرجوا غزاة ، ألا يبدأوا بقتال أحد أو قتله حتى يتبينوا؛ وأن يكتفوا بظاهر الإسلام في كلمة اللسان ( إذ لا دليل هنا يناقض كلمة اللسان ) .
وقد وردت روايات كثيرة في سبب نزول الآية : خلاصتها أن سرية من سرايا المسلمين لقيت
رجلاً معه غنم له . فقال السلام عليكم . يعني أنه مسلم . فاعتبر بعضهم أنها كلمة يقولها لينجو بها ، فقتله .
ومن ثم نزلت الآية ، تحرج على مثل هذا التصرف؛ وتنفض عن قلوب المؤمنين كل شائبة من
طمع في الغنيمة؛ أو تسرع في الحكم . . وكلاهما يكرهه الإسلام .
إن عرض الحياة الدنيا لا يجوز أن يدخل للمسلمين في حساب؛ إذا خرجوا يجاهدون في سبيل الله . إنه ليس الدافع إلى الجهاد ولا الباعث عليه . . وكذلك التسرع بإهدار دم قبل التبين . وقد يكون دم مسلم عزيز ، لا يجوز أن يراق .
والله سبحانه يذكر الذين آمنوا بجاهليتهم القريبة وما كان فيها من تسرع ورعونة؛ وما كان فيها من طمع في الغنيمة . ويمن عليهم أن طهر نفوسهم ورفع أهدافهم ، فلم يعودوا يغزون ابتغاء عرض الحياة الدنيا كما كانوا في جاهليتهم . ويمن عليهم أن شرع لهم حدوداً وجعل لهم نظاماً؛ فلا تكون الهيجة الأولى هي الحكم الآخر . كما كانوا في جاهليتهم كذلك . . وقد يتضمن النص إشارة إلى أنهم هم كذلك كانوا يخفون إسلامهم - على قومهم - من الضعف والخوف ، فلا يظهرونه إلا عند الأمن مع المسلمين ، وأن ذلك الرجل القتيل كان يخفي إسلامه على قومه ، فلما لقي المسلمين أظهر لهم إسلامه وأقرأهم سلام المسلمين .
﴿ كذلك كنتم من قبل . فمن الله عليكم . فتبينوا . إن الله كان بما تعلمون خبيراً﴾.
وهكذا يلمس المنهج القرآني القلوب لتحيا وتتحرج وتتذكر نعمة الله . . وعلى هذه الحساسية والتقوى ، يقيم الشرائع والأحكام؛ بعد بيانها وإيضاحها .
وهكذا يتناول هذا الدرس تلك الجوانب من قواعد المعاملات الدولية بمثل هذا الوضوح ، ومثل هذه النظافة . منذ أربعة عشر قرناً . .
هداية وتدبر[3]
1. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَانَ رَجُلٌ فِى غُنَيْمَةٍ لَهُ فَلَحِقَهُ الْمُسْلِمُونَ فَقَالَ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ فَقَتَلُوهُ وَأَخَذُوا غُنَيْمَتَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِى ذَلِكَ إِلَى قَوْلِهِ ﴿عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ تِلْكَ الْغُنَيْمَةُ. قَالَ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ السَّلاَمَ.[4] وفي رواية فلما قدموا على رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قالوا: يا رسول الله ! إن رجلاً شهد أن لا إله إلا الله، فقتله المقداد، فقال : "ادعوا لي المقداد،
يا مقداد ! أقتلت رجلاً يقول: لا إله إلا الله ! فكيف لك بـ ( لا إله إلا الله ) غداً" ؟
2. موضوع الآية محصور في ضرورة التّثبّت في الأحكام وعدم التّسرّع في أمر القتل، لخطورته، وأنه يكتفى في الحكم على الشخص بالإسلام بالنّطق بالشهادتين في الظاهر، دون حاجة للكشف عما في القلب واستبطان الحقيقة والواقع، فذلك ليس من شأن البشر، وإنما أمر القلوب متروك لعلّام الغيوب.
3. يأمر تعالى عباده المؤمنين، إذا خرجوا جهادًا في سبيله، وابتغاء مرضاته ـ أن يتبينوا، ويتثبتوا في جميع أمورهم المشتبهة. فإن الأمور قسمان: واضحة وغير واضحة. فالواضحة البينة، لا تحتاج إلى تثبت وتبين، لأن ذلك، تحصيل حاصل. وأما الأمور المشكلة غير الواضحة، فإن الإنسان يحتاج إلى التثبت فيها والتبين، هل يقدم عليها أم لا ؟ فإن التثبت في هذه الأمور، يحصل فيه من الفوائد الكثيرة، والكف عن شرور عظيمة، فإنه به يعرف دين العبد، وعقله، ورزانته. بخلاف المستعجل للأمور في بدايتها، قبل أن يتبين له حكمها ، فإن ذلك يؤدي إلى ما لا ينبغي. كما جرى لهؤلاء الذين عاتبهم الله في الآية ، لما لم يتثبتوا.
4. والواقع أنه من الخطأ أن يكون الرجل مؤمنا ويبقى بين ظهرانى الكافرين! يجب أن يلتحق بدار الهجرة، حتى يعين فى بناء الدولة الجديدة، ويتحمل مع إخوانه المسلمين أعباء المستقبل المنشود. إن بقاءه مستخفيُا بعقيدته قد يلحق به الأذى، وقد يستحق به حكم المستضعفين الذين ذكرتهم الآيات بعد ﴿إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا * إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان..﴾الخ. والهجرة بالعقيدة طريق الأمان والنصر، وباب إلى غد أفضل وأسعد!. ليس هناك أذل ممن يقبل الدنية فى دينه ودنياه لالتصاقه بتراب ولد عليه، وقد وعد الله المهاجرين بالمستقبل الأرغد، والخير الكثير فى الدنيا والآخرة. والحق أن غيرنا تحرك على سطح الأرض فعمرها وملكها، وترك عليها عقيدته ولغته. والمسلمون أولى بالتنقل فى أرض الله، كى ينشروا رسالتهم، ويصلوا الخلق بخالقهم.
5. هذا بيان نوع من أنواع القتل الخطأ الذي كان يحصل في الماضي بسبب قيام حالة الحرب أو الحرب نفسها مع المشركين، وفيه تسرّع بالحكم بعدم الإسلام على الرجل، بعد أن بيّن اللّه تعالى في الآية السابقة حكم نوعي القتل: الخطأ والعمد. وذكر القرطبي أن هذه الآية متصلة بذكر القتل والجهاد في الآيات السابقة.
6. وفي الآية نصّ صريح على أن هدف المؤمنين من الجهاد كما شرع اللّه هو إعلاء كلمة اللّه تعالى، لا من أجل التّوصل إلى المغانم الحربية أو العروض الدّنيوية أو المكاسب المادية، فإن اللّه وعد بالرّزق والمغانم الكثيرة من طرق أخرى حلال دون ارتكاب محظور، فلا تتهافتوا.
[1] . الدر المصون في علم الكتاب المكنون. محاسن التأويل. التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج.
[2] . في ظلال القرآن.
[3] . حديث 4634 - التفسير - صحيح البخارى. محاسن التأويل. التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج. فيض الرحمن تفسير جواهر القرآن. نحو تفسير موضوعي - محمد الغزالي.