مذكرات غريب... في عشر ذي الحِجَّة
شريف قاسم
( والفجر * وليالٍ عشر ) ... ما أجمله من فجر ، وما أغلاها وأبهاها من ليالٍ ، العملُ الصالحُ فيها أحبُّ إلى الله من العمل في غيرِها . ما أغلى وأبهى أصداء التكبير والتسبيح والتهليل ، في بيوت الله ، وفي أحياء المدينة وأسواقها ، ما أجمل شعور المصلين فيها والصائمين وهم في حالة قرب مع الله ، يستقبلون نفحات بِرِّه وعفوه وفضله ، تلك سنن الإسلام العظيم لم يستطع طوفان الشرِّ والأذى المحدق بالأمة الإسلامية أن يطمسها ، وهيهات لقوة على وجه الأرض أن تلغي ما أراد الله عزَّ وجلَّ ... عشر ذي الحجة ، يوم عرفة ، يوم النحر ، يوم القرِّ حيث يستقر الحجاج في منى ،يوم المباهاة الذي يباهي الله بأهله ملائكته المقربين ...
عشر ذي الحجة ... موسم فضل الله على عباده في مشارق الدنيا ومغاربها ، تستقبله الأمة بالشوق والفرح ، وبالتوبة وهي تستشعر ضرورة العودة إلى الله ، إلى أيامه المباركات ، لتجدد العزم والإيمان للدخول في ميدان العزة بالإسلام ، والقوة واليقين بالفتح منه سبحانه وتعالى ، والتمسك بالقرآن العظيم ففيه القبول والرفعة ، وبتلاوته حرب على شياطين الإنس والجن ، والأخذ بسُنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ففيها النجاة ، وفيها الخروج من هذه الظلمات الحالكات ، وهذه الفتن الموَّارة التي يحتار في أمرها الحليم . فلا بدَّ من غسل الأدران الجسدية والنفسية ، لابدَّ من طهارة البدن والنفس من زينة الحياة الدنيا الرخيصة ، تلك الزينة التي قدَّست ماحرَّم الله ، وأباحت ماهو منكر في شريعة الله ، وألبست أبناء الأمة ثياب غيِّها وفسادها .
( والفجر * وليال عشر ) ... فيها لنا ذكريات ، ففي الفؤاد نفحات عاطرات ، وفي اللسان نغمات أثيرات ، كان وما زال ــ بفضل الله ــ صداها يرددُ : ( فصلِّ لربك وانحر ) ، وللأرجل خطوات تشق غبش الوَهن والكآبة إلى بيوت الله العامرات بصلاة الجماعة والجمعات وعيدي الفطر والأضحى ... أيام مباركات فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : ( مامن أيام العملُ الصالحُ فيهن أحبُّ إلى الله من هذه الأيام العشر ) ، قالوا : ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال : ( ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسِه ومالِه فلم يرجع من ذلك بشيء ) رواه البخاري والبيهقي . الله أكبر ... أيام فيها العمل الصالح أعظم من الجهاد في سبيل الله . كيف لاتفرح الأمة بها ، وبما فيها من رحمات وبركات ، كيف لاتردد الأمة الإسلامية في مشارق الدنيا ومغاربها : الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله ، والله أكبر ، الله أكبر ولله الحمد ... ويح الليالي ... كنا نرددها فتهتز جنبات المدينة ، وتكبر معها المآذنُ الشامخات ، كان عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما يكبِّر وهو في منى خلف الصلوات ، وعلى فراشه إذا جلس ، وفي فسطاطه ، وفي وقوفه وممشاه ، وكان عمر رضي الله عنه وأرضاه ( يكبر في قبته بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبرون ، ويكبر أهلُ الأسواق حتى ترتجَّ منى تكبيرا ) . كنا نرددها ونحن نزور الأرحام والأحباب والجيران ، وكنا نرددها إذا التقينا طالبين من الله قبول الطاعات وغفران الزلاَّت ، وما زلنا ولله الحمد نرددها ، ونتذكر لياليها هناك بعد مرور ثلث قرن على فراق الأهل والأرحام والأحبة والديار . ولئن حال سياج النوى وعصف الرياح دون زيارة أولئك ، فإن دعاءَنا إلى الله لهم يشق وطأة النَّوى ، وهوج العاصفات ...
وفي عشر ذي الحجة ... تترقرق دموع الشوق إلى الله ، والفرح بقدوم نسائم الرحمة والبشرى ، وتستشرف الروح ماعند الله من وعد كريم ، وهي مشغوفة بمنه وكرمه جلَّ وعلا . متعلقة بمحض قدرته وخفي لطفه وقريب فرجه ، ولا ضير بعد ذلك بما كان ولا بما سيكون ، مادامت صلاتنا ونسكنا ومحيانا ومماتنا لله رب العالمين ، وطوبى للغرباء تجرعوا كؤوس الظلم ،وهم هم الذين تعكر لياليهم الرزايا الجِسام التي تعاني منها الأمة ، ولكنَّ مواقفهم الوضيئة علت بهم من بين الآخرين ، وكأن الليالي نثرت كنانة عزِّها ، وعجمت عيدان فضلها فلم تجد أسمى منهم نفوسا ، ولا أعلى منهم مكانة في منازل الذين أكرمهم الله بتلاوة القرآن الكريم ، وبالأخذ بالسُّنة الغراء ، وبالأعمال الصالحات الباقيات . طوبى للغرباء الذين يعيشون لله وادعةً نفوسُهم ، قريرةً أعينُهم ، واثقةً عزائمُهم لايثقلها متاع الدنيا الرخيص ، ولا عليهم إذا ذكروا الأوطان ، وحنَّت قلوبُهم إلى الأهل والإخوان ، فتلك دلائل الوفاء والمروءة عند أهل الإيمان . ما أكثر الغرباء في زمن المترفين الأشقياء ، إنهم أهل الهجرة الذين فرُّوا بدينهم ، فبارك الله لهم فيما أعطى ، وبارك لهم في الشدائد التي تغشاهم آناء الليل وأطراف النهار ، بارك الله لهم وهم في السجون والمعتقلات ، وبارك الله لهم وهم بين أشداق القوى الاستعمارية والاستكبار العالمي ... مازالوا على نهج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هذا عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه يسرع إلى بيته ، ملبِّيًا دعوة نبيِّه صلى الله عليه وسلم حين دعا الناس لتجهيز سرية تجاهد في سبيل الله ، فعاد من بيته قائلا : يارسول الله عندي أربعةُ آلاف ، ألفان أقرضهما ربي ، وألفان تركتهما لعيالي ، فقال له الحبيب صلى الله عليه وسلم : ( بارك الله لك فيما أعطيت ، وبارك الله لك فيما أبقيتَ ) ، وهنا أجدني مرغما ــ والله ــ على تهنئة الغرباء أينما كانوا ، وحيثما حلُّوا ... أهنئهم بما لهم عند الله من مكان ومكانة ، وأدعو الله لهم قائلا : اللهم باسمك سارت أقدامنا ، وباسمك نطقت أفواهنا ، وباسمك نعيش ليالينا هذه ... فأنزلنْ علينا سكينتك ورحمتك ، وأيِّدنا بفتح من عند تحيي به مجد أمتنا ، وتجمع شملنا ، واحفظنا بما تحفظ به عبادك الصالحين .
وفي عشر ذي الحجة :
هاجتْ نسائمُ شوقٍ في جوانحِنا |
|
فهيَّجتْ مهجةً تاقتْ لأربُعِنا |