لبيك اللهم لبيك

الإمام الشهيد حسن البنا

ما أجل عظمة الربوبية، وما أعظم فضل الألوهية، وما أجمل أن يتفضل الله على عباده فيدعوهم إلى بيته العتيق؛ ليغفر ذنوبهم، ويطهر قلوبهم، ويضاعف أجورهم، ويجدد أرواحهم، ويمنحهم من فيض فضله ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وما أجمل أن يتفتح قلب المؤمن على هذا النداء العلوي، ويتلقاه كما تتلقى الزهرة الناضرة قطرات الندى؛ فيحيا به ويسعد، ويتجهز من فوره لإجابة دعوة الله والانضمام إلى وفده الكريم، مهاجرًا إلى حرمه المقدس وبيته الأمين، هاتفًا من أعماق قلبه: لبيك اللهم لبيك.

أيها الأخ الكريم، إن كنت ممن سمعوا هذا النداء فأجابوا الدعاء، وقُدِّر لهم أن يكونوا في وفد الله- تبارك وتعالى- فاعلم أنها غرة السعادة، وفاتحة الخير كله، وعنوان رضوان الله، فما دعاك إلا وهو يحبك، وما ناداك إلا ليمنحك، والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً، والله واسع عليم؛ فَهَنِّئ نفسك بهذا الفضل المبين، وتقبل منا تهنئة الإخوان المحبين، وسترى في هذه الكلمات صورة موجزة من السنة المطهرة في أداء الفريضة، فاذكرنا بصالح الدعوات في تلك الأوقات الكريمة والأماكن المشرفة، وإن حالت دون ذلك الحوائل فصاحب الحجاج بقلبك، ورافقهم في أداء المناسك بروحك، فإن لك مثل ثوابهم إن شاء الله، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد القائل لأصحابه ما معناه: "إن بالمدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم، قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: حبسهم العذر"(2).

وفقنا الله وإياك إلى حج بيته، وزيارة رسوله، وكتب لنا ولك القبول.

الحج والعمرة في الإسلام

الحج فريضة من فرائض الله، أمر بها عباده وكلَّفهم أداءها، وأعد لهم جزيل الثواب إن فعلوها، وتوعد بأشد العقوبة من تركها، وهو عليها قادر ولها مستطيع، وهو ركن من أركان الدين الخمسة، يتم بتمامه وينقص بنقصه، وهو من بين هذه الأركان عبادة العمر وتمام الأمر(4)، وفيه نزل قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾ (المائدة: من الآية 3)، وقد وردت بذلك آيات الكتاب الكريم وأحاديث الرسول العظيم، قال الله تعالى: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ (آل عمران: 97).

وهذا تركيب يدل على عظيم العناية بالحج وتأكُّد فرضيته، ألست ترى أن الحق- تبارك وتعالى- اعتبره دينًا له على عباده في قوله ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾؟

وألست ترى أنه- تبارك وتعالى- جعل مقابل القعود عن أدائه الكفر، وهو أشد المقت، فقال تعالى: ﴿وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾؟ ولم يعهد هذا التركيب في فريضة أخرى في كتاب الله غير الحج تنبيهًا على عظيم قدره وجليل أهميته.

1- قال تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ﴾ ( البقرة: من الآية 196)، والمعنى: أكملوا الحج والعمرة خالصين لله، وأنتم ممتثلين لأوامر الله مجيبين دعوة الله، ولعلك لاحظت هنا أيضًا في هذه الآية أنه- تبارك وتعالى- جعل الحج والعمرة ملكًا له تأكيدًا للمعنى الأول، وتنبيهًا على مزيد العناية بهذين العملين الجليلين.

2- وقال تعالى: ﴿وَأَذِّن في النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ في أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾ (الحج 27-28).

والمعنى أن الله- تبارك وتعالى- أمر خليله إبراهيم عليه السلام بعد أن أتمَّ بناء البيت أن يُعلن فرضية الحج منذ تلك الساعة، فامتثل أمر ربه، ونادى في الناس: "أيها الناس إنَّ ربكم بنى بيتًا فحجوه"، وكان ذلك بمنزلة إعلان ما كان في وقته- عليه السلام- وما سيكون بعده إلى يوم القيامة من تقديس البيت والمبادرة إلى حجه وعمارته

شهر في الأرض المقدسة

شعور شائع:

منذ عزمت على زيارة الأرض المقدسة كان يشيع في نفسي شعور غريب قوى فعال يهز روحي هزًّا قويًّا، ويتأثر به قلبي تأثرًا غريبًا، ومن العواطف القوية ما لا يعرف لونه؛ فهو مزيج من الأمل، ومن الإشفاق، ومن الخوف، ومن الرجاء، ومن الحب، ومن الوله، ومن الشوق، ومن الحنين، وكذلك كان شعوري كلما تذكرت عزمي على زيارة الأرض المقدسة.

وكثيرًا ما تكون تلك العواطف المركبة أبعد أثرًا وأعمق غورًا مما يظن الناس؛ فلقد كنت أجلس إلى نفسي فأتمثل لها مكة ومقدساتها، وطيبة وأنوارها، وأصعد بها إلى الماضي البعيد؛ فتستعرض قريشًا وآثارها والدعوة الأولى وأسرارها،

ثم تستمر سائرة مع تاريخ الإسلام الحي القوى، فإذا ساعات عظيمة وانتصارات تسمو على البشرية، وتتعالى على التاريخ نفسه، وتتحدى الأرض ومن فيها، وإذا ساعات من الضعف تُثير الشجون وتستدر العيون.

وكذلك كان شأني في هذه الجلسة التي أخلو فيها بنفسي قبل السفر؛ فأستعرض الخواطر جميعًا، وكثيرًا ما كنت أرى نفسي مندفعًا في بكاء صامت أو مغمورًا في فيض من الشعور بالسرور، أو ذاهلاً لا أذكر مما حولي إلا هذه الخواطر التي تجسمت أمامي، فتخيلتها الحقوق الماثلة.

ولبعض الألفاظ سلطان قوى على النفس لارتباطه القوى بذكريات مسميات هذه الألفاظ، ولصلته المتينة بشعورٍ سابقٍ ولاحق، تُثيره هذه الذكريات؛ فإذا ما ذكرت هذه الألفاظ أهاجت الساكن، وحركت الكامن؛ فاندفعت تتأثر للكلمة، وتبكي للفظ وما هو إلا المعنى الرمزي لكل ما تعلق به من مشاعر وذكريات؛ فالكعبة، والبيت الحرام، وحراء، وزمزم، ومقام إبراهيم، وغار ثور، وخيف منى، ووادي عرفة، ومسجد نمرة، وبطن الصفا، ومسجد بلال، ومصلى التنعيم، والمشعر الحرام، وشامة، وطفيل، ومزدلفة، وثبير، وحرة واقم، وبنى سالم بن عوف، ومسجد قباء، وبئر آريس، وجبل أحد، وروضة البقيع، والروضة بين القبر والمنبر، وآثار الخندق.

كل هذه الأسماء في مكة والمدينة، لها على نفسك سلطان أي سلطان، حين تذكرها، وحين تمثلها لنفسك، وحين تمنى نفسك برؤيتها ومشاهدتها، وما ذلك إلا لأنها تصور لك ما كان فيها من حادثات جسام تهتم لها وتتأثر بها.

ولا أطيل عليك ولا أسترسل في وصف شعور يتجدد كلما ذكر، ويستفيض كلما تجدد، وينهمر هذا الفيض حتى لا تكاد تشعر بنهاية أو تدرك مدى غاية.

ولكني أقول لك:

أما السبب الأول في الحقيقة فهو "دعوة الإخوان المسلمين"، ولعله يسبق إلى ذهنك من هذا الاعتراف أنه الرغبة في نشر دعوة الإخوان المسلمين وتلمس الأنصار والمؤمنين بها من آفاق الأرض، ومن القلوب الطاهرة التي تهوى إلى هذه الأرض المقدسة، وليس ذلك كذلك، وإن كان أملاً من الآمال، وفائدة من الفوائد المنتظرة، ولكن الذي أقصده أن دعوة الإخوان المسلمين، وهي دعوة خالصة لوجه الله من أول يوم، مؤسسة على تقواه، مستندة إلى عظمته سبحانه، هذه الدعوة أعتقد أنه لا بد لنجاحها من أمرين أساسيين:

أولهما: طهارة القائمين بها، ونزاهة نفوسهم حتى تصلح لتلقى المعونة والنصر من الحق تبارك وتعالى.

وثانيهما: صلة هذه القلوب بالداعي الأول صلى الله عليه وسلم، صلة روحية قوية تؤدى إلى حسن الاتباع والاستمساك بالسنة، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.

فأما الطهارة النفسية فأول سبلها حج بيت الله الحرام؛ حيث تحط الذنوب والأوزار،

وأما المدد الروحي من الداعي الأول- صلى الله عليه وسلم- فسبيله زيارة حرمه والتمتع بروضته، ويلحق بهذه الأسباب جميعًا ما تستفيده روح الداعية من معاهدة مواطن الدعوة الأولى، واستعراض حوادثها استعراضًا عمليًّا على أديم الصحراء العربية لا في صفحات الكتب وآراء الرجال.

ذلك أهم ما أثار النفس وهفا بالقلب إلى أرض الوحي ومهابط التنزيل، والقلوب بيد الله يقلبها كيف شاء؛ فاللهم ثبت قلوبنا على دينك.

مجلة الإخوان المسلمين- السنة الرابعة- العدد 6- صـ14، 15- 28صفر 1355هــ / 19مايو 1936م