في رحاب رحلة الأشواق
دروس وعبر
عصام أبو الدهب
رحلة الإسراء والمعراج هي أعظم رحلة في التاريخ الإنساني منذ آدم عليه السلام، وإلى أن يقضى الله تعالى أمره في شأن هذا العالم، وإن لهذه الرحلة من الدلالات والدروس والعبر ما يستوجب أن نقف ميلاً أمامها ندرس أسبابها تاريخيا ودعويا، وأهدافها إسلاميا وإنسانيا، وغاياتها على مستوى بطلها وإنسانها محمد صلى الله عليه وسلم أو على مستوى المسلمين الذين تمثل لهم هذه الرحلة فيصلا مهما في تاريخ نضالهم ضد قوى الكفر والشرك في مكة المكرمة، وعلى مدار الأيام وكر الأعوام، ورغم أن لهذه الحادثة ـ الإسراء ـ شأنها الجلل إلا أنها لم تذكر صراحة إلا في آية واحدة من القرآن الكريم، ولكن السورة التي ذكرت فيها هذه الحادثة سُميت باسمها تذكيرا بشأنها وتنبيهاً لما يأتي من بعد من أحكام وعبر، وتعريفا بأحوال أمم قد سبق لها مكانة بين الأمم؛ ولكنها لما خرجت عن الطريق السوي كان لابد أن يشغل الطريق والمكان والمكانة غيرها، فكانت الحادثة بشرى للأمة التي تستأهل هذه المكانة، وإن فصول الرحلة وإيحاءاتها قد أوحت إلى العديد من المفكرين والباحثين بمعانٍ رائعة واستنباطات قيمة، يقول أديب الإسلام الأستاذ؛ مصطفى صادق الرافعي ـ رحمه الله تعالى ـ في مفتتح مقالته عن رحلة المصطفى إلى السموات العلا :" كيف يستوطئ المسلمون العجز، وفي أول دينهم تسخير الطبيعة؟!
كيف يستمهدون الراحة، وفي صدر تاريخهم عمل المعجزة الكبرى؟!
كيف يركنون إلى الجهل، وأول أمرهم آخر غايات العلم؟!
كيف لا يحملون النور للعالم، ونبيهم هو الكائن النوراني الأعظم؟!" ( وحي القلم )
وصدق فيما قال؛ فإن مضمون الرحلة بمفردها وتجلياتها لتزيل عن العقول رانها، وعن القلوب غفلتها لمن أراد أن يستمع وأن يقتنع، وأن يستبصر الكون متشوفاً ما فيه من روائع الوجود، وشارات العظمة الإلهية التي تظهر للعيان واضحة لولا هذا الركام المتزاحم على النفوس الذي يغلها عن الانطلاق إلى ربها وخالقها ومدبر شأنها.
وملخص رحلة الإسراء والمعراج كما ذكرتها كتب السيرة والتاريخ والصحاح والمسانيد؛ أنه؛ ـ وبعد وفاة عضدي النبي صلى الله عليه وسلم ـ زوجه السيدة خديجة رضي الله عنها، وعمه أبو طالب نصيره الذي كان يدفع عنه أذى قريش؛ وقبل الهجرة النبوية الشريفة إلى المدينة بسنة، ـ ومن أقوال العلماء أنها كانت في نهاية شهر رجب الفرد وحددوها بالسابع والعشرين منه، وإن كان كثير من العلماء يضعفون هذه الرواية، وأنه كان يقظة بجسده وروحه معا، لا مناماً ـ أُسرى بالنبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس بواسطة البراق، فلما انتهى الرسول صلى الله عليه وسلم إلى باب المسجد ربط الدابة عند الباب ودخله، فصلّى في قبلته تحية المسجد ركعتين، وذكر الله تعالى هذا الجزء من الرحلة في قوله:{ سُبْحانَ الذي أسرى بعَبْدِهِ ليلاً مِنَ المسجدِ الحرامِ إلى المسجدِ الأَقْصَى الذي بارَكْنا حولَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إنه هو السميعُ البصيرُ} (الإسراء:1)، ثم عُرج به إلى السماء، فصعد إلى السماء الدنيا، ثم إلى بقية السماوات السبع، فتلقاه في كل سماء مقربوها، وسلّم على الأنبياء الذين في السماوات بحسب منازلهم ودرجاتهم، حتى مرّ بموسى الكليم في السادسة، وإبراهيم الخليل في السابعة، ثم جاوز منـزلتهما حتى انتهى إلى سدرة المنتهى حيث رأى جبريل على صورته الملائكية، ووصل إلى مستوى سمع فيه صرير الأقلام التي تكتب قضاء الله، كما رأى البيت المعمور، ورأى في رحلته الجنة والنار، ودخل الجنة، ثم كلّم الله سبحانه وتعالى، وفرض الله هنالك على المسلمين الصلوات خمسين صلاة ثم خففها إلى خمس صلوات رحمة منه ولطفاً بعباده. وقد تحدّث القرآن عن رحلة المعراج وعن وصوله إلى سدرة المنتهى ورؤيته لجبريل عليه السلام فقال تعال: {والنجمِ إذا هَوَى . ما ضَلَّ صاحِبُكم وما غَوَى . وما ينطقُ عن الهَوَى . إنْ هو إلا وحيٌ يوحَى . علَّمَه شديدُ القُوَى . ذو مِرَّةٍ فاسْتَوَى . وهو بالأُفُقِ الأعلى . ثم دَنَى فتَدَلَّى . فكان قابَ قَوْسَيْنِ أو أَدْنَى . فأوْحَى إلى عبدِهِ ما أَوْحَى . ما كَذَبَ الفُؤادُ ما رَأَى . أَفَتُمارونَهُ على ما يَرَى . ولقد رآهُ نَزْلَةً أُخْرَى . عند سِدْرَةِ المُنْتَهَى . عندها جنَّةُ المَأْوَى . إذ يغْشَى السِّدْرَةَ ما يغْشَى . ما زاغَ البصرُ وما طَغَى . لقد رآى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الكُبْرَى} (سورة النجم). وصلّى الرسول صلى الله عليه وسلم في المسجد الأقصى إماماً بالأنبياء وذلك بإشارة من جبريل عليه السلام، وفي هذا إظهار لشرفه وفضله عليهم جميعاً، وقد قُدِّم إليه صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة إناءان فيهما: الخمر واللبن، وفي بعض الروايات الماء أو العسل معهما، فاختار اللبن فقيل له: هُديت إلى الفطرة، وهديت أمتك إلى الفطرة.
وتكلم جمع غفير من العلماء على فوائد هذه الرحلة ومكانتها ودورها في تاريخ الدعوة الإسلامية، ولكني سأقف هنا ـ دون تفصيل ـ عند بعضٍ منها.
عام الحزن
وأول ما يستوقف القارئ لهذه الرحلة المباركة، هو تسمية العام الذي حدثت فيه "عام الحزن"، وكان سبب التسمية هو وفاة عضده الحاني زوجه المباركة خديجة بنت خويلد التي تحملت معه أعباء الدعوة كاملة؛ وهي ما زالت في مهدها غير الممهد، ووفاة سنده الحامي عمه أبي طالب من سفاهات قريش وطغيان ساداتها، والسؤال الذي أعجب له، كيف لنبي الله تعالى أن يحزن كل هذا الحزن حتى ليطلق مؤرخو السيرة النبوية الشريفة ودارسوها على هذه السنة " عام الحزن"، يعلل ذلك بعض الدارسين قائلا :" فالذي أحزنه [ والله أعلم ] هو مصير الدعوة وليس مصلحته الخاصة، وإن كان لا يضيره الحزن على أقاربه، لأنه بشر" ( منهج القرآن الكريم في تثبيت الرسول وتكريمه صلى الله عليه وسلم)
ولكن السؤال المهم هنا، أتقف الدعوة وترتكن إلى المرأة؟!
أتقف الدعوة وترتكن إلى إنسان غير مؤمن بها؟!
والمستفاد من هذا، أن الدعوة لا بد لها من يد ٍ حانية تتمثل في المرأة برحمتها وعاطفتها ورقتها، تأسو الجراح وتطيب النفس وتزيل الشوك من الطريق، ويدٍ حامية؛ مهما كانت طالما أن لديها القدرة على أن تدفع الأذى، تذود عن صاحب الدعوة حتى لو لم تكن مقتنعة بها.
الرحمة المهداة
وثاني هذه الدروس هو هذا الخوف على مصير الناس إذا ما سمعوا تفاصيل هذه القصة التي لا يمكن لعقولهم التي تشربت المادية أن تدركها، ووقفت عند حدود القدرة البشرية أن تستوعبها، فعن عوف عن زرارة؛ عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لما كان ليلة أسري بي؛ وأصبحت بمكة؛ فظعت بأمري (أي اشتد علي وهبته). وعرفتُ أن الناس مكذبيّ". فقعد ـ عليه الصلاة والسلام ـ معتزلاً حزيناً، فمر به عدو الله أبو جهل، فجاء حتى جلس إليه، فقال له كالمستهزئ: هل كان من شيء؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "نعم". قال: ما هو ؟ قال: "إنه أسري بي". قال: إلى أين؟ قال: "إلى بيت المقدس". قال: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟! قال: "نعم". قال: فلم يرَ أنه يكذبه؛ مخافة أن يجحده الحديث إذا دعا قومه إليه. قال: أرأيت إن دعوت قومك تحدثهم ما حدثتني؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "نعم". فقال: هيا معشر بني كعب بن لؤي! حتى قال: فانتفضت إليه المجالس، وجاءوا حتى جلسوا إليهما. قال: حدث قومك بما حدثتني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إني أسري بي الليلة". قالوا: إلى أين؟ قال: "إلى بيت المقدس". قالوا: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟! قال: "نعم". قال: فمن بين مصفق، ومن بين واضع يده على رأسه متعجباً للكذب؛ زعَمَ! قالوا: وهي تستطيع أن تنعت لنا المسجد؟ وفي القوم من قد سافر إلى ذلك البلد ورأى المسجد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "فذهبت أنعت، فما زلت أنعت حتى التبس علي بعض النعت - قال: - فجيء بالمسجد وأنا أنظر؛ حتى وضع دون دار عقال - أو: عقيل - فنعتّه وأنا أنظر إليه. قال: وكان مع هذا نعت لم أحفظه". قال: فقال القوم: أما النعت؛ فوالله لقد أصاب.
إنها مكيدة مدبرة من أبي جهل كي يسقط النبي صلى الله عليه وسلم ويدينه من أقواله، أو كما نقول في لغتنا المحكية يوقعه في شر أعماله.
وكان تخوف النبي صلى الله عليه وسلم في محله؛ فقد ارتد جماعة ممن أسلموا، فعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: أُسرى ـ بالنبي صلى الله عليه وسلم ـ إلى بيت المقدس، ثم جاء من ليلته، فحدثهم بمسيره، وبعلامة بيت المقدس، وبعيرهم، فقال ناس: نحن نصدق محمدا بما يقول؟! فارتدوا كفاراً، فضرب الله أعناقهم مع أبي جهل. وهذا هو النبي صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة الذي لا هم له ألا أن يهدي الناس إلى ربهم، ويرشدهم إلى الطريق المستقيم، يخشى عليهم ضلل التفكير واعوجاج الفهم والتأويل.
وإن في سياقات هذه الرحلة ما يؤكد اتصال هذه الرحلة منذ آدم عليه السلام وحتى المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكلما ازداد الإنسان معرفة بالله وعلما بسننه في الكون كان أكثر رحمة وأرفق في التعامل مع الناس، وقد ورد في بعض روايات الرحلة "فلما فتح علونا السماء الدنيا، فإذا رجل قاعد، على يمينه أسودةٌ، وعلى يساره أسوِدَةٌ، إذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل يساره بكى، فقال: مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح. قلت لجبريل: من هذا؟ قال: هذا آدم، وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسمُ بنيه، فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر قبِلَ شماله بكى".
التواصي والتناصح بين الأنبياء
الهدف من إرسال الرسل والدعوة إلى الله هو هداية الناس وليس تكليفهم ما لا يطيقون أو التضييق عليهم والتعسير، وإن الله تعالى لا يضيق على أحد إلا إذا ضيق هو على نفسه بعصيانه ومخالفته أمر ربه، أو سوء تشدده وتعنته، قال صلى الله عليه وسلم " ففرض الله علي أمتي خمسين صلاة. قال: فرجعت بذلك حتى مررت على موسى، فقال : ما فرض الله لك على أمتك؟ قلت: فرض عليهم: خمسين صلاة. قال: فارجع إلى ربك؛ فإن أمتك لا تطيق ذلك. (وفي رواية : قد جرّبت الناس قبلك)، وإني عالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، وإن أمتك لن يطيقوا ذلك، فارجع إلى ربك فاسأله أن يخفف عنك.) وفي رواية أخرى (قال موسى: قد - والله - راودت بني إسرائيل على أدنى من ذلك فتركوه، ارجع إلى ربك فليخفف عنك أيضاً.) وفي رواية أخرى قال صلى الله عليه وسلم: "يا ربّ! إن أمتي ضعفاء أجسادهم وقلوبهم وأسماعهم وأبدانهم؛ فخفف عنا". قال: فرجعت، فراجعت ربي: فراجعني، فوضع شطرها. قال: فرجعت إلى موسى، قلت: وضع شطرها. فقال: راجع ربك، فإن أمتك لا تطيق، فراجعت، فوضع شطرها. فرجعت إليه، فقال: ارجع إلى ربك، فإن أمتك لا تطيق ذلك. قال: فراجعته ، فقال: هي خمس، وهي خمسون، لا يبدل القول لديّ. قال: فرجعت إلى موسى، فقال راجع ربك. فقلت: استحييتُ من ربي.
وإن من واجب المسلمين أن يحملوا في قلوبهم شكرا لسيدنا موسى عليه السلام لما كان له من دور في التخفيف عنا، وقد يقول قائل: كيف يأتي للمسلمين أن يصلوا خمسين صلاة، وهم يصلون خمسا بالكاد، وكيف سيتوفر لهم الوقت الكافي لذلك، فنقول إن الله تعالى الرحمن الرحيم الحكيم الخبير لا يكلف عباده شططا ولا عبثا ولا تعسيرا خاصة هذه الأمة التي خفف الله تعالى عنها وأجزل لها الأجر منة منه وفضلا.
ومن أجمل الإشارات التي تحملها هذه الرحلة في طياتها، أن موسى عليه السلام ورغم كونه من الذين عاتب ربه أن منَّ على محمدٍ صلى الله عليه وسلم بهذا الفضل الجزيل، إلا أنه لم يجعل ذلك حاجزا أن ينصح النبي بمراجعة ربه في شأن الصلاة حرصا على مصلحة البشرية، فقد ورد " حتى مررنا برجل طوال سبط؛ كأنه من رجال أزد شنوءة، فيرفع صوته يقول: أكرمته وفضلته. قال: فدفعنا إليه، فسلمنا عليه فرد السلام، فقال من هذا معك يا جبريل؟ قال: هذا أحمد. قال: مرحباً بالنبي الأمي العربي الذي بلغ رسالة ربه، ونصح لأمته. قال: ثم اندفعنا، فقلت: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا موسى بن عمران. قال: قلت: ومن يعاتب؟ قال: يعاتب ربه فيك؟ قلت: ويرفع صوته على ربه؟! قال: إن الله قد عرف له حِدّتَهُ!) [ وإن كان في هذه الرواية ضعف، كما أوضحه الشيخ الألباني].
هذه هي أخلاق الأنبياء صلوات الله عليهم جميعا وسلم، إنهم سلسلة من المصلحين الذين يضعون كل الاعتبارات الشخصية جانبا، من أجل مصالح الناس وهدايتهم، أفلم يكن بإمكانه أن يدع الأمر الإلهي كما هو، وهو يعلم جيدا حياء النبي صلى الله عليه وسلم أن يراجع ربه، ولكن الله تعالى يشير إلينا أنه لا يختار رسله عبثا بل يعلم داخل نفوسهم وخفايا قلوبهم ومدى حرصهم على أممهم.
حوار برئ من الاتهامات
وآخر ما نحب أن نشير إليه هو هذا الحوار الذي ورد في روايات هذه الرحلة المباركة وهو يحمل من الدلالات ما يلزمنا أن نقف عنده وقفة عاجلة. فيروي عاصم ابن بهدلة عن زرّ بن حُبيش عن حذيفة بن اليمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتيت بالبراق، وهو دابة أبيض طويل الظهر ممدودة، يضع حافره عند منتهى طرفه، فلم نزايل ظهره أنا وجبريل حتى أتيت بيت المقدس. ففتحت لنا أبواب السماء، ورأيت الجنة والنار ووعد الآخرة أجمع". ثم عادا عودهما على بدئهما. قال حذيفة: ولم يصلّ في بيت المقدس. قال زر: فقلت له : بلى قد صلى. قال حذيفة: ما اسمك يا أصلع؟ فإني أعرف وجهك ولا أعرف اسمك! فقلت: أنا زر بن حبيش. قال: وما يدريك أنه قد صلى؟! قال: فقلت: يقول الله عز وجل: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنُريه من آياتنا إنه هو السميع البصيرُ}. قال: فهل تجده صلى؟ لو صلّى لصليتم فيه كما تصلون (وفي رواية: لو صلى فيه لكتبت عليكم الصلاة فيه كما كتبت الصلاة) في المسجد الحرام. قال زر: وربط الدابة بالحلقة التي يربط بها الأنبياء عليهم السلام. قال حذيفة: أو كان يخاف أن تذهب منه وقد أتاه الله بها؟! (وفي رواية: ثم ضحك حتى رأيت نواجذه، قال: ويحدثون أنه ربطه! لمَ؟! أيفرّ منه ؟! وإنما سخره له عالم الغيب والشهادة!).
هذا الحوار قرأته فوجدت برد معانيه تتسرب إلى قلبي ونفسي تريني كيف كان السلف الصالح رضوان الله عليهم يتعاملون ويفقهون دين ربهم، دون أن يحمل أحد منهم على الآخر أو يسوؤه بلقب أو ينبذه بلفظ، فرغم ما تكاثر في الروايات عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد الأقصى، وربطه البراق في الحلقة التي ربط فيها الأنبياء من قبل، إلا أنها قد خفيت على حذيفة الصحابي الجليل، وردها بمنطق العقل الذي معه مستدلا بشواهد وأدلة،وفي هذا أبلغ الدرس وأنفعه للعلماء والدعاة أن لا يحملوا اجتهادات العلماء ورؤاهم إلا على أجمل الوجوه، وأن يدرك الجميع أن هناك فرقا شاسعا بين إقامة الحجة وفهم الحجة.
كان هذا جولة سريعة في رحاب هذه الرحلة الرائعة التي لها من المنزلة والمكانة، ما تعجز الأقلام عن التعبير عنه، ويكفينا أن رحلة كان هدفها تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وإطلاعه على قدرة الله تعالى وآيات العجاب العظام التي بلغها لنا، لنعلم أن الله تعالى لا يعجز قدرته شيء، سبحانه وتعالى.