رمضانيات 1431 4

رمضانيات 1431

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

من وحي أحُد في آل عمران (26 )

لما انهزم ما انهزم من المسلمين يوم أحد وقتل من قتل منهم  نادى الشيطان : ألا إن محمدا قد قتل ، ورجع ابن قميئة إلى المشركين فقال لهم : قتلت محمدا ، وإنما كان قد ضرب رسولَ الله فشجه في رأسه ، فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس ، واعتقدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل ، والرسل والأنبياء يُقتلون كما قد قص الله عن كثير من الأنبياء عليهم السلام ، فحصل ضعف ووهن وتأخر عن القتال ، ففي ذلك أنزل الله تعالى : " وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) "  : فنبه الله تعالى أن الرسول عليه الصلاة والسلام بشر ممن خلق ، وهو ورسول من الرسل السابقين عليهم الصلاة والسلام ، له بداية وله نهاية ،  وله أسوة بهم في الرسالة وفي جواز القتل عليه . وروي أن رجلا من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه في غزوة أحد فقال له : يا فلان أشعرت أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد قتل ؟ فقال الأنصاري : إن كان محمد قد قتل فقد بلّغ فقاتلوا عن دينكم . وكأنه يقول له : إن قُتل رسول الله في سبيل دينه فعلام تقف هكذا مكتوف اليدين خوّاراً ؟! متْ على ما مات عليه رسول الله .

-   ثبت في الصحاح  وغيرها أن الصديق رضي الله عنه تلا هذه الآية لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل على فرس من مسكنه بالسُنح حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة فتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغطى بثوب حبرة فكشف عن وجهه ثم أكب عليه وقبله وبكى ثم قال بعد أنْ تأكد من موته : بأبي أنت وأمي ، والله لا يجمع الله عليك موتتين ، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها . ثم خرج وعمر يكلم الناس أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يمت وأنه سيعود . فقال : اجلس يا عمر ، ثم قال أبو بكر : أما بعد ؛ فمن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ، ثم قرأ الآية السابقة . قال الراوي : فوالله لكأن الناس – لشدة المفاجأة التي عقدتْ ألسنتهم وطاشت لها عقولهم -  لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها عليهم أبو بكر ، فتلاها منه الناس كلهم فما أسمعُ بشرا من الناس إلا يتلوها . وقال عمر : والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعرقت حتى ما تقلني رجلاي .

-   ولن يموت أحد إلا بقدر الله ، فمن خاف الموت فقد ضعف إيمانه، وظهر الخوف والجبن عليه فجاءت الآية التالية تشجع هؤلاء الذين خافوا وضعفوا في القتال "  وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا ۗ وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) " ولا يموت الإنسان حتى يستوفي أجله ويستوفي  المدة التي ضربها الله له ولهذا قال تعالى " كتابا مؤجلا " كقوله " وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب " ، إن الإقدام والإحجام لا ينقص من العمر ولا يزيد فيه  .  قال حجر بن عدي في حرب الفرس وكان نهر دجلة بين الجيشين : ما يمنعكم أن تعبروا إلى هؤلاء العدو هذه النطفة - يعني دجلة - ثم أقحم فرسه دجلة ،  فتبعه الناس فلما رآهم العدو داخلهم الرعب الشديد ، فهربوا ، ولاحقهم المسلمون يبطشون بهم يمنة ويسرة ، ونصرهم الله تعالى نصراً مؤزّراً ، فربحوا الدنيا والآخرة

-   إن الربيين – وهم أصحاب الإيمان القوي الذي نذروا أنفسهم لله – ممن كانوا مع أنبيائهم لم يتركوا القتال في سبيل الله والجهاد لإعلاء كلمته سبحانه ، واستمروا في جهادهم لإعلاء كلمة الحق والذود عنها ، فلما صاح صائح في غزوة أحد : إن محمداً قد قُتل ترك كثير من المسلمين المعركة وضعفوا وهربوا منها ، فعاتبهم الله تعالى  قائلاً :" وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) " . فإذا كان من قبلنا صبروا في القتال وثبتوا في مواقعهم ، ونفوا عن أنفسهم الخور والوهن ، وتحملوا الإرهاق والنصب ، فلم يذلوا لعدوهم ، وصبروا في  الميدان صبراً عجيباً ، كان أولى بالمسلمين أن يكونوا كذلك . فإن فعلوا نالوا كسبين كبيرين : أولهما : رضا الله تعالى وحبّه وثانيهما : النصر والتمكين

-   وهذا ما نالوه فعلاً حين لجأوا إلى الله تعالى داعين متبتلين  " وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) " . يقول الإمام الطبري في تفسيره في تفسير هذه الآية : اجعلنا ممن يثبت لحرب عدوك وقتالهم , ولا تجعلنا ممن ينهزم فيفر منهم , ولا يثبت قدمه في مكان واحد لحربهم ، وانصرنا على الذين جحدوا وحدانيتك ونبوة نبيك . وإنما هذا تأنيب من الله عز وجل لعباده الذين فروا عن العدو يوم أحد وتركوا قتالهم , وتأديب لهم , يقول الله عز وجل : هلا فعلتم إذ قيل لكم : قتل نبيكم , كما فعل هؤلاء الربيون , الذين كانوا قبلكم من أتباع الأنبياء , إذ قتلت أنبياؤهم , فصبرتم لعدوكم صبرهم , ولم تضعفوا وتستكينوا لعدوكم , فتحاولوا الارتداد على أعقابكم , كما لم يضعف هؤلاء الربيون ولم يستكينوا لعدوهم , وسألتم ربكم النصر والظفر كما سألوا , فينصركم الله عليهم كما نصروا , فإن الله يحب من صبر لأمره وعلى جهاد عدوه , فيعطيه النصر والظفر على عدوه ، واعلموا أنما ضعفتم فهربتم  بذنوب منكم , واستغفروا كما استغفروا , وامضوا على دينكم كما مضوا على دينهم , ولا ترتدوا على أعقابكم راجعين , واسألوه كما سألوه أن يثبت أقدامكم , واستنصروه كما استنصروه على القوم الكافرين . فكل هذا من قولهم قد كان . وقد قتل نبيهم  فلم يفعلوا كما فعلتم .  فماذا كانت النتيجة ؟ إن الله أعطى الله الذين وصفهم بما وصفهم من الصبر على طاعة الله بعد مقتل أنبيائهم , وعلى جهاد عدوهم , والاستعانة بالله في أمورهم , واقتفائهم مناهج إمامهم جزاءً في الدنيا , وذلك النصر على عدوهم وعدو الله , والظفر والفتح عليهم , والتمكين لهم في البلاد  ،ووهبهم خير جزاء الآخرة , على ما أسلفوا في الدنيا من أعمالهم الصالحة ، ووهبهم رضوان الله ورحمته . يقول تعالى "  فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) " . وتنبه أخي الحبيب إلى قوله تعالى " حسن ثواب الآخرة " ، ولم يقل  ثواب الآخرة ،مع العلم أن ثواب الآخرة الجنة ، فإنه سبحانه أعطاهم أحسن العطاء ورفعهم أعلى الدرجات وأكرمهم غاية الإكرام . فقد وصلوا درجة الإحسان ، وهي أعظم المراتب في الجنة . رزقنا الله إياها ، وأعاذنا من غضبه والنار . 

-   عشت في ظلال تلكم الآيات أتنسم عبير الجنة بذكر الربيّين والصالحين ، وأشرئب إلى تلكم السويعات في غزوة أُحُد أرى صور الصحابة الكرام في جبل الرماة وفي ساح المعركة ، وألمح نور النبي صلى الله عليه وسلم ثابتاً في أرض الرباط وحوله بعض أصحابه الذين ثبتوا معه ، وأسمع الحبيب المصطفى صلوات الله عليه وسلم يقول لسعد : ارمِ سعد؛ فداك أبي وأمي ، فتنتشي نفسي كأنني سعد رضي الله عنه ، وأتمنى لو كنت مكان طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه وأرضاه يقف أمام الحبيب قائلاً : صدري دون صدرك يا رسول الله ونحري دون نحرك . وأسمع صوت كعب بن مالك رضي الله عنه يرى النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد الإرجاف بموته فينادي هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمت ، يا معشر المسلمين أبشروا ، فيشير إليه النبي صلى الله عليه وسلم أنْ أنصت ، كي لا يقصده المشركون ويجهدوا في قتله صلى الله عليه وسلم .

-   وأرى أبيّ بن خلف يهاجم النبي صلى الله عليه وسلم فيقول : لا نجوتُ إن نجوتَ ، فلما دنا وقام له في الشعب أحد الصحابة يدرأ عنه  فيقول المصطفى دعوه ، ويتناول حربة الحارث بن الصمة وينتفض بها النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم يستقبله فيطعنه في عنقه طعنة يكاد يسقط لها عن فرسه مراراً ، وكان هذا الشقي يهدد النبي – في مكة - بالقتل ، فيرد النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: بل أنا أقتلك إن شاء الله . ويتراجع أبي بن خلف إلى قريش وهو يقول : قتلني محمد ، وكان قد خدشه خدشاً غير كبير ، فيقولون له ما عليك من بأس ، قد ذهب والله فؤادُك ، والله ما بك من بأس  . فيقول أبيٌّ : إنه قد قال لي بمكة إني قاتلك ، فوالله لو بصق عليّ لقتلني ، ويحتقن الدم في عنقه ، ويموت قافلاً إلى مكة - في نار جهنم يا عدوّ الله – أقولها متشفيا به ، إن أشقى الناس من قتل نبياً أو قتله نبي.

-   وأسمع الحوار بين أبي سفيان والمسلمين ، فيناديهم وهو أمامهم على جبل عال : أشرفتَ فَعال ؛ إن الحرب سجال . اعلُ هبل، اعلُ هُبل . فيقول النبي صلى الله عليه وسلم : قم يا عمر – وكان ذا صوت جَهْوري : فقل : الله أعلى وأجل . لا سواء ، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار ، ويسأل أبو سفيان : أمحمد فيكم أم قتل ؟ فيقول عمر بل هو حي بيننا وهذا أبو بكر إلى جانبه . ويُقتل حمزة أسد الله وأسد رسوله ، فيبكيه رسول الله ويبكيه المسلمون ويبكون قتلاهم ، لكنهم يتابعون المشركين إلى حمراء الأسد وهم مثخنون بالجراح  يصرون على القتل والجهاد إلى آخر رمق من حياتهم .

-   هكذا المسلم أبيّ شجاع لا يخاف الموت ولا يهاب الأعداء ، صلى عليك الله يا سيد الأبطال ويا قائد الغر الميامين ورضي الله عن صحابتك الكرام وأرضاهم ،، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين .  اللهم آمين ..

** ** **

إنهم جميعاً سواء (27 )

أخذ أحدهم – أمسِ – بيدي  بعد صلاة العصر وسألني : أصحيح أن للنساء في الشرع نصيباً في الميراث ؟ نظرت إليه متعجباً من سؤاله ، وكان علي أن لا أتعجب ، فالجهل والعادات الجاهلية تحكمنا بمفاهيمها . فترى الكثير يصلون خلف الإمام وفي الصف الأول ثم ترى نساءهم كاسيات عاريات ، وتجد بعض التجار يحرصون على الصلوات في المساجد ، ويسمعون العظات والعبر والأحكام الشرعية في الربا والتهديد الشديد المبطّن والظاهر في تحريمه ، وتراهم في معاملاتهم غارقين فيه ، لا يتورّعون عن أكله والعمل به . والأمثلة عن الجهل الواقع والجهل المتعمّد في مجتمعنا كثير ، منها سؤال هذا الرجل الذي بلغ الأربعين عن نصيب المرأة في الميراث .

قلت له : إذا مات والد الإنسان فلمن يؤول ماله ؟ أتأخذه الدولة أم يُوزّع على المساكين أم يكون لقضاء دين الفقراء ؟ ، قال : لولده ومن خرج من صلبه . قلت أترى أختك بنتَ أبيك خرجت من صلبه أم جاءت من مكان آخر ؟ . قال : ولكنّها امرأة . قلت وما الفرق بين الرجل والمرأة في الحقوق ؟ قال: وهل يجوز أن يخرج المال والأرض من آل فلان إلى غيرهم من الأسر بموت الأب؟ قلت : وكيف يخرج وهو ما يزال ملكاً لأختك وحدها ، تصرفه كما تصرفه أنت ، وتنمّيه كما تنمّيه أنت ؟  . قال تصرفه على أولادها وزوجها . قلت ألا تصرف المال على زوجتك من مال أبيك وهي ليست من أسرتكم؟ قال : هي زوجتي . قلت: وهو زوجها وهم أولادها .

قال : إن الأرض التي بذل والدي عمره في خدمتها وزرعها تذهب للغرباء إذاً . قلت : إن المرء حين يموت يترك كل شيء لأولاده ، فليس في الإسلام فرق بين الذكر والأنثى واقرأ معي هذه المساواة في سورة " الأحزاب "  إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35) " تجد أن الله تعالى ساوى بين الذكر والأنثى في الحقوق والواجبات . قال : وقد يأخذن كثيراً ؟! قلتُ إن القرآن الكريم صرّح بحق المرأة في الميراث في سورة النساء ، كثيراً كان الميراث أم قليلاً ، فقال : "  لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ ۚ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) " وما علينا - معشر المسلمين - إلا أن نقول : سمعنا وأطعنا راضية بذلك قلوبنا ، قانعة به نفوسنا . قال سعيد بن جبير وقتادة رحمهما الله : كان المشركون يجعلون المال للرجال الكبار ولا يورثون النساء ولا الأطفال شيئا فأنزل الله الآية السابقة توضح أن للرجال وللنساء كباراً وصغاراً حقوقاً ثابتة لا ينتقص منها إلا ضعيف الإيمان جاهليّ النزعة . يقدم العادات الخاطئة على الأحكام الإلهية ، ويتخذها شرعاً من دون شرع الله ، ثم يزعم أنه مسلم .

بعضهم يأكل حق النساء بطريقة اللف والدوران . فهؤلاء ثلاثة رجال لهم ثلاث أخوات . فحين مات أبوهم قسموا الأرض ثلاثة أقسام وألحق كل منهم نصيب أخت منهنّ بنصيبه ، فأحدهم أعطى أخته بعض المال ترضية ، والحقيقة أنها لم ترضَ ، ولكنّ الحياء أو قل الخجل أو الخوف من هجران إخوتها لها جعلها تتغاضى عن حقها وترضى بالذي وصلها من أخيها . والثانية كان زوجها غنياً ، فأمرها أن تتنازل عن حقها ، تجنباً للمشاكل التي قد تنجم عن مطالبتها بحقها ، وكان فيه تقوى ، فعوّضها ذهباً وأساور . أما الثالثة فقد بنى أخوها في البداية بيتاً فوق نصيبه من الأرض ، وضم نصيبها صحناً لداره ، فلما كبر أولاده وسّع بيته وبنى فوق أرضها غرفاً وملاحق ، فلما كبر أبناء أخته وطالبوا بحق أمهم عرض عليهم ثمن نصيبها من الأرض بالسعر الذي كان قبل عشرين سنة ، ثم جاءني يستحل ذلك قائلاً : هكذا كان ثمن الأرض . فلما نبهته أنه يأكل حقها ادّعى أنها لم تطالبه بقطعة الأرض حين مات أبوهما ، وأنها لو طالبته بحقها ما قصّر . قلت له : يا هذا ؛ إن تقسيم الأرض ابتداءً ثلاث حصص أمر فاقع في رغبة الذكور أن يقضموا حق أخواتهنّ ، وأنت أحدُهم ، وقد تناسيت حق أختك ، فأيقظك من سباتك أولادُها ولولا ذلك لبقيت متناوماً . إن الأرض بمجملها بعد هذه السنوات تضاعف ثمنها ، فهل ترضى أن تنتفع بذلك وتهضم حق أختك ؟

إنّ الجميع  سواء في حكم الله تعالى يستوون في أصل الوراثة وإن تفاوتوا بحسب ما فرض الله لكل منهم بما يدلي به إلى الميت من قرابة أو زوجية أو ولاء . فهذه الفرائض والمقادير التي جعلها الله للورثة بحسب قربهم من الميت هي حدود الله فلا يجوز لأحد أن يتعدّاها ويتجاوزها . ولهذا قال " ومن يطع الله ورسوله "  فيها فلم يزد بعض الورثة ولم ينقص بعضها بحيلة ووسيلة بل نزل على حكم الله وفريضته وقسمته نال رضوان الله وحاز جنته خالداً فيها " يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم " .

والعجيب أننا كنا في بعض المجالس نتذاكر صلة الأرحام  وكان أحدنا قليلاً ما يشارك ، فأحببت أن يخوض معنا فسألته كم مرة في الشهر تزور أخواتك  ؟ ففاجأني أن له أختاً واحدة لم يزرها منذ أن مات والدهما من اثنتين وعشرين سنة . فلما صُدمت لهذا الجواب المفاجئ سألته السبب فقال : إنها طالبت بنصيبها من الميراث . والعجيب أنه لم يقاطعها بعد أن أعطاها نصيبها ، إنما قاطعها لأنها طالبت بحقها ولم يعطها شيئاً . 

إن ما ذكرته غيض من فيض ، ولا يعني هذا أن الغالبية من المسلمين على هذا المنوال من قطع الرحم وأكل حقوق المرأة . إنهم قليلون إذا قورنوا بالملتزمين حدود الله  . لكنهم إذا عددتهم كثيرون ، وخاصة في القرى والبادية لتفشي الجهل في تلكما البيئتين وللذكورية الفاقعة فيهما .

ففهل من عودة إلى شرع الله وهديه؟ وهل يتذكر أمثال هؤلاء أن الدنيا فانية ؟ وأن الموت قاب قوسين من البشر أو أدنى ؟ هدانا الله إلى مرضاته والعمل بشريعته ، وأعاننا على ذلك .

** ** **

يبدّل الله سيئاتهم حسنات (28 )

في صحيح مسلم عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (span style="color:#00B050"> إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولا الجنة وآخر أهل النار خروجا منها ، رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال :اعرضوا عليه صغار ذنوبه ، وارفعوا عنه كبارها . فتعرض عليه صغار ذنوبه ، فيقال : عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا ، وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا ، فيقول نعم لا يستطيع أن ينكر ، وهو مشفق في كبار ذنوبه أن تعرض عليه . فيقال له فإن لك مكان كل سيئة حسنة فيقول يا رب قد عملت أشياء لا أراها هاهنا ) .. فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه . وقال أبو طويل : يا رسول الله , أرأيت رجلا عمل الذنوب كلها ولم يترك منها شيئا , وهو في ذلك لم يترك حاجّة ولا داجّة إلا اقتطعها فهل له من توبة ؟ قال : ( هل أسلمت ) ؟ قال : أنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , وأشهد أنك عبد الله ورسوله . قال ( نعم . تفعل الخيرات وتترك السيئات يجعلهن الله كلهن خيرات ) . قال : وغدراتي وفجراتي يا نبي الله ؟ قال : ( نعمم ) . قال : الله أكبر ! فما زال يكررها حتى توارى .

. قال مبشر بن عبيد , وكان عالما بالنحو والعربية : الحاجة التي تقطع على الحاج إذا توجهوا . والداجة التي تقطع عليهم إذا قفلوا . وقالوا: إن الحاجّة  والداجّة الذنوب الضخمة الكبيرة التي لا يجترحها إلا كل عتُلّ جواظ .

فباب التوبة مفتوح لكل إنسان في كل زمان ومكان ليلاً ونهاراً ، وما على الإنسان إلا أن يلجه نادماً على ما فعله ،مستغفراً ربه ، راجياً غفرانه ورحمته ، مصمماً أن لا يعود إلى الذنب ما استطاع باذلاً جهده في طاعة ربه .وسيقبله الله تعالى ، فالله يفرح بعودة عبده إليه تائباً ، ويقبله متى عاد إليه .

قال القرطبي رحمه الله معلقاً : فلا يبعد في كرم الله تعالى إذا صحت توبة العبد أن يضع مكان كل سيئة حسنة ; وقد قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ : ( أتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن ) . وقال ابن كثير رحمه الله : قد ثبتت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصحة توبة القاتل كما هو معلوم في  قصة الذي قتل مائة رجل ثم تاب فقبل الله توبته وغير ذلك من الأحاديث وقوله تعالى " وفي تبديل السيئات حسنات قولان : أحدهما أنهم بدلوا مكان عمل السيئات بعمل الحسنات . قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية قال هم المؤمنون كانوا من قبل إيمانهم على السيئات ، فرغب الله بهم عن السيئات فحولهم إلى الحسنات ، فأبدلهم مكان السيئات الحسنات ، وروي عن مجاهد عن ابن عباس أنه كان ينشد عند هذه الآية :

بدلن بعد حرّه خريفا            وبعد طول النفـَس الوجيفا

يعني تغيرت تلك الأحوال إلى غيرها . وقال عطاء بن أبي رباح : هذا في الدنيا يكون الرجل على صفة قبيحة ثم يبدله الله بها خيرا . وقال سعيد بن جبير : أبدلهم الله بعبادة الأوثان عبادة الرحمن ، وأبدلهم بقتال المسلمين قتال المشركين ، وأبدلهم بنكاح المشركات نكاح المؤمنات ، وقال الحسن البصري : أبدلهم الله بالعمل السيئ العمل الصالح ، وأبدلهم بالشرك إخلاصا ، وأبدلهم بالفجور إحصانا ، وبالكفر إسلاما ... والقول الثاني  : أن تلك السيئات الماضية تنقلب بنفس التوبة النصوح حسنات ، وما ذاك إلا لأنه كلما تذكر ما مضى ندم واسترجع واستغفر ، فينقلب الذنب طاعة بهذا الاعتبار . فيومَ القيامة وإن وجده مكتوبا عليه فإنه لا يضره ، وينقلب حسنة في صحيفته كما ثبتت السنة بذلك .

وفي تفسير ابن كثير أيضاً : وقال الحافظ  الطبراني فيما يرويه عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا نام ابن آدم قال الملك للشيطان أعطني صحيفتك فيعطيه إياها فما وجد في صحيفة من حسنة محا بها عشر سيئات من صحيفة الشيطان ، وكتبهن حسنات فإذا أراد أحدكم أن ينام فليكبر ثلاثا وثلاثين تكبيرة ويحمد أربعا وثلاثين تحميدة ويسبح ثلاثا وثلاثين تسبيحة فتلك مائة " وفي الطبراني أيضاً عن سلمان قال : يعطى الرجل يوم القيامة صحيفته فيقرأ أعلاها فإذا سيئاته ، فإذا كاد يسوء ظنه نظر في أسفلها ، فإذا حسناته ثم ينظر في أعلاها فإذا هي قد بدلت حسنات . وحدّث أيضاً  عن أبي هريرة قال : ليأتين الله عز وجل بأناس يوم القيامة رأوا أنهم قد استكثروا من السيئات قيل من هم يا أبا هريرة ؟ قال الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات .

وقال أيضا حدثنا قال : يدخل أهل الجنة الجنة على أربعة أصناف (المتقين) ثم (الشاكرين) ثم (الخائفين) ثم (أصحاب اليمين) . قلت لم سموا أصحاب اليمين ؟ قال لأنهم قد عملوا بالسيئات والحسنات فأعطوا كتبهم بأيمانهم فقرءوا سيئاتهم حرفا حرفا وقالوا يا ربنا هذه سيئاتنا فأين حسناتنا ؟ فعند ذلك محا الله السيئات ، وجعلها حسنات فعند ذلك قالوا" هاؤم اقرءوا كتابيه " فهم أكثر أهل الجنة .

وفي كرم الله تعالى على عباده المحسنين في سورة الزمر "  لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) " يتغاضى الله عن سيئات عباده التائبين المتقين ، فيمحو سيئاتهم الكبيرة ، فكان من باب أولى أن يغفر لهم ما هو أقل من ذلك ، فهو الكريم العفوّ الغفور جل جلاله ، وعمّ نواله سبحانه . فإذا ما غفر لهم جزاهم على كل أعمالهم الخيّرة على تفاوت نسبة الخير فيها  بأعلى ما فعلوه من أعمال صالحة ، فإذا صحائفهم ليس فيها إلا الحسنات الكبيرة ، وكتبهم الله من أهل الجِنان .. اللهم اجعلنا منهم .

ومن كرمه وفضله سبحانه وامتنانه ولطفه بخلقه وإحسانه - في سورة الطور - نقرأ هذه الآية الكريمة "  وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ۚ ....(21) " فنجد أن المؤمنين إذا اتبعتهم ذرياتهم في الإيمان يلحقهم بآبائهم في المنزلة وإن لم يبلغوا عملهم لتقرّ أعين الآباء بالأبناء عندهم في منازلهم ، فيجمع بينهم على أحسن الوجوه بأن يرفع الناقص العمل بكامل العمل ، ولا ينقص ذلك من عمله ومنزلته للتساوي بينه وبين ذاك . قال ابن عباس : إن الله ليرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه  ، وقال في رواية أخرى : هم ذرية المؤمن يموتون على الإيمان فإن كانت منازل آبائهم أرفع من منازلهم ألحقوا بآبائهم ولم ينقصوا من أعمالهم التي عملوها شيئا . فإذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده فيقال إنهم لم يبلغوا درجتك فيقول يا رب قد عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة فيقول يا رب أنى لي هذه ؟ فيقول باستغفار ولدك لك " إسناده صحيح وله شاهد في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له "

إن فضل الله وكرمه دالاّن على عظمته ورحمته بعباده سبحانه ، إنه الله ، الذي يستحق العبادة ، والخالق الذي يستحق أن نلجأ إليه شاكرين حامدين .

اللهم عاملنا بما أنت أهل له ، إنك أهل التقوى وأهل المغفرة ..

اللهم آمين يا رب العالمين .

** ** **

موقفان متمايزان (29 )

لما وصل موسى بقومه على أرض فلسطين وانطلق بهم إلى بيت المقدس أمرهم موسى عليه السلام أن يدخلوها فاتحين ويُجلوا من احتلها واتخذها موطناً ، فهي سكنى أبيهم يعقوب عليه السلام وسكنى أولاده قبل أن يذهبوا إلى يوسف عليه السلام في مصر  "  ....  يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) " (من سورة المائدة )  فوجدوا فيها قوما من العمالقة الجبارين قد استحوذوا عليها وتملكوها فأمرهم رسول الله - موسى عليه السلام - بالدخول إليها وقتال أعدائهم ، وبشرَهم بالنصر والظفر عليهم  . فعصوه وخالفوا أمره خوفاً من العماليق الأقوياء ، فعوقبوا بالذهاب في التيه والتمادي في سيرهم حائرين لا يدرون كيف يتوجهون إلى مقصد مدة أربعين سنة عقوبة لهم على تفريطهم في أمر الله تعالى .

لقد اعتذروا بأن في هذه البلدة التي أمروا بدخولها وقتال أهلها قوماً جبارين  أشداء وأنهم لا يقدرون على مقاومتهم ولا حربهم  ، ولا يمكنهم الدخول إليها ما داموا فيها فإن يخرج هؤلاء العمالقة منها  دخلوها ، وإلا فلا طاقة لأصحاب موسى بهم . "  قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) " وهذا ردّ الجبان الذي يؤثر السلامة على استرداد حقه ، ويفرّط فيه خوفاً وهلعاً . إن هؤلاء اليهود اعتادوا أن يكونوا خدماً  في مملكة فرعون ، وتصرفهم هذا تصرفُ الخدم والعبيد الذين ألِفوا حياة الذل والهوان ، فكانت عقوبتهم أن يتيهوا في الصحراء أربعين سنة ، فينقرض هؤلاء ويخرج من أصلابهم رجال عاشوا الحرية وتذوّقوا طعم الكرامة ، فعلى يد أمثال هؤلاء تُستردّ الحقوق . وقالوا مقولة الجهل بالذات العلية حين طلبوا من موسى - راغبين عن الجهاد  - أن يذهب وربه ليقاتلا ، أما هم فيودّون النصر على طبق من الورد يقدم لهم سهلاً يسيراً .

إن الفرق بين أصحاب موسى عليه السلام وأصحاب النبي محمد صلى الله عليه وسلم في شبيه هذا الموقف كبير ، ففي غزوة بدر حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم نفسه  والمسلمين الذين خرجوا لاصطياد القافلة ففوجئوا بجيش قريش المدجج بالسلاح ، وكان العهد بين النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين في المدينة أن يمنعوه في مدينتهم  كما يمنعون نساءهم وأبناءهم ، ولم يعدوه أن يحموه خارج المدينة . فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يرى رأيهم ويتوثّق من إيمانه فقال : أشيروا عليّ أيها الناس ، فتكلم أبو بكر وعمر فأحسنا ، ثم تكلم المقداد بن عمرو فقال ‏‏:‏‏ يا رسول الله ، امض لما أراك الله فنحن معك ، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى ‏‏:‏‏ ‏‏" اذهب أنت وربك فقاتلا ، إنا ههنا قاعدون ‏‏"‏‏ ‏‏.‏‏ ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه ، حتى تبلغه ؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ، ودعا له به .

. فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال له سعد بن معاذ ‏‏:‏‏ والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ أجل ؛ قال ‏‏قولة المؤمن الصادق المحب لله ورسوله :‏‏ فقد آمنا بك وصدقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا ، على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك ، فوالذي بعثك بالحق ، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا ، إنا لَصُبُرٌ في الحرب ، صُدُق في اللقاء ‏‏.‏‏ لعل الله يريك منا ما تقر به عينك ، فسر بنا على بركة الله .

ألا ترى أيها الأخ القارئ البون الشاسع بين ما قاله المؤمن بالله ورسوله الذي يعتبر نفسه جندياً من جنود الله ، ويرى أن عليه أن يقول سمعنا وأطعنا ثم يمتثل للأوامر دون تلكؤ ولا تكاسل ، وبين ما قاله اليهود لنبيّهم ؟ فأمر الله ورسوله لا بد من الالتزام به – إن كنا مؤمنين – لنحوز رضاه والجنة في الآخرة ، والعز والنصر في الدنيا .

فسُرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ، ونشَّطه ذلك ؛ ثم قال ‏‏:‏‏ سيروا وأبشروا ، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوموم . هذا ردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى المسلمين الطاعة والامتثال والاستعداد النفسي والقلبي ، كان الله تعالى راضياً عنهم ، ومن رضي الله عنه فقد فاز ، وكان النصر على خطاهم . وكان جزاء يهود أن قال تعالى يوبخهم ويعاقبهم ، ويسمهم بالفسق ، والفاسق منبوذ مطروح : "  قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26) ** ** **

إنما يتقبل الله من  المتقين ( 30 )

كنا نسمع قصة قابيل وهابيل ابني آدم عليه السلام مذ كنا صغاراً لا نقرأ ولا نكتب ، نسمعها من أمي ، وكانت رحمها الله ذكية أريبة  وشاعرة  تنظم المقطوعات الشعرية بلهجتنا العامية سريعاً ، وتعلمنا إياها ، وكانت تحفظ قصصاً كثيرة تسردها بدقائقها وكأنها تقرأ من كتاب .

ولم أكن أحب سماع قصة هذين الأخوين ، وأتألم حين أسمعها لما فيها من قطع للرحم وصلف وتكبّر يمثله قابيل قاتلُ أخيه ، ولا أكاد أصدّق أن يقتل الأخ أخاه لامرأة ، فيدخل بسببها النار ، وأقول في نفسي : إنني أحب الجمال ، لا شك في ذلك ، أمّا أن يكون الاستئثار به سبب دخولي النار خالداً فيها - وهذه خسارة ما بعدها خسارة - فأمر لا يمكنني تصوّره .

لكنني رأيت وقرأت وسمعت عن رجال يفعلون كل شيء في سبيل شهواتهم ، لا يرعَون عهداً ولا ذمّة ، ولا يعرفون حلالاً ولا حراماً ، فالحق ما يريدون ، والعدلُ ما يرغبون ، والصواب ما يحكمون . يضربون بكل الشرائع والقوانين عرض الحائط حين تُمس مصالحهم ، ويدورون حول ذواتهم ، ولا يرون سوى أنفسهم . ولا يرتاحون إلا عندما يجدون الناس يمالئونهم ويحسبون حسابهم ، ويعملون لإرضائهم . ، وإلا فالويل والثبور وعظائم الأمور لمن يمس شعرة منهم أو يخرج عن نطاقهم . أو يرى غير رأيهم .

يتبارى الأَخَوان في ميزان العدل ، فيقدّم كل منهما قرباناً لربه سبحانه ينتظر الحكم ، وكان عليهما أن يرضيا بما يقسم الله لهما ، فلما خسر قابيل ما كان يرجو هدّد وتوعّد وأرغد وأزبد ،    " قال لأقتلنك " وهل يغيّر القتل من الحقيقة شيئاً ، وما يدلّ التهديد والوعيد إلا على ضعف النفس أمام الهوى وضَعَتِها في ميزان الرجال . فماذا تقول في امرئ لا يعرف غير البلطجة والعنترية في الوصول إلى مآربه ؟! رافضاً القبول بما قسمه الله له وحَكَم ، يعتدي على الآمنين ويسلب حقوقهم ، ويرفع في وجوههم السلاح ، ويحاول إخافتهم والتأثير عليهم ؟ ؟

وهل التهديد يغيّر من الواقع موقفاً  ومن الحقيقة شيئاً ؟ تقبل الله من هابيل قربانه ولم يتقبله من قابيل . فهلا سأل هذا الأخير نفسه السببَ ؟ بلى إنه سمعه من أخيه حين ردّ على تهديده بطمأنينة عالية الوتيرة  " إنما يتقبّل الله من المتّقين " وكان عليه أن يراجع نفسه ويغيّر من سلوكه ليتقبّل الله منه ، ولن يتقبل الله إلا ممن يلزمون شريعته ، فيعملون بأمره وينتهون عن نواهيه . وما من رجل أطاع ربه إلا رضي عنه وفتح المغاليق أمامه .

ونبهه هابيل إلى أمور عدة منها : أن القاتل يتحمّل وزراً كبيراً حين يزهق روحاً في غير حق . وأن كثيراً من ذنوب المقتول – حين يأخذ حقه من قاتله يوم القيامة – يحملها القاتل فوق ذنوبه    " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك ..." وأن جزاءَ القاتل الظالمِ النارُ " فتكون من أصحاب النار ، وذلك جزاء الظالمين "  وإنها لعقوبة صارمة لا نجاة منها أبد الآبدين . والعجيب أنني قرأت  للشاعر النصيري " سليمان العيسى " أن هابيل يتحمل مسؤولية مقتله لأنه صرّح باستفزازه لأخيه القاتل حين قال " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " واستنتج الرجل هذه الفكرة الغبية من كلمة " أريد " فقد كان المقتول مصمماً أن يُقتل !  . وللقارئ أن يحكم على الشاعر من هذا الاستنتاج العبقري !.

ولم تنفع الموعظة ولا النصيحة التي أسداها هابيل إلى قابيل ، فقد كانت نفس القاتل تسوّل له القتل وتزينه له ، فاغتنم فرصة كان أخوه غافلاً عنه ، فأرداه ميتاً فكان أشد العالمين خسارة ، لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل " لقد سنّ سنة سيئة ، فكان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة . قال تعالى مؤكداً هذا المعنى في سورة المائدة "  فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)" والنفس أمّارة بالسوء تردي صاحبها في المهالك . أفليس على الإنسان أن يفكر  ألف مرة قبل أن يُقدم على ما يضره قبل أن يضرَّ غيره ؟! نعوذ بالله من ساعة الغفلة .

قتله ، فهمدت حركتُه ، وتركه في العراء لا يدري ما يفعل بجثة أخيه . وأراد الله تعالى أن يعلمه كيف يدفن أخاه فأرسل غرابين يقتتلان ، فقتل أحدهما الآخر ، وحفر حفرة في الأرض واراه فيها ، فعلم القاتل أنه أقل حيلة وأضعف تصرفاً من هذا الغراب فأحس بالندم جرّاء فعلته ، وندم  ، ولعلنا نتساءل : علامَ كانَ الندمُ ؟

حين يخطئ المرء ويندم ويستغفر الله تعالى يغفر الله له . فهل كان ندم هذا القاتل من هذا النوع الذي يُغفر فيه لفاعله ؟ يقول العلماء : إن هذا الندم ندم فقد لا ندم ذنب ، وبصيغة أخرى : إنه ندم على فقد أخيه لا على ذنبه الذي اجترحه . وقد مر قبل قليل أنّ على ابن آدم الأول كفلاً من دمها لأنه أول من سن القتل. وقد روى أبو بكرة رضي الله عنه  أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم "( سنن الترمذي ) ، ولعله ندم أن الغراب كان أذكى منه حين دفن أخاه ، ولم يهتدِ هو إلى ذلك قبل الغراب .

قال تعالى في فداحة قتل المؤمن دون سبب " مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ .... (32) " قال ابن عباس رضي الله عنهما : من قتل نفسا واحدة حرمها الله مثل من قتل الناس جميعا وروى ابن جرير الطبري عن سعيد بن جبير : من استحل دم مسلم فكأنما استحل دماء الناس جميعا ومن حرم دم مسلم فكأنما حرم دماء الناس جميعا ومن شد على عضد نبي أو إمام عدل فكأنما أحيا الناس جميعا .

وقد أعجبني قول سليمان بن علي الربعي ، قال : قلت للحسن البصري : هذه الآية لنا يا أبا سعيد كما كانت لبني إسرائيل فقال : إي والذي لا إله غيره كما كانت لبني إسرائيل وما جعل دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا وقال الحسن البصري " فكأنما قتل الناس جميعا " قال : وزرا ، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " قال : أجرا . .. نعم فدماء المسلمين أغلى وأكرم .