أفضل من ليلة القدر 1
أفضل من ليلة القدر
(1-2)
د. نعيم محمد عبد الغني
نويت أن أجعل في حديث الزمن كلاما عن ليلة القدر، وعندما هممت بذلك أردت أن أكتب ما يجول في خاطري ساعتها، ولم يكن يجول في خاطري إلا أن أعيد الأقوال التي قيلت في ليلة القدر، من حيث تعيين هذه الليلة وفضلها.
وفي أثناء تصفحي لكتب التفسير والسنة كي أعيد قراءة ما كتب وجدت لطائف وإشارات في تأمل ليلة القدر وما قيل فيها من فضل.
وأولى هذه اللطائف ما وجدته من أن هناك ليلة أفضل من ليلة القدر، فقد أخرج الحاكم في المستدرك عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أنبئكم بليلة أفضل من ليلة القدر؟ حارس حرس في أرض خوف لعله أن لا يرجع إلى أهله). الحديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجه
تأملت في هذا الحديث مليا، فقلت: لقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلم الصحابة درسا في الغاية والوسيلة، فالعبادة في ليلة القدر خير من ألف شهر، والعبادة وسيلة لرضا الله، وليست غاية، إنما الغاية رضا الله ودخول الجنة، والذي يحرس في أرض خوف مضحيا بنفسه في سبيل الله؛ حتى لا يصيب جماعة المسلمين أذى أو مكروه فإنه قد باع نفسه لله وأراد رضاه من أقصر الطرق، فلا يهم بعد ذلك طول العمر، والكم، فالإسلام لا يركز على الكم بل يركز على الكيف، والله يقول: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا)، والصدق مع الله يتجلى في أبهى صوره عندما يجود الإنسان بنفسه في سبيل الله.
لقد قلنا أمس: إن النبي –صلى الله عليه وسلم- كان في غزو الأحزاب فقال لصحابته: من يأتيني بأخبار القوم ويكون رفيقي في الجنة؟ والجو برد وخوف، ويصور القرآن ذلك الخوف فيقول: (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً) الأحزاب (10 -11)
فالمؤمنون في غزوة الأحزاب خائفون جائعون، والرسول يريد أن يعرف أخبار العدو، ويعرض صفقة رابحة: من يأتيني بأخبار القوم ويكون رفيقي في الجنة، ولم يقم أحد وفي القوم أبو بكر وعمر وكبار الصحابة وكلهم يملك من الشجاعة والحب لله ورسوله والتضحية الكثير، ولكن الخوف بلغ مبلغا عظيما، ومن هنا تكون الغاية الجنة، والجهاد الوسيلة، فمن يفز هذه الليلة في الجهاد فأفضل له من ليلة القدر؛ لأن العبادة من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة لا تتأتى باطمئنان إلا وقت السلم، أما وقت الحرب فتصلى صلاة الخوف وتقصر الصلاة وتجمع، فضلا عن ترك قيام الليل والتهجد وطول العبادة، يقول صاحب الظلال تعليقا على مجيء آيات الحرب بعد آيات الحج في هذا المعنى: (الشعائر والعبادات لا بد لها من حماية تدفع عنها الذين يصدون عن سبيل الله وتمنعهم من الاعتداء على حرية العقيدة وحرية العبادة، وعلى قداسة المعابد وحرمة الشعائر)
إن فضل الله يتنوع، فمنه ما كان كما ومنه ما كان كيفا، فالصلاة خمس في العمل وخمسون في الأجر، وليست ليلة القدر مع تقديرنا لها؛ لذكرها في القرآن والسنة نهاية المطاف في ثواب الله للمؤمنين، فإن الله يعطي بغير حساب، ورب سجدة واحدة أدخلت المرء الجنة، ورب عبادة كثير من الأعوام مع كثير منم الآثام كانت طريقا إلى النار، عَنْ ثَوْبَانَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا قَالَ ثَوْبَانُ يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ قَالَ أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا، فجهاد النفس في هذا الحديث من أفضل الجهاد أيضا وهو وسيلة لدخول الجنة.
فهؤلاء يفعلون حسنات كثيرات ويقومون الليل وقد يكون من قيامهم ليلة القدر، ولا يحرمون الثواب، غير أن نفوسهم لم تزل مريضة، إذ يضعفون أمام شهواتهم، ونزواتهم فينتهكون حرمات الله، ولا يكون لهم ظاهر كابطن، بل ظاهرهم رواء وباطنهم خواء، يعبدون الله أمام الناس، ويستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول).
فأفضل من قيامهم الليل مراقبتهم الله في أعمالهم وحياتهم، فلو فعلوا الفرائض ومعها حافظوا على محارم الله كانوا أعبد الناس، وفي الحديث: (اتق المحارم تكن أعبد الناس) أخرجه الترمذي
وفي المحافظة على المحارم جهاد كبير للنفس، وهو اللبنة الأولى في صلاح النفس والدفاع عن الأوطان، فليس من المعقول أن نكون في يقظة لعدونا، وإن بني جلدتنا ينتهكون حرماتنا، وتكون الخيانة الكبرى التي هي أشد جرما من أعداء الإسلام.
إن بني إسرائيل دخلوا الجنة ولم يعملوا شيئا سوى أنهم قالوا كلمة حق عند سلطان جائر، قالوا: (ِإنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)، وهذا أيضا أفضل الجهاد كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، وجزاء هذا الجهاد الجنة وإلى لقاء غدا مع لطائف الأقوال في ليلة القدر إن شاء الله.