ربيع القلوب
ربيع القلوب
أ.د. حلمي محمد القاعود
[email protected]
يكتب كثير من الناس عن رمضان ؛ شهر الصوم الكريم ، كلاما مثيرا يملأ الصفحات ،
ويقول كثير من الناس عنه كلاما كثيرا يملأ الأثير والآفاق ، ولا أظنني سأضيف جديدا
إلى ما قالوا ويقولون ، ولكنني سأحاول أن أنظر إلى هذا الشهر المبارك من زاوية خاصة
ترى فيه ، جانبا من جوانب الإشراق التي تضيء النفس من الداخل ، وتجدد فيها عناصر
القوة الروحية والنفسية ، لتواجه الواقع من خلال الارتباط بالخالق سبحانه وتعالى ،
وتوثيق هذا الارتباط ، بما يحرر المسلم من قيود المادة ، والعبودية لغيره جل شأنه
وعلا .
يقول تعالى : " يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ،
لعلكم تتقون " ( البقرة : 183) ، والآية الكريمة تتناول تشريع الصيام وفرضيته ،
والغاية منه التي تتمثل في قوله تعالى : " لعلكم تتقون " . والتقوى هي الرجاء الذي
يرجوه الحق سبحانه وتعالى من عباده المؤمنين ، ويأمل أن يتحقق بصيامهم رمضان ،
وتعريفات التقوى كثيرة ، ولكن أشملها من وجهة نظري ما قاله الإمام علي بن أبي طالب
في تعريفها : " الخوف من الجليل ، والعمل بالتنزيل ، والاستعداد ليوم الرحيل " .
وفي هذه التعريف دلالات كثيرة تستحق الوقوف عندها، ويمكن أن نوجزها في جمل محدودة .
فالخوف من الله هو طبيعة الإيمان السليم ، وهو اقتراب القلب المسلم من الخالق جل
وعلا ، وهو الطريق إلى الالتزام بالطاعات ، وترك المنكرات ، إنه ربيع القلب المؤمن
الذي يضيء بالإيمان في أرقي صوره وأفضل معانيه ، ويكفي أن يكون القلب موصولا بخالقه
على الدوام ، وهذه هو سر الرجاء في الآية الكريمة –كما أتصور – في قوله تعالى : "
لعلكم تتقون " .
ومن
عنصر التقوى كما عرفها علي بن أبي طالب " العمل بالتنزيل" أو الوحي ؛ سواء كان
القرآن الكريم أو التطبيق العملي القائم في سنة النبي – صلى الله عليه وسلم – من
قول أو عمل أو إقرار . والعمل بالوحي أقصر الطرق ليكون المسلم أقرب إلى ربه سبحانه
، وأبعد عن مضاعفات البؤس والشقاء التي يصنعها البعد عن التنزيل ، ومعطيات الوحي .
ويأتي العنصر الأخير بالاستعداد ليوم الرحيل ، أي يوم الموت والانتقال إلى العالم
الآخر ، بما يمثله هذا الاستعداد من حرص على المزيد من الطاعات والبعد عن المنكرات
ما ظهر منها وما بطن ، والزهد في عرض الدنيا الزائل ، وعدم التهافت عليه كما يفعل
أولئك الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم .
والصوم في رمضان يمثل نقلة نوعية في حياة المسلم ، إذ تتفتح أمامه سبل السلام
والسكينة والاطمئنان ، ويغدق عليه الشهر الكريم من خيرات الله ما لا يحصى من
الطيبات المعنوية والمادية ، ولنتأمل قوله تعالى : " شهر رمضان الذي أنزل فيه
القرآن هدى للناس وببنات من الهدى والفرقان ، فمن شهد منكم الشهر فليصمه ، ومن كان
مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ، يريد الله بكم اليسر ، ولا يريد بكم العسر ،
ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ، ولعلكم تشكرون " ( البقرة : 185) .
القرآن هو أول وأكبر خيرات الله التي لا ينقطع مددها عن المسلم في السراء والضراء ،
بما فيه من الهدى والبينات ، والقران ليس مجرد آيات تتلى هنا أو هناك ، ولكنه وفقا
للآية الكريمة ، هدى وفرقان . والهدى هو انطلاق الروح نحو آفاق العمل والأمل على
أساس الاستقامة والوضوح والأمن الروحي والنفسي ، أما الفرقان فهو الفصل بين الحق
والباطل ، وبيان الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، وبذا يستريح القلب المؤمن وهو يسعى
لإرضاء ربه ، والعمل من أجل لقائه ، أو الاستعداد للرحيل كما تقضي التقوى من المسلم
، أو كما تقضي الاستفادة من صيام رمضان " لعلكم تتقون" .
وحول صوم رمضان نجد تراثا هائلا من ألأحاديث النبوية الشريفة تدور من قريب أو بعيد
حول ربيع القلوب الذي يصنعه صوم رمضان في حياة المسلم سنويا ، وتجديد خلاياه
الروحية والبيولوجية أيضا .
من
هذه الأحاديث ؛ ما ورد عن
ابن عباس -
رضي
الله عنهما - قال :
كان النبي - صلى الله عليه
وسلم - أجود الناس بالخير ،
وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل ، وكان
جبريل عليه السلام يلقاه كل
ليلة في رمضان حتى ينسلخ ؛ يعرض عليه
النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن فإذا لقيه
جبريل - عليه السلام - كان
أجود بالخير من الريح المرسلة
.
والحديث الشريف أوضح من أن يفسر ، ولكن دلالاته تشير إلى تلك الخيرات الغامرة التي
يحملها شهر الصوم المبارك ، وهو الجود بالخير ، فالرسول – صلى الله عليه وسلم –
كان أجود ما يكون في رمضان ، بل أجود بالخير من الريح المرسلة التي تحمل المطر
والغيث ، فيخضر الزرع والضرع ، ويأكل الإنسان والحيوان ويشربان .
ويلاحظ أن لقاء جبريل – عليه السلام – بالنبي – صلى الله عليه وسلم – كان لمدارسة
القرآن الكريم حتى ينسلخ شهر رمضان ، و تنتهي أيامه ، وهو ما يعني أن القرآن الكريم
محور شهر الصيام ، بما فيه من هدى وفرقان ، وأن القرآن الكريم دستور الحياة
الإسلامية ، يعمل به المسلم ، ويطبقه في حياته اليومية والاجتماعية والإنسانية،
ولذا كان الإشارة إلى الجود " وهو العطاء ، والعطاء يعني أن يقدم المسلم طواعية
بعضا مما يملك ويجود به على من يستحقون من بقية الناس ليصنع ربيعا اجتماعيا يوازي
ربيع القلوب.
ولعل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، قد عملوا بهذه السنة المباركة ، في إخراج
الصدقات والزكوات في أيام الشهر الطيب المبارك ، فيعيش الفقراء والمحتاجون والضعفاء
أياما أفضل من أيامهم السابقة ، بفضل الله أولا ، ثم بفضل هذا الجود الذي يبذله
المسلمون من مختلف الطبقات والفئات ، لا يمنون به على غيرهم ، ولا يراءون ، ويصنعون
ربيعا اجتماعيا ، يحركه ربيع القلوب الذي يعيشه الصائمون .
إن شهر رمضان هو ربيع القلوب بامتياز ، لمن فقهه، وعاشه عيشة حقيقية ، وجعل القرآن
الكريم محور تفكيره وتطبيقه ، وكل عام وأنتم بخير .