غربة الصادقين

عصام ضاهر

مدرس وحاصل على دبلومة في التربية

essamdaheeصلى الله عليه وسلم@maktoob.com

إذا قرأنا أو سمعنا حديث النبي صلى الله عليه وسلم ( بدأ الإسلام غريبا ثم يعود كما بدأ فطوبى للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس) "كنز العمال "

بادر إلى أذهاننا غربة الإسلام وأهله بين أهل الأرض جميعا ، واقصر فهمنا لهذا الحديث على هذا النوع من الغربة ، أخذًا بظاهر الحديث كما قال الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه " وَظَاهِر الْحَدِيث الْعُمُوم وَأَنَّ الْإِسْلَام بَدَأَ فِي آحَاد مِنْ النَّاس وَقِلَّة ثُمَّ اِنْشَرَ وَظَهَرَ ثُمَّ سَيَلْحَقُهُ النَّقْص وَالْإِخْلَال حَى لَا يَبْقَى إِلَّا فِي آحَاد وَقِلَّة أَيْضًا كَمَا بَدَأَ " . شرح النووي على مسلم "

أنواع الغربة

وناسينا أن هناك أنواعا معددة من الغربة ، ما أحلاها ، وما أجمل أن يصف بها الإنسان المسلم ، فكما يقول أهل الصوف :- الغُربة غربان : ظاهرة وباطنة .

فالظاهرة : غُربة أهل الصلاح بين الفساق ، وغربة الصادقين بين أهل الرياء والنفاق ، وغربة العلماء بين أهل الجهل وسوء الأخلاق ، وغربة علماء الآخرة بين علماء الدنيا الذين سُلبوا الخشية والإشفاق ، وغربة الزاهدين بين الراغبين فيما ينفد وليس بباق .

وأما الغربة الباطنة : فغربة الهمة ، وهي غربة العارفين بين الخلق كلهم حى العلماء والعباد والزهاد ، فإن أولئك واقفون مع علمهم وعبادهم وزهدهم ، وهؤلاء واقفون مع معبودهم لا يعرجون بقلوبهم عنه (كشف الكربة في وصف أهل الغربة - للإمام الحافظ أبي الفرج ابن رجب الحنبلي )

وأهل هذا الشأن هم غرباء الغرباء ، غربهم أعز الغربة . فمن هم ؟ وكيف حالهم مع الله ؟ ومع العباد ؟ وما صفاهم ؟

أبدان في الأرض وقلوب في السماء

-  يعيشون بين الناس بأبدانهم ، وقلوبهم معلقة بالله عالى ، يعيشون بأبدانهم في الدنيا ، وقلوبهم معلقة بالآخرة ،كما ورد في الأثر الذي ينسب إلى الحسن في مراسيله عن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه : ( علامة الطهر أن يكون قلب العبد عندي معلقا ، فإذا كان كذلك لم ينسني على كل حال ، وإن كان كذلك منن عليه بالاشغال بي كي لا ينساني ، فإذا لم ينسني حرك قلبه ، فإذا كلم كلم بي ، وإذا سك سك بي ، فذلك الذي أيه المعونة من عندي ) حالهم بين الناس كما قول رابعة العدوية :

إني جعلك في الفؤاد  محدثي          وأبح جسمي من أراد جلوسي

فالجسم مني للجليس مؤانس          وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي

وكما قال أبوعيينة بن أبي عيينة :

جسمي معي غيرَ أنّ الروح عندكُمُ         فالروحُ في وطنٍ والجسمُ في وطنِ

 فليَعجَبِ  الناس منّي إنّ لي جسَداً         لا  روحَ  فيه  ولي  روحٌ  بلا بَدَنِ

يحنّون إلى غروب الشمس

-  و يحنّون إلى الخلوة بالله كما حن العذراء إلى خدرها ، وهم أشد فرحا بها من الظمآن حينما يجد الماء ، ويفرون من مخالطة الناس إليها ، ومن ظهر منهم للناس فهو بينهم ببدنه ، وقلبه معلق بالنظر الأعلى ، يحبون الله ويحبهم الله عالى كما روي عن بعض السلف:

" إن الله عالى أوحى إلى بعض الصديقين إن لي عباداً من عبادي أحبهم ويحبونني ويشاقون إلي وأشاق إليهم ويذكرونني وأذكرهم وينظرون إلي وأنظر إليهم فإن حذو طريقهم أحببك وإن عدل عنهم مقك، قال يا رب وما علامهم؟ قال يراعون الظلال بالنهار كما يراعي الراعي غنمه ويحنون إلى غروب الشمس كما حن الطير إلى أوكارها فإذا جنهم الليل واخلط الظلام وخلا كل حبيب بحبيبه نصبوا إلى أقدامهم وافرشوا إلى وجوههم وناجوني بكلامي وملقوا إلي بإنعامي فبين صارخ وباكي وبين مأوه وشاكي بعيني ما يحملون من أجلي وبسمعي ما يشكون من حبي أول ما أعطيهم أقذف من نوري في قلوبهم فيخبرون عني كما أخبر عنهم. والثانية: لو كان السموا السبع والأرضون السبع وما فيهما في موازينهم لاسقللها لهم. والثالثة: أقبل بوجهي عليهم أفرى من أقبل بوجهي عليه أيعلم أحد ما أريد أن أعطيه؟ "إحياء علوم الدين "

همة عالية

-  ولا عنيهم مظاهر الدنيا – وإن كانوا يعنون بثيابهم وهيئهم – فكل همهم إرضاء الله عالى ولا يساومون في ذلك كما يقول عبد الله من مسعود " كونوا جدد القلوب ، خلقان الثياب ، مصابيح الظلام ، خفون على أهل الأرض وعرفون في أهل السماء " .

مصابيح الهدى

-  ولا ينافسون الناس في أمور الدنيا ، ولكنهم ينافسونهم في أمور الآخرة ، ليس همهم أن يعرفهم العِباد ، بل همهم أن يعرفهم رب العباد ، ولم لا ؟ وهم يحفظون حديث النبي صلى الله عليه وسلم فقد رُوي أن عُمَرَ بن الْخَطَّابِ، خَرَجَ إِلَى مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا هُوَ بِمُعَاذِ بن جَبَلٍ يَبْكِي عِنْدَ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ يَا مُعَاذُ؟ قَالَ: يُبْكِينِي شَيْءٌ سَمِعْهُ مِنْ صَاحِبِ هَذَا الْقَبْرِ، قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: سَمِعْهُ يَقُولُ:"إِنَّ يَسِيرًا مِنَ الرِّيَاءِ شِرْكٌ، وَمَنْ عَادَى أَوْلِيَاءَ اللَّهِ فَقَدْ بَادَأَ اللَّهَ بِالْمُحَارَبَةِ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ الأَخْفِيَاءَ الأَقِيَاءَ الَّذِينَ إِذَا غَابُوا لَمْ يُفْقَدُوا، وَإِذَا حَضَرُوا لَمْ يُدْعَوْا وَلَمْ يُعْرَفُوا، قُلُوبُهُمْ مَصَابِيحُ الْهُدَى، يَخْرُجُونَ مِنْ كُلِّ غَبْرَاءَ مُظْلِمَةٍ" "المعجم الكبير للطبراني " كما قال علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه – " طوبى لكل عبد لم يعرف الناس ولم عرفه الناس ، وعرفه الله منه برضوان ، أولئك مصابيح الهدى ، جلى عنهم كل فنة مظلمة " وشأنهم في ذلك كما يقول الشاعر :

سر من دهري بظل جناحه           فعيني رى دهري وليس يراني

فلو  سأل  الأيام عني ما در          وأين   مكاني  ما  عرفن مكاني

الشوق العظيم

-  وذاقوا أطيب ما في الدنيا ، وهي محبة الله عالى والأنس به ، كما قال بعض العارفين : " مساكين أهل الدنيا خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها ! قيل له : وما أطيب ما فيها ؟ قال : محبة الله والأنس به ، والشوق إلى لقائه ، والنعم بذكره وطاعه " .

كأنه يراهم

-  ويراقبون الله في حياهم ، وحركاهم وسكناهم ، وأقوالهم وأفعالهم ، وصمهم ، وكلامهم ، لسان حالهم كما يقول أبوبكر الشبلي :

كأن رقيباً منك يرعَى iiخواطري
فـما  رمق عيناي بعدك iiمنظرا
ولا بـدر مـن فِيَّ دونك iiلفظةٌ
إذا ما سلَّى العاذرون عن الهوى
وجد الذي يُسلي سواي iiيشوقُني
ولا  خَطَر في السر منيَ iiخطرةٌ
وإخـوانِ صِدقٍ قد سئم iiحَديثَهم
وما الزهدُ أسلى عنهم غير أنّني







وآخـر  يرعى ناظري iiولساني
لـغـيـرك  إِلا قل قد iiرمقاني
بـغـيـرك  إِلا قل قد سَمِعاني
بـشُـرب  مُدامٍ أو سماع iiقيان
إِلـى قـربـكِم حى أمَلَّ مكاني
لـغـيـرك إِلا عَـرَّجا iiبعِناني
وأمـسك  عنهم ناظري ولساني
وجـدك  مـشهودي بكل iiمكان

قلوب أخلص

-  وصحَّ قلوبهم ، فلم فر عن ذكر الله ، ولم سأم من خدمه ، ولم أنس بغيره إلا بمن دلها عليه ، وذكرها به . فقلوبهم مطمئنة بذكر الله { أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ طْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [الرعد: 28] .

بين خوف ورجاء

-  ويلجؤون إلى الله في اليسر والعسر ، والضيق والفرَج . فلا يسألون أحدا غير الله عالى ، ولا يسغيثون بسواه ، لسانهم دائما يناجي الله عالى قائلا :

يا من يرى ما في الضمير ويسمع
يـا مـن يـرجـى للشدائد iiكلها
يـا من خزائن رزقه في قول iiكن
مـالـي  سوى فقري إليك وسيلة
مـالـي سوى قرعي لبابك iiحيلة
ومـن الـذي أدعو وأهف iiباسمه
حـاشـا  لجودك أن قنط iiعاصيا






أن الـمـعـد لـكـل مـا iiيوقع
يـا مـن إلـيه المشكى iiوالمفزع
امـنـن فـإن الخير عندك أجمع
فـبـالافـقـار  إليك فقري iiأدفع
فـلـئـن  ردد فـأي باب iiأقرع
ن  كـان فضلك عن فقيرك iiيمنع
الـفـضل أجزل والواهب iiأوسع

أفراه يعذبني وأنا أحبه ؟

-  ويحرصون على المو أكثر من حرصهم على الحياة ، لأن المو يقربهم من الله عالى ، ليس ثقة في عملهم ولكن لحسن ظنهم بالله عالى ومن الروايا الواردة في حب الله : أنه كان امرأة معبدة قول : والله لقد سئم الحياة ، حى لو وجد المو يباع لاشريه شوقا إلى الله عالى ، وحبا للقائه . فقيل لها : فعلى ثقة أن من عملك ؟ قال : لا ، ولكني لحبي إياه وحسن ظني به ، أفراه يعذبني وأنا أحبه ؟

هؤلاء هم أهل الغربة الحقيقيون في ذلك الزمن الذي نعيش فيه .

وليس هذه دعوة للانعزال عن الناس ، وعدم مخالطهم لأن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ( الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ ) " سنن ابن ماجه "

ولكنها دعوة لأن كون لنا أوقا من الخلوة نقف فيها بين يدي الله عالى ، نظهر ضعفنا بين يديه ونسأله غفران الذنوب .