جذور الإيمان
جذور الإيمان
عدنان عون
إن الإيمان إذا ما تجذر في القلوب، وتعمق في النفوس، وتغذت به الروح، استعصى على اجتذاذه من القلوب، وصعب تحرير النفوس منه، أو إبعاد أثره عن الروح، لذا يستعذب المؤمنون الذين أشرق الإيمان في قلوبهم المحن، ويصبرون على المصائب، ويتحملون الصعاب، وتلذ لهم التضحيات·· فلا عجب أن يصنع الإيمان العجائب، ويخلد أعظم المواقف، ونحن اليوم نعيش موقفاً خلده الإيمان في فردوسنا المفقود·
فبعد ثمانمائة سنة حكم فيها المسلمون الأندلس (إسبانيا) بدأت الأهواء والمصالح الخاصة تفرق العرب، والانقسامات الداخلية تستنزف قواهم، حتى كان يوم الثاني من يناير عام (1492م) يوم سقوط غرناطة آخر معاقل ملوك الأندلس بعد أن سلم أبو عبد الله آخر ملوكها مفاتيحها إلى الأسبان، وغادرها حزين القلب، دامع العينين، يبكي ملكاً أضاعه، وإرثاً عظيماً فرط فيه·· لكن هل ينفع البكاء، أو هل يرد مسلوبا؟!
وغابت ــ بعد سقوط غرناطة ــ شمس الإسلام عن الأندلس وتوارت عن مدنه مشاعل الهداية والحضارة، وتقهقرت الحضارة الإنسانية أمام همجية الغرب، وانتهى عصر التسامح الديني والإنساني، وتركت محاكم التفتيش في الفردوس المفقود أبشع صور الحقد والعداء والاضطهاد الديني·
وشاءت الأقدار أن تعيش الأسر المسلمة التي نجت من الإبادة أقسى ألوان القهر والعذاب النفسي، فقد أجبرت على تغيير الهوية والعقيدة والإنتماء، وقهرت على التنصير·
ولكن أسرة من تلك الأسر ظلت جذوة الإيمان متقدة في أعماقها، لم يطفئ أنوارها ما عانت وما لاقت، فراحت كلما سنحت لها فرصة في غيبة محاكم التفتيش تعيد إلى أبنائها نبض الإيمان، وتصلهم بجذور العقيدة والولاء·· وفي ليلة عيد الفصح، وقد بلغ الابن العاشرة من عمره، اختلى الأب بابنه وقال له: ها قد بلغت يا محمد مبلغ الرجال، فهل تعي ما أفضي لك به؟ وهل آمنك يا ولدي على سر كتمته في قلبي طيلة هذه السنوات؟ ما منعني من البوح لك به إلا خوفي أن تضعف فتفشيه فتعرضنا جميعاً للجلادين من رجال محاكم التفتيش·
مضت سنوات على محنة الفردوس المفقود، والأب يتجرع آلامه، ويواري أحزانه، ويخنق ذكرياته وآهاته، حتى كانت ليلة الفصح التي بلغ فيها الصغير العشر سنوات، وبينما كانت غرناطة كعروس تتلألأ فيها أنوار الفصح ومباهجه، إذ بوالد الغلام يأخذ بيده ويمضي به إلى الغرفة التي طالما تساءل الطفل ما حكايتها؟
وكم كانت دهشة الصغير كبيرة حين رأى غرفة أبيه خواء ليس فيها ما يلفت الانتباه، وتملكت الغلام فترة من الصمت الرهيب والتفكير الطويل، ما أخرجه منها ولا أذهب عنه روعه إلا صوت أبيه الندي الذي كان ممزوجاً بالحب والعطف والخوف·· يقول له: أتريد أن تعرف سر الغرفة؟ أتريد أن أبوح لك بالسر الذي كتمته سنوات؟·· لا بأس يا بني فأنت اليوم رجل يمكنك أن تتحمل المسؤولية·
أحس الغلام بدبيب الرجولة يسري في أعماقه، ويستعلي في داخله، فإذا به يقول نعم، سأكتم السر وأتحمل المسؤولية·· وسأكون يا أبتاه كما تريد·
وبينما كان الصغير متلهفاً لسماع السر من والده، إذ بوالده يقول له: أترى الكتاب يا بنيّ؟ إنه القرآن الكريم، الكتاب المقدس الذي يحمل حقيقة الوجود كله، وهو الكتاب الذي حمل إلى هذه البلاد أنوار الهداية ومعالم الحضارة، وصنع للإنسانية أجمل مدنية وأعظم حضارة·
ثمانمائة سنة يا بنيّ وأمتنا تحكم هذا الفردوس الذي سلبه الإسبان منّا، وتركونا في أيدي ديوان التفتيش، يسوموننا القهر والاضطهاد، ويجبروننا على التنصّر والذوبان فيهم·
ونحن يا بني لسنا إسبانيين ولا نصارى·· نحن مسلمون أتباع هذا الدين وأصحاب هذا الكتاب، وإن كل ما تراه ــ يا بنيّ ــ في هذه البلاد، إنما هو مظهر من مظاهر حضارتنا، وأثر من آثار وجودنا، وإن لنا في كل ميدان ذكرى وأثراً·
كنّا سادة الدنيا، فلما شُغلنا عن القرآن، استحوذت علينا الدنيا وعشناها عبثاً وترفاً، حتى تظاهر علينا الإسبان، وتسللوا إلى ملوك أمتنا وخدعوهم ثم خلعوهم وجرّعوهم غصص الحياة·
وكان أبوعبدالله الصغير آخر ملوك الأندلس يا بنيّ! وكان يوم سقوطه وخروجه صورة للصغار والتخاذل·· خرج يبكي ولكن هل ينفع البكاء؟
وعى الصغير كل ما سمعه من والده·· وهتف من أعماقه: اليوم ولدت·
ومضى لا يثنيه شيء عن تعلم العربية وأمور الدين، كيما يتحرر من كل أباطيل القوم وأكاذيبهم، ويُعيد إلى الذاكرة ما افتقده من وعي·
وأحسّ الصغير أن حياة جديدة تسري في كيانه وتملأ قلبه وفكره، وبدأ يتذوق طعم الإيمان الذي حرمه من قبل، ولذة الحرية والكرامة، ويحس بمعاني الذكريات والآثار التي طالما رآها من حوله·
اطمأن الأب على ولده، وأشعره بأنه قد يتعرض للاعتقال والموت في أي لحظة·· ولكنني يا بنيّ لستُ أبالي بعدما اطمأننت عليك، ما أصابني·· فأطع يا بنيّ الرجل الذي عرفتك به، ولا تعص له أمراً·
وفي ليلة ظلماء كان القدر يرسم لمحمد الصغير طريق النجاة، فقد دخل عليه صاحب والده قائلاً: أسرع يا محمد ولا تفوّت علينا فرصة النجاة، فقال الولد: وأين أبي يا عماه؟!
أبوك يا ولدي أُخذ بأيدي رجال التفتيش، وما أظنه إلا وقد سقط شهيداً، فلننج بأنفسنا·
كانت عناية الله ترعاه، والأقدار تحوطه، حتى وصل سالماً إلى المغرب، وشاء القدر أن تنمو هذه النبتة المباركة وتؤتي ثمارها بعد ما سُقيت بماء الإيمان، وتحررت من أباطيل الكفر·· وكانت نجاته قصة تحكي للأجيال حقيقة الفردوس المفقود وسر سقوطه، وما عانى المسلمون بعد فقده·
وأراد الله لسيدي محمد بن عبدالرفيع الأندلسي أن ينجو وأن يكون الشاهد على مأساة الفردوس الجميل·· والعالم الذي ملأ المغرب علماً وفقهاً وتصنيفاً·· رحم الله الرجل وجعله في الخالدين.