الإسراء والمعراج
عبير الطنطاوي
في حياتنا العملية نجد أن لكل مجتهد في أي مجال من المجالات مكافأة وجائزة تشجيعية على الاستمرار في عمله وجده واجتهاده ونشاطه ، وهذه الجائزة ربما تكون مادية بمال أو نحو ذلك ، أو تكون معنوية باحتفال أو تكريم أو غير ذلك .. ولكن إذا كانت المكافأة البشرية بهذا الشكل ، فكيف تكون الجائزة عندما يكون مصدرها رب السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى ؟
فعلاً إنه لسؤال عصيب فلابد أن تكون الجائزة عظيمة ورائعة .. وهذا ما حصل مع سيد البشرية أجمع ، مع حبيب السموات والآرض مع سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) عندما أكرمه الله تعالى وأعطاه جائزة ما كانت لأحد من قبله ولا من بعده ، وهذه الجائزة هي الإسراء والمعراج ، وقد جاءت هذه المكافأة في وقت عصيب على نفس رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في وقت صعب قاس ، تمثل بوفاة عم الرسول (صلى الله عليه وسلم) وزوجته (خديجة) في عام واحد (عام الحزن) وما كان لهذا الفقدان من أثر في حياته ، وفي نفسه عليه الصلاة والسلام ، فقد اشتدت قسوة قريش على حبيب الله (صلى الله عليه وسلم) وازداد توحشهم ، حتى ضاقت نفسه الكريمة بالدنيا وضاقت بالكفرة المشركين من قريش ، حتى رأى أن (مكة) لم تعد صالحة لتكون مقر الإسلام ومنبع النور للعالم ، فترتب على ذلك تفكيره بالسفر إلى الطائف للدعوة هناك إلى الإسلام ، وفي الطائف حدث ما لم يكن في الحسبان ، فقد لقي (صلى الله عليه وسلم) أشد أنواع الاضطهاد والإيذاء من أهل الطائف ، حتى بلغ الحزن قمته ، فتوجه إلى ربه بخشوع يدعو : (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين وأنت ربي ، إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتهجمني ، أم إلى عدوّ ملكته أمري ؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ، غير أن عافيتك أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، أن ينزل بي غضبك ، أو يحل عليّ سخطك . لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك) ثم عاد إلى مكة ودخلها تحت حماية رجل كريم من مكة اسمه (مطعم بن عدي) .. عاد إليها بقلب كسير ، ونفس ملتاعة ، لأنه ما استطاع أن ينشر دين الله ويدخله في صدور الناس . وهنا ومع هذه الأزمة النفسية ، ومع تلك الأحزان القلبية العارمة ، ومع ذلك الألم الشفيف الذي لفّ نفسه الزكية ، جاءته الجائزة التي ما وهبت لأحد من قبله ولا من بعده .. جائزة الإسراء والمعراج ، فقد أكرمه تعالى بأمر خارق للعادة ، ومعجزة ما خطرت على قلب بشر ، حين أسري به من المسجد الحرام المسجد الأقصى : {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير} وقد ورد حديث الإسراء في حديث طويل ، أخبرنا فيه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالطريقة التي أسري بها إلى المسجد الأقصى ، ومن ثم عروجه إلى السماء كما حدثنا عن حادثة شق الصدر ثانية .. شقِّ جبريل صدر رسول الله ، فقد جاء بطست مملوء حكمة وإيماناً ، وحشا بهما صدره الشريف ، ثم أسري به ، وفي الطريق مرّ ببلدة فسأل عنها جبريل فأخبره أنها (طيبة) ثم وصل عليه السلام إلى بيت المقدس وهناك صلى ـ عليه الصلاة والسلام ـ بأنبياء الله جميعاً ، ثم عُرج به إلى السموات العلى وفي كل سماء كان يلتقي واحداً من أنبياء الله المكرمين حتى وصل عليه الصلاة والسلام إلى (سدرة المنتهى) وعندها جنة المأوى وهناك حدثت المقابلة الروحية العظيمة بين رب السموات والأرض وبين نبي البشرية وقد ثبت أنه في حادثة الإسراء والمعراج تم فرض الصلاة على المسلمين .
فهذه الجائزة خففت من وطأة المواجع الروحية ، وقوّت إيمانه وضاعفت من تصميمه على الصدع بالحق ، في سبيل نشر الإسلام .. فقد انطلق يحدث الناس بهذه المعجزة الهائلة لا يبالي بعناد المعاندين من كفار قريش ، ولا باستهزاء المستهزئين من المستكبرين المشركين الذين وقفوا من هذه المعجزة الربانية موقف الكفر والطغيان ، موقف الرفض والتكذيب بينما كان موقف أبي بكر وصحبه الكرام ، موقفاً كريماً ، موقف التصديق ولهذا لُقّبَ بـ (الصديق) كما صدّق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جماعة من المسلمين كانت قليلة العدد ، ضعيفة الجانب ولكنها قوية بإيمانها ، عظيمة بصمودها وتحديها وثباتها على الحق . إنها الجائزة الخالدة التي لم يسجل تاريخ البشرية ، ولم يسجل مثلها في عظمتها وروعتها المتطامنتين أمام عظمة سيد الخلق ، وأمام روعة إمام الأنبياء والمرسلين .. الجائزة التي ربطت ـ قبل أربعة عشر قرناً ـ بين مكة والقدس ، بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى ، وكأنها تريد أن تصرخ بالمسلمين :
أيها المسلمون ..
قضية فلسطين هي قضيتكم .. هي قضية كل مسلم على وجه الأرض .. وليست قضية فلسطينية وحسب .. وليست قضية العرب وحدهم .. بل هي قضية المسلمين كافة .. وحيث كانوا .. لو في بلاد واق الواق .. جاءت معجزة الإسراء والمعراج لتخفف من مواجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولتذكر المسلمين بمسؤولاتهم على الزمان ، تجاه الأقصى والقدس وفلسطين .. وباطلٌ ما يزعم الزاعمون ، أن (فئة) ما تستطيع أن تحتكر القضية الفلسطينية ، أو أن تحصرها في إطار إقليمي محدود ، أو قومي ضيق .