تسبيحات عمرة
سحر المصري
طرابلس - لبنان
عشر سنوات وأنا أنهل من معين واحد.. تهفو نفسي إليه في كل عام مرة.. وأحياناً مرتين إذا أكرمني ربي جل وعلا من فضله.. وحين أيمِّم وجهي نحوه أنسى كل ما دونه.. أيام قليلة أقضيها في كنفه لأعود بذخيرة روحية عارمة تكفيني لعام.. وأعيش على حلم العودة في القابل.. لأرتشف من جديد وأرتقي!
ولكن هذا العام كان كل شيء مختلفاً.. أروع! تساءلت لِم.. قلت ربما لأن العمرة هذه السنة كانت بعد مرض قرّبني من ربي جل وعلا أكثر.. أو ربما لأن مكّة هذا العام كانت طاهرة من كل منازِع يريد اغتيال قداستها وسكوني.. أو ربما لأنها المرة الأولى التي أخلو فيها تماماً لوحدي.. أو ربما لأن توقيت هذه العمرة كان قبل رمضان بأيام.. فكانت بمثابة التخلية التي تمهِّد لتحلية تليق بضيفٍ كريم..
وأيّاً يكن سبب بهاء هذه العمرة المباركة إلا أنها كانت الأروع حقاً.. حلّقت خلالها في فضاءات عُليا.. وانتشيت بتمريغ الجبين عند زمزم والمقام.. وسجود القلب لربٍّ كريم مجيب.. يعلم السر وأخفى!
وكما في كل عام.. بسطتُ بضاعتي المزجاة في رحابه واستغفرته على ذنوبٍ اقترفتها ومعاصٍ عاقرتها.. واستحييت على ما كان وما سيكون من تقصير في جنبه إذ أنني بشر.. وقد تخطئني رغبتي في الملائكية أحياناً فأرضخ مرغمة لزلل.. ثم يكون إياب بكلّيتي إليه فتتحقق سعادة عارمة بتلك التوبة!
قال: "هنيئاً لكِ.. القدس عينك.. ومكّة قلبك".. وبين العين والقلب صِلة ومداد.. وحين تسبق العمرة فعاليات مقدسية فلا بد أن يكون لها طعم آخر.. جولة مباركة في المسجد الأقصى المبارك تسافر بروحك وقلبك فيها إلى هناك فتتعرّف على كل زاوية من زواياه.. ثم محاضرة مطوّلة لعاشق مقدسيّ عن النبي صلى الله عليه وسلم وبيت المقدس.. تلك العلاقة التي بدأت قبل الإسراء والمعراج بزمن طويل.. فقد صلّى الحبيب إلى بيت المقدس قبل أن تُفرَض الصلوات الخمس كما نعرفها اليوم.. إلى بيت المقدس!
وقد كان الحبيب عليه الصلاة والسلام يصلي عند الركن اليماني فيجعل القدس أمامه والكعبة بين يديه.. علاقة وثيقة بين الحبيب عليه الصلاة والسلام وبيت المقدس.. فبعد الطائف وما عاناه صلوات ربي وسلم عليه رفع شكواه إلى الله جل وعلا ولم يسأله.. ولم يطلب منه جل وعلا.. وإنما فقط رفع الشكوى فكانت الإجابة في رحلة الإسراء والمعراج.. ابتدأها في القدس، بوابة السماء.. ونزلت سورة "الإسراء" مع أن المعراج أعظم! ويخبرنا العاشق المقدسيّ –د. عبد الله معروف- أن مقاييس الله جل وعلا غير مقاييس البشر.. فالمعراج خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم في هذه المرحلة ليصل إلى عين اليقين.. أما الإسراء فهو خاص بأمّة محمد صلى الله عليه وسلّم لترتبط هذه الأمّة ببيت المقدس والأقصى! وصلاة الحبيب إماماً في الأنبياء لهي خير دليل على تسليم راية الإمامة للأمّة كلها للحبيب عليه الصلاة والسلام وقد كانت في بيت المقدس.. فالرسالة عالمية وانطلقت من القدس: "أرض الأمل"! وهي لا زالت تنتظر "بعث أسامة" جديد!
طال حديث ربط مكة المكرمة ببيت المقدس من ذلك المقدسيّ دون أن نشعر بالوقت.. وكان في كل لحظة يحدونا شوق عارم لنعانق القدس والأقصى وأنّى لنا أن نفعل إلا رمزا؟! انتهت المحاضرة وفي أعماقنا حنين وهمس وأمل.. وبعدها بساعات يمّمنا وجوهنا نحو الكعبة لنضمّها بجناحي الشوق.. فكانت عمرةٌ بنكهةٍ مقدسية.. وحين صليت في حجر اسماعيل حاولت استشعار لذة الصلاة في المسجد الأقصى وفتشت عن هذا المعنى الذي أخبر عنه من صلى في المسجدين وأكّد أن الصلاة في الحِجر لها نفس روح الصلاة في الأقصى.. ولكنني ما استشعرت صلاتي في الأقصى.. لأن الأقصى كان في داخلي.. فهل رأيت من قبل مَن اتّخذ من عينه مسجداً؟!
في تلك العمرة طفتُ.. وكأني لأول مرة أطوف.. وسعيت.. أطوي المسافة طياً.. ولا أريدها أن تنتهي بالرغم من التعب.. ولم يُخرِجني من سعيِيَ الروحي إلا ذلك الرجل الذي هوى! رأيت في المسعى جمهرة من الناس يتحلّقون حول رجل ممدّد على الأرض.. لحيته البيضاء تنبؤ عن وقار غلّفه تعبٌ أو موت!.. يحاول أحد الأشخاص أن ينعش قلبه دون جدوى.. تكررت المحاولة.. وهو جامد في مكانه.. أكملت السعي ولكنه نقلني إلى عالم آخر من التفكير.. كم هو ضعيف هذا الإنسان.. ولا يدري متى يكون الأجل وفي أي أرض يموت.. ولكنها مكرمة أن يموت على طاعة وفي أرض مباركة.. وبثياب الإحرام التي تجرّد فيها من الدنيا وما فيها!
وددتُ لو كان آخر عهدي بالحياة طاعة أتقرب بها من الله جل وعلا مقبِلة غير مدبرة.. مخلِصة له الدِّين.. وهو عني راض..
أيامٌ رائعة قضيتها في كنف الكعبة.. أسقتني مداداً سائغاً شرابه للاستمرار في العطاء والارتقاء.. وراحة وسعادة وصفاءا.. وهمّة عالية لخدمة دعوة الله جل وعلا.. وطاقة حب وعمل لقدسٍ يُراد تهويدها.. وعهداً أن أكون من الجنود الأوفياء..
وهو أمل.. أن أكون خير مَن يعمل.. وخير مَن يفي..