لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً أَوْلِيَاء

رضوان سلمان حمدان

لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً أَوْلِيَاء

36

رضوان سلمان حمدان

[email protected]

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ المائدة57

سبب النزول[1]

 أن رفاعة بن زيد بن التابوت وسويد بن الحارث كانا قد أظهرا الإسلام ثم نافقا وكان رجال من المسلمين يوادونهما فنزلت هذه الآية قاله ابن عباس. وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أن قوماً من اليهود والمشركين ضحِكوا من المسلمين وقت سجودهم فنزلت..

المعاني المفردة[2]

هُزُواً: الهُزْءُ والهُزُؤُ: السُّخْرِيةُ والتَّنكيت. هُزِئَ به ومنه. والهزء معناه المزح فى خفة، أو المزح فى مقام الجد للسخرية بموضوعه، والعبث به، وقد يكون بالقيام بظاهر بعض الأعمال، وهو يخفى نقيضها، كما قال سبحانه وتعالى عن المنافقين ﴿وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾البقرة14.

وَلَعِباً: اللعب: ضد الجد.

في ظلال النداء[3]

ملابسة مثيرة لكل من له حمية المؤمن ; الذي لا يرى لنفسه كرامة إذا أهين دينه وأهينت عبادته وأهينت صلاته واتخذ موقفه بين يدي ربه مادة للهزء واللعب فكيف يقوم ولاء بين الذين آمنوا وبين أحد من هؤلاء الذين يرتكبون هذه الفعلة ; ويرتكبونها لنقص في عقولهم فما يستهزئ بدين الله وعبادة المؤمنين به إنسان سوي العقل ; فالعقل حين يصح ويستقيم يرى في كل شيء من حوله موحيات الإيمان بالله وحين يختل وينحرف لا يرى هذه الموحيات لأنه حينئذ تفسد العلاقات بينه وبين هذا الوجود كله فالوجود كله يوحي بأن له إلها يستحق العبادة والتعظيم. والعقل حين يصح ويستقيم يستشعر جمال العبادة لإله الكون وجلالها كذلك فلا يتخذها هزواً ولعباً وهو صحيح مستقيم. ولقد كان هذا الاستهزاء واللعب يقع من الكفار كما كان يقع من اليهود خاصة من أهل الكتاب في الفترة التي كان هذا القرآن يتنزل فيها على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم للجماعة المسلمة في ذلك الحين ولم نعرف من السيرة أن هذا كان يقع من النصارى ولكن الله سبحانه كان يضع للجماعة المسلمة قاعدة تصورها ومنهجها وحياتها الدائمة وكان الله سبحانه يعلم ما سيكون على مدار الزمان مع أجيال المسلمين وها نحن أولاء رأينا ونرى أن أعداء هذا الدين وأعداء الجماعة المسلمة على مدار التاريخ أمس واليوم من الذين قالوا إنهم نصارى كانوا أكثر عدداً من اليهود ومن الكفار مجتمعين فهؤلاء كهؤلاء قد ناصبوا الإسلام العداء وترصدوه القرون تلو القرون وحاربوه حرباً لا هوادة فيها منذ أن اصطدم الإسلام بالدولة الرومانية على عهد أبى بكر وعمر رضي الله عنهما حتى كانت الحروب الصليبية ; ثم كانت المسألة الشرقية التي تكتلت فيها الدول الصليبية في أرجاء الأرض للإجهاز على الخلافة ; ثم كان الاستعمار الذي يخفي الصليبية بين أضلاعه فتبدو في فلتات لسانه[4] ; ثم كان التبشير الذي مهد للاستعمار وسانده ; ثم كانت وما تزال تلك الحرب المشبوبة على كل طلائع البعث الإسلامي في أي مكان في الأرض وكلها حملات يشترك فيها اليهود والنصارى والكفار والوثنيون وهذا القرآن جاء ليكون كتاب الأمة المسلمة في حياتها إلى يوم القيامة الكتاب الذي يبني تصورها الاعتقادي كما يبني نظامها الاجتماعي كما يبني خطتها الحركية سواء وها هو ذا يعلمها ألا يكون ولاؤها إلا لله ولرسوله وللمؤمنين ; وينهاها أن يكون ولاؤها لليهود والنصارى والكافرين ويجزم ذلك الجزم الحاسم في هذه القضية ويعرضها هذا العرض المنوع الأساليب إن هذا الدين يأمر أهله بالسماحة وبحسن معاملة أهل الكتاب ; والذين قالوا إنهم نصارى منهم خاصة ولكنه ينهاهم عن الولاء لهؤلاء جميعاً لأن السماحة وحسن المعاملة مسألة خلق وسلوك أما الولاء فمسألة عقيدة ومسألة تنظيم إن الولاء هو النصرة هو التناصر بين فريق وفريق ; ولا تناصر بين المسلمين وأهل الكتاب كما هو الشأن في الكفار لأن التناصر في حياة المسلم هو كما أسلفنا تناصر في الدين ; وفي الجهاد لإقامة منهجه ونظامه في حياة الناس ; ففيم يكون التناصر في هذا بين المسلم وغير المسلم وكيف يكون إنها قضية جازمة حاسمة لا تقبل التميع ولا يقبل الله فيها إلا الجد الصارم ; الجد الذي يليق بالمسلم في شأن الدين.

هداية وتدبر[5]

1.  لا تتخذوا اليهود والنصارى أيها المؤمنون أنصاراً وإخواناً وحلفاء، فإنهم لا يألونكم خبالاً وإن أظهروا لكم مودّة وصداقة. وكان اتخاذ هؤلاء اليهود الذين أخبر الله عنهم المؤمنين أنهم اتخذوا دينهم هزواً ولعباً الدين على ما وصفهم به ربنا تعالى ذكره، أن أحدهم كان يظهر للمؤمنين الإيمان وهو على كفره مقيم، ثم يراجع الكفر بعد يسير من المدّة بإظهار ذلك بلسانه قولاً بعد أن كان يبدي بلسانه الإيـمان قولاً وهو للكفر مستبطن، تلعباً بالدين واستهزاء به، كما أخبر تعالى ذكره عن فعل بعضهم ذلك بقوله: ﴿وَإذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإذَا خَلَوْا إلى شيَاطِينِهمْ قَالُوا إنَّا مَعَكُمْ إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ ويَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾.

2.     النداء للمؤمنين بالوصف الذى ميزوا به، واختصوا به دون الناس، وهو مناط رفعتهم

وجامع وحدتهم، وإذا كان الدين هو الجامع لهم فالذين يسخرون منه، ويستهزئون به يصيبونهم فى صميم ما عليه مجتمعون، وبه يعملون، وفى سبيله قدموا، ويقدمون الفداء.

3.  هذا النص تحريض على عدم الانتماء إليهم بذكر ما هو سر اجتماعهم، وفيه إشارة جلية إلى أنهم لا يمكن أن يكونوا نصراء يريدون العزة لهم؟ لأن ما به عزتكم واجتماعكم يتخذونه سخرية يلهون به ويعبثون.

4.  نهى تعالى المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى، ينصرونهم ويستنصرون بهم ويصافونهم ويعاشرونهم معاشرة المؤمنين ﴿بعضهم أولياء بعض﴾ هم يد واحدة على المسلمين، لاتحادهم في الكفر والضلال، وملة الكفر واحدة ﴿ومن يتولهم منكم فانه منهم﴾ أى من جملتهم وحكمه حكمهم ، قال الزمخشري: وهذا تغليظ من الله وتشديد في مجانبة المخالف في الدين واعتزاله، كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا تراءى نارهما".

5.  اتخاذهم الدين هزواً ولعباً هو إظهارهم الإسلام وإخفاؤهم الكفر وتلاعبهم بالدين. وإنما رتب النهي على وصف اتخاذهم الدين هزواً ولعباً . تنبيهاً على العلة ، وإيذاناً بأن من هذا شأنه ، جدير بالبغضاء والشنآن والمنابذة . فكيف بالموالاة ؟.

6.  التفرقة بين الهزء واللعب؟ فهما فى النص الكريم معطوف أحدهما على الآخر، وبمقتضى هذا العطف هما متغايران، وإن كانا ينتهيان إلى معنى واحد، وهو السخرية بالاستهزاء، والعبث، فهم يسخرون من الدين، ويسخرون من أهله، ويستهزئون بأهله، ويتعابثون به ويلعبون بحقائقه. والهزء معناه المزح فى خفة، أو المزح فى مقام الجد للسخرية بموضوعه، والعبث به، وقد يكون بالقيام بظاهر بعض الأعمال، وهو يخفى نقيضها، كما قال سبحانه وتعالى عن المنافقين ﴿وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾البقرة14.

7.  ﴿من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء﴾ و)من( هنا بيانية فيها بيان لأولئك الذين يستهزئون ويلعبون بدين الله دين الحق، وهم اليهود والنصارى، وعبر عنهم بـ "أوتوا الكتاب"؟ لأن أصل شرعهم ينتمى إلى كتاب منزل، وإن حرفوا فيه الكلم عن مواضعه وغيروا وبدلوا ونسوا حظاً مما ذكروا به، وهم كفار، وليس كفر أعظم من كفر، إلا أن تكون بقية علم عندهم، وهى لا تجعل لهم مقاماً أدنى فى الكفر، ولو كانت تجعل فى الإمكان التلاقى فى بعض المعلومات الدينية التى لم يعبثوا بها.

8.  إن عطف الكفار على أهل الكتاب من باب عطف العام على الخاص، فكلمة كفار تشمل كل كافر  بمحمد صلى الله عليه وسلم، على أنه خص أهل الكتاب بالذكر، لأنه الموضوع من الأصل فى عدم موالاة المؤمنين لليهود والنصارى، ثم عمم الحكم على الجميع ممن كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم.

9.  وهُزْء أهل الكتاب من أهل الحق لون من الانفعال العكسى. فساعة يرى بعض أهل الباطل واحداً ملتزماً يُصلّي ولا يُحملق في النساء قد يصفونه بصفات غير لائقة؛ لأنهم لا يستقبلون التزامه إلا بلونٍ من السخرية، وحتى لا يفهم أنه خيرٌ منهم، وقد يضلونه فيتبعهم.

10. الأمر بالتقوى فى هذا المقام، للإشارة إلى أن ذلك هو الحصن الحصين الذى يغنى عن طلب الأولياء، لأن معنى التقوى اتخاذ الله سبحانه وتعالى وقاية دون شر الأشرار إذ إن النصرة لا تكون إلا منه، وهو المعاذ، والملجأ والناصر والولي، ولأن اجتلاء النفس بتقوى الله تعالى وخشيته تجعل كل قوي مهما تكن سطوته لا يصل إلى إضعاف قلب المؤمن، ولأن اتخاذ غير الله تعالى ولياً ينافى تقوى الله، واستشعار عظمته وجبروته سبحانه. وقد بين سبحانه أن ذلك وصف أهل الإيمان، ولذلك قال سبحانه: ﴿إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾.

11. مقتضى إيمانكم حفظ تعظيم دينكم الذي هو رأس مال كمالاتكم، الذي به انتظام معاشكم ومعادكم، وهو مناط سعادتكم الأبدية.

12.  تضمنت المنع من التأييد والانتصار بالمشركين ونحو ذلك. وروى جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الخروج إلى أحد جاءه قوم من اليهود فقالوا: نسِير معك؛ فقال عليه الصلاة والسلام: "إنا لا نستعين على أمرِنا بالمشركين" وهذا هو الصحيح من مذهب الشافعي. وأبو حنيفة جوّز الانتصار بهم على المشركين للمسلمين؛ وكتاب الله تعالى يدل على خلاف ما قالوه مع ما جاء من السنة في ذلك. والله أعلم.

13. وهنا أمر بعدم اتخاذ الذين يتخذون الدين مادة للهزء أولياء، وعلى المؤمنين اليقظة والحذر؛ لأن الحق يقول: ﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ فإن كنتم مؤمنين حقاً فعليكم الأخذ بيقظة الإيمان، عليكم ألا توالوا اليهود والنصارى وكذلك من يتمسح في الإيمان نفاقاً ويريد الانتفاع بمزايا الإسلام ليأخذ حقوقه الظاهرية وقلبه مع غير المؤمنين. وتقوى الله تبدأ من أن ينفذ المؤمن المنهج، ويحاول أن يستبقي للمنهج مناعة اقتداره أمام خصومه بألا يُدخل المؤمنُ في حماية المنهج من لا يؤمن من اليهود والنصارى والكافرين والمنافقين.

               

[1]. زاد المسير - ابن الجوزي.

[2]. لسان العرب. زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة. خواطر الشعراوي. التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج- د وهبة الزحيلي

[3]. في ظلال القرآن.

[4] . استخدمت عبارة "حملة صليبية" (Crusade‏) من قبل الرئيس الأمريكي جورج بوش في يوم 11 سبتمبر، 2001 وفي يوم الرثاء الوطني، حيث قال الرئيس الأمريكي "هذه الحملة الصليبية، هذه الحرب على الإرهاب ستأخذ بعض الوقت". ثم قال: هي زلة لسان..

[5] . جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري. زهرة التفاسير / محمد أبو زهرة. زاد المسير / ابن الجوزي. صفوة التفاسير / الصابونى. محاسن التأويل / القاسمي. الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي. خواطر الشعراوي.