جرَّبوا الكفر
زهير سالم*
[email protected]
هذا العنوان مقتبس عن عزيز أرسل لي مقالا بمثل عنوانه بصيغة الأمر، وأخرجه مخرجا
سياسيا. كان الفكرة مختزنة في ذهني بمخرجها الإنساني من حديث سمعته يوما، ممن جرب
الكفر، نعوذ بالله من الكفر والفقر، وهل الكفر إلا ضرب من ضروب الفقر الإنساني
والنفسي، فيخرج الإنسان على الناس تحت ركام من الأسمال المهلهلة تخفي تحتها جوهره
الإنساني بما يؤذي ويسوء.
والكفر في بعده الإنساني، وليس الشرعي فقط، كريه الوجه، خبيث الريح، علقم المذاق،
يستشعر وطأته من يُبتلى به بمجرد أن تختلج بين جنبيه مشاعر إنسان. في حديث ودود لمن
ابتُلي بالكفر يوما، فتح الرجل سجل شكواه قال: كنا تسعة رهط من الثوريين
الماديين ، نعلن الكفر حيث أمكننا، ونجاهر ونفاخر به إن استطعنا، وقد تواثقنا
وتعاهدنا عهد رفاق ألا يمر ذكر الله على ألسنتا إلا مقترنا بما نستطيع من تهوين
وتصغير وتحقير، وكان فيما تعاهدنا عليه أن نعمل معا على نفي هذا اللفظ، تعالى الله،
من لغتنا ومن حياتنا الثقافية والاجتماعية، وإذا اخطأ أحدنا وأجاب من سأله كيف أنت:
الحمد لله أخذناه بالتأنيب والتقريع حتى يستغفر ماركس ويتوب إليه، ويتعهد أمامنا
أنه لا يعود إلى خطيئته أبدا.
يقول محدثي : ولم يكن شأننا فيما نحن فيه شأن شباب عابث أو أصحاب رغاء ديالكتيكي
بل كنا مناضلين حقيقيين نحمل عبء قضية، ونشارك في النضال اليومي على محور القضية
المركزية . ونحن يا صاحبي كنا بشرا نألم ونأمل ونخاف، وكان أحدنا، بل دعني أتحدث عن
نفسي، كنت إذا ضاق علي الأمر، ووقعت في المحنة، وشعرت أنني قد أحيط بي حتى أحبس
أنفاسي، أجدني أتنفس ببطء شديد بهواء متقطع أنادي من خلاله: يا...ر..ب، وأنفث معها
كل مخاوفي وشكوكي، وأفتح من خلالها كل خزائن النور البهي فوق رأسي، لولا أن يسارع
عقلي الظاهر ليصادر علي اللحظة العليا وليذكرني رغم أنفي بالمادية العلمية
والديالكتيك، وأن ما أنا فيه هو نوع من الجبن والخوف وبقايا الأخلاق البرجوازية
الرخوة التي يجب أن أتمرد عليها، فأمسك بعد أن أكون قد بللت ظمأ روحي ببلله.
يضيف محدثي وكنا ،نحن الرهط التسعة، إذا كنا نتمشى في شارع من شوارع بيروت فممرنا
بسائل صاحب حاجة ظاهرة، وعاهة تقطع نياط القلوب، فتحرك في أحدنا شعور إنساني غامض،
فمد يده إلى جيبه ليخرج ( الفرنك ) يرضى به عن نفسه، ويدفع عنها أذى الإثارة
السلبية التي أحدثها المشهد الفاجع، بادر الرفاق بالأخذ على يده، وحاصروه بالسؤال
ماذا تفعل؟! دعه هذا وقود الثورة، لا ترقع ما تخرق البرجوازية والإقطاع، يستحق ما
هو فيه لأنه لا يثور..! يضيف محدثي : لا يزال أذى تلك اللحظات عالقا في نفسي وفي
نفوس العديد من أصحابي، بعد أن عقلنا وعلمنا...
كانت محنتنا الحقيقية يوم نضطر للمشاركة في جنازة عزيز أو شهيد أو قريب، حيث كنا
نقف الواحد منا رقيبا على رفاقه يمنع كل واحد منا أصحابه أن يقولوا: رحمه الله، أو
عظم الله أجركم، أو أن يفتح كفيه مع الناس ليتظاهر بقراءة الفاتحة ولو على سبيل
المجاملة، فالثوري الحقيقي لا يجامل على حساب الأخلاق الثورية العلمية، أتحدث الآن
عن محنة لأن المشاركة في الجنائز وعيادة المرضى كانت محنتنا الحقيقية، التي نحس
فيها بثقل ما كنا نعيش، وبقبحه، ندخل ونخرج ونحن نحس أن الأعين جميعا ترمقنا وأن
القلوب والأرواح تنبذنا، وكنا نظن أن كل الأحاديث عن الموت والرحمة والمغفرة والجنة
والنار هي حجارة نرجم بها من قبل الحضور جميعا، الذين يستثقلون ظلنا ويطالبوننا من
خلالها أن نكف شرنا عن المرحوم حتى لا يكون محروما.
يقول صاحبي وذات يوم بدأت الأخبار تتواصل: تعرض ولد رفيقنا سمير لحادث سير فاجع،
وهو في غرفة العمليات في المستشفى، تقاطرنا جميعا إلى هناك، سمير يذرع صالة
المستشفى أمام غرفة العمليات، ويشعل السيكارة بأختها، ونحن نصل الواحد بعد الآخر
نعانقه نشد على يده، ونقف بجانبه كالبلهاء، طال وقت الانتظار، وكاد رفيقنا سمير
ينهار، لم أجد بدا من أن أتدخل، ولم أجد غير أن أقول: ربنا يشفيه ويخليه.. رفع سمير
رأسه إلى السماء بعيون دامعة وصرخ من أعماق الأعماق: يا رب..
خرج الطبيب، وتقدم بهدوء وقال: كانت الحالة صعبة ولكننا نجحنا تماما والحمد
لله...ردد سمير خلفه بلا وعي: الحمد لله..
من
يومها أدركت أن ادعاءنا الكفر ليس إلا مكابرة وعنادا وتبجحا، وأن إنسانيتنا لا معنى
لها إن لم تستمد تساميها من إله خالق حي قيوم. الكفر كئيب، يقول صاحبي، حتى هذه
الأمور الصغيرة، التي حدثتك عنها والتي قد تبدو لبعض الناس تافهة، كانت أشبه
بالصخرة العظيمة تجثم على صدورنا. قلوبنا تخفق أحد.. أحد، وألسنتنا تأبى!!! يلتفت
إليّ وعيناه تذرفان، هل شعرتم بنعمة التقلب في رحاب الإيمان..!! الحياة بدون الله
لا تُطاق؛ سلوا من جربوا الكفر و عاشوه، لا أذاقكم الله كريها.
نسخة طبق الأصل
* مدير مركز
الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية