الكتاب الذي لا ريب فيه
والتربية الدعوية
أ.د. ناصر أحمد سنه - كاتب وأكاديمي من مصر
الحمد لله الذي نزل القرآن على عبده ليكون للعالمين نذيرًا، والصلاة والسلام على من أيده الله عز وجل بهذا "الكتاب الذي لا ريب فيه".. مبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه الذين اتخذوا القرآن منهجا ومرشداً ومربياً وهادياً ودليلا.
لا تجد كاتباً يكتب، أو مصنفاً يصنف، أو مؤلفاً يؤلف، أو منظراً يُنظر في هذا الفرع من العلم أو التربية أو الثقافة أو الفكر إلا ويعلم أن ما كتبه أو صنفه أو ألفه أو نظره ما هو إلا إنتاج ناقص غير مكتمل، وبه مثالب كثيرة. وكلما أعدا النظر فيه كرة بعد أخري تراه يعدّل ويقوم، ويضيف ويحذف ويغير ويبدل ويحسن ويجود ويشك ويستيقن. لذا فهو يسعي ـ قبل أن تقع عليه أعين القراء، والرقباء، والأنداد والنقادـ دوما "لستر" العيوب، ورتق الفتوق، إصلاح المعيب، وتقويم المثالب، وتقليل الشكوك والريب حول جودة العمل ومدي صدقه وابتكاره.
وهؤلاء وأولئك عدما يقرؤون وينتقدون إنما يُنظرون بـ "عين الشك والريبة" فيما هو مطروح أمامهم من جهد تربوي أو فكري أو علمي أو ثقافي الخ، وغالباً ما تكون تلكم "العين الناقدة/ الشاكة" هي الأعلى سطوة، والأقوى تأثيراً.
وبعد..
لا أظنني قد أطلت كثيرا في هذه التقدمة، فلها أهميتها وضرورتها الكبيرة. فأما آن لكل توجه وعمل قل أو كثر، شرق أو غرّب أن ينهل من هذا المعين. أما آن لكل مرجعية أن تتمثل هذا الكتاب الذي "لا ريب فيه": "الــم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ" (البقرة 1-2).
أما آن لكل من يريد الهدي والهداية والتربية والحكمة والحياة الكريمة، والحق والعدل والخير، والآخرة السعيدة الهائنة أن يكون نبراسه، ومشعل تنويره، ومنارته، ودليله، وهدايته ذلك الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه:"إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ" (فصلت :41-42).
ما أَحْوَجَنَا اليوم إلى القرآن الكريم ، نتحرك به في حياتنا، نتمثله في كل أوجه نشاطنا، نطبقه مع تلاوته، نَحْكم به، ونعمل بأحكامه، مع الاستماع إليه، ِنتزكي به مع تلقينه، نتدبره، مع حفظه، نتبَيِّن وجوه إعجازه مع درسه، ونتأمل بَعْض أسراره وعجائبه، مع الإنصات إليه، وهو الذي لا تنقضي عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد. ففي الحديث:" فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ ، لَيْسَ بِالْهَزْلِ ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ وَمَنِ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ ، وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ وَنُورُهُ الْمُبِينُ وَالذِّكْرُ الْحَكِيمُ ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ ، وَهُوَ الَّذِي لاَ تَزِيغُ بِهِ الأَهْوَاءُ ، وَلاَ تَلْتَبِسُ بِهِ الأَلْسِنَةُ ، وَلاَ تَتَشَعَّبُ مَعَهُ الآرَاءُ ، وَلاَ يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ ، وَلاَ يَمَلُّهُ الأَتْقِيَاءُ ، وَلاَ يَخْلَقُ بِكَثْرَةِ الرَّدِّ ، وَلاَ تَنْقَضِي عَجَائِبُه" (سُنَن الدارمي 2/526 ومشكاة المصابيح( 1/661..
أن الآلاف المؤلفة من العلماء قد جندهم الله تعالي للعناية بهذا القرآن.. كتابة، وتفسيراً، ودرساً، وتعلماً، وتعليماًً مظهرين ما فيه من إخبار بالغيب، وهداية وتزكية بالغة، وأخلاق سامية، وأسرار لطيفة، ودلالات متنوعة، وخواص دقيقة، وإعجاز متعدد، وتشريع مُحدد، وفهم متجدد الخ.
وبعد..
فعلي المربين والمتربين وعبر الجلسات التربوية الدعوية وضع منهاج مستمر متصل الحلقات للتزكية والتربية، وتتبع أي وسور الذكر الحكيم..فرادي ومثني، سورا منفردة، أو وموضوعات متصلة عرضها القرآن الكريم.. بداية فاتحة الكتاب وحتى سورة الناس. إن من الأهمية بمكان اختيار الموضوع، ووضوحه، ولغته البسيطة والمباشرة والمعبرة، وغلبة الجانب العملي، ومراعاة معايير الاستيعاب، والحرص علي إيصال القيم/ الإيمانيات/ الأخلاق/ السلوكيات المراد تمثلها، وإعطاء الناشئ/ المتربي شيئا يراجع منه، ويذكره بالدرس المطلوب.
وبالمثال العام يتضح المقال: يقول تعالي:"كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ"( البقرة: 151)، ويقول جل شانه:"لقد من الله على المؤمنين إذ بَعَثَ فِيهم رَسُولاً مِن أنفسهم يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ" (آل عمران : 164)، ويقول عز من قائل:"هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ" (الجمعة : 2)...آيات الثلاث تشير إلى المنهج التربوي الإسلامي الذي أنزله الخالق العظيم سبحانه على نبيه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
إن كثيرا من الألفاظ القرآنية الكريمة تدُل وتؤكد أن الله سبحانه وتعالى - وهو الرب (وقد وردت لفظة رب نحو 84 مرة في القرآن الكريم) العظيم والخالق الكريم - هو الذي أرسل محمد صلى الله عليه وسلم ليكون معلماً ومُربياً للأُمة .
وكثيرة هي الألفاظ القرآنية تُشير إلى أن هذا الرسول صلى الله عليه وسلم إنسان مُرسلٌ من الله تعالى إلى أُمته ، وأنه لا يختلف عنهم في الجانب الإنساني فليس ملكَاً أو مخلوقاً من جنسٍ آخر ؛ وفي هذا إشارةٌ إلى أن هذه التربية التي جاء بها هذا النبي الكريم :" تربيةٌ إنسانية ، وصالحةٌ تماماً لطبيعة الجنس البشري ، وتتفق تماماً مع فطرته الإنسانية التي فُطر عليها وهو ما يُشير إليه أحد الكتاب بقوله : " لأن الرسول في حياته كإنسان يُوحى إليه من الله ، يُمثل إنسانية هذه التربية.
إن مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم هي التلاوة ، سبيلاً للبيان والإخبار والإعلام ولإقامة الحُجة ، ووسيلةً لحفظ كتابه وآياته ، إضافةً إلى التعبد لله تعالى بتلاوته . وهذا فيه بُعدٌ تربوي يُشير إلى أن " الهدف من تلاوة الآيات هو غرس الولاء للإسلام بين المُتعلمين عقيدةً وسلوكاً، وإبراز شواهد الربوبية والإلوهية وتوحيدهما، وغرس الاتجاهات الإيمانية".
ثم هي التزكية / التربية الإسلامية ..للعناية بالنفس ومحاسبتها، للارتقاء بجميع جوانبها (الروحية، والأخلاقية، والجسمية، والعقلية ) إلى أعلى المراتب وأرفع الدرجات .ولقد استعمل القرآن الكريم مصطلح "التزكية" قبل التعليم، لشموليتها لمعنى العملية التربوية الكاملة التي تُعنى بمختلف جوانب النفس البشرية، "يُزكِّي قلوبهم ويُطهرها من أدناس الشرك والفجور والضلال ؛ فإن النفوس تزكو إذا طهُرت من ذلك كله، ومن زكت نفسه فقد أفلح وربح، قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) (الشمس: 9)، وقال تعالي: )قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى)(الأعلى: 14) (ابن رجب الحنبلي ، 1421هـ ، ص 168).
وهناك إعجازٌاً تربويٌا يبدو في تقديم التزكية علي التعليم ، فالعملية التربوية تسبق العملية التعليمية ، وأن حصول التزكية عند الإنسان يُسهم بدرجةٍ كبيرةٍ في تسهيل وتيسير وتمام عملية تعليمه .
ثمة وظيفة رسالية ثالثة هي التعليم : تأتي بعد أن تتم عمليتي التلاوة والتزكيه ، وبذلك يتم التعليم المقصود كأحسن ما يكون ، حيث يكون الإنسان مؤهلاً لاستيعاب المعارف والمبادئ والتشريعات التي يشتمل عليها القرآن الكريم والسُنة المطهرة" (نبيل السمالوطي ، 1406هـ ، ص 195.(
جناحي العملية التربوية ..فكراً،
(التلاوة(، وعملاً سلوكياً تطبيقياً)
التزكية أولاً ثم
التعليم
ثانياً
(.
تلكم
لتعبيرات القرآنية الثلاثة تتضمن جانبي
العقل والنقل ، أو جانبي الغيب الذي لا يُناقش ،
وإنما
هو محل الإيمان المُطلق لأن العقل البشري قاصرٌ عن
فهمه ؛ وهنا يُكتفى
بتلاوة
الآيات من المُتعلم أو مُتلقي التربية وهذا هو
الجانب الأول . أما الجانب
الثاني فهو الذي يتمثل في تعبير " يُزكيهم " و "
يُعلمهم " فكلاهما يُشير
إلى
عمليةٍ بشريةٍ تتعلق ببناء السلوك وتشكيله وتغييره
، وتفسح المجال أمام
العقل
والملاحظة والتجريب " ( نبيل السمالوطي ، 1406هـ ،
ص 198).
لقدْ وقف المسلِمون الأُول مِنْ سلف هذه الأُمَّة على مثل تلكم الدُرَر القرآنية ورسالته ، فطبعوا طبائعهم وسلوكهم بمنهجه ، وتعلَّموا مِنْ مأدبته ، وتأدَّبوا بأدبه ؛ ففي الحديث: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَأْدُبَةُ اللَّهِ ؛ فَتَعَلَّمُوا مِنْ مَأْدُبَتِهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ .. إِنَّ هَذَا حَبْلُ اللَّهِ ، وَهُوَ النُّورُ الْمُبِينُ وَالشِّفَاءُ النَّافِعُ ، عُصِمَ مَنْ تَمَسَّكَ بِهِ ، وَنَجَا مَنِ اتَّبَعَهُ ، لاَ يَعْوَجُّ فَيُقَوَّمُ ، وَلاَ يَزِيغُ فَيُسْتَعْتَبُ، وَلاَ تَنْقَضِي عَجَائِبُه}.أَخْرَجَه الدارمي 2/525 وابن أبي شيبة 6/125 وعبد الرزاق 3/375 [.
ولِذَا فإنّ العرب المسلِمين السابقين في الإسلام أول مَنْ تأدَّبوا بأدب القرآن ، وإن استطعتَ أنْ تُعَبِّر بمَنْ رَبَّوْا أنفُسَهم وفْق منهج السماء عِنْدما تَمَسَّكوا بالكتاب والسُّنَّة فسادوا الدنيا وملؤا الأرض نوراً وعدلاً ، وعمروها بنشر راية التوحيد وإبادة ظلمات الكفر والشِّرْك والجاهلية والعداوة والبغضاء ، فأصبحوا بنعمة الله تعالى موحّدين إخواناً متحابين ، أقوالهم وأفعالهم وأخلاقهم متسقة ومستمدة مِنَ الكتاب والسُّنَّة .
لقد كان للقرآن الكريم – وما زال وسيظل بإذن الله تعالى إلى قيام الساعة – الأثر الأقوى والأول في تقوية روابط الإيمان بالله عز وجل وترسيخ عقيدة التوحيد والدعوة إلى كل خلق فاضل وكريم والنهي عن رذائل الأخلاق ومساوئها , بدا ذلك واضحا عند نزول القرآن بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فأثر التأثير الإيماني والسلوكي في أخلاق العرب وعاداتهم وسلوكهم وعقيدتهم وكذا غير العرب في عصر الإسلام الأول وفي عصوره المتتالية حتى إذا وصلنا إلى عصرنا الحاضر تأكيدا لهذا الدور القرآني حينما يقدم الكثيرون من العلماء والمفكرين والباحثين على اعتناق الإسلام بعد وقوفهم على بعض الإعجاز العلمي للقرآن أو حتى مجرد الوقوف على ترجمة معاني القرآن الكريم .
لك أن تقف على أثر القرآن الكريم وتأثيره ووقْع تلاوته أو سماع بَعْض آياته على عقيدتهم وسلوكهم وأفعالهم. فهذا عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه الذي كان رأساً مِنْ رءوس الكفر يحارب كُلَّ مَنْ أَسْلَم، وعِنْدما عَلِم بإسلام أخته فاطمة وزَوْجِها سعيد بن زَيْد ـ رضي الله عنهما ـ ذهب غاضباً لِلانتقام مِنْهُمَا، ولَمَّـا دخل وجد معهما صحيفةً مِنَ القرآن فيها مِنْ أوَّل سورة طه حتى قوله تعالـى :(إنني أَنَا اللَّهُ لا إِلَـهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِى وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِى) (طه: 14)، فأَسْلَم مِنْ فوره، فكان الفاروق/ العادل/المُلهم] (الطبقات الكبرى 3/268).
وهذا سَعْد بن معاذ رضي الله عنه الذي كان مُشْرِكاً وعِنْدما عَلِم بقدوم مصعب ابن عمير رضي الله عنه قَبْل الهجرة لِلدعوة إلى الإسلام ذهب إليه ومعه حَرْبَتُه لِمَنْعِه وعِنْدما قرأ عَلَيْه مصعب رضي الله عنه قوله تعالى :(حم * وَالْكِتَـبِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَـهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُون) (الزخرف: 1 - 3 )، فأَسْلَم في حِينه رضي الله عنه وأَسْلَم قومُه بإسلامه. ](أنظر: حياة الصحابة 1/170, 171 وسيرة ابن هشام 2/52 ، 53 ).
السؤال الذي يطرح نفسه تربويا..ما مدي تأثير المتربين بهذا القرآن كما تأثر به عمر وسعد وغيرهما رضي الله عنهم أجمعين؟؟.
ويمكنك الوقوف علي الأثر التربوي الواسع لِلقرآن الكريم في جماعة العرب الأُول مِنْ خلال شهادة أحد العرب وأشرافهم ـ ألا وهو جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ـ التي ألقاها أمام النجاشي، وفيها يقول رضي الله عنه :" أَيُّهَا الْمَلِكُ .. كُنَّا قَوْماً أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ ؛ نَعْبُدُ الأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الأَرْحَامَ وَنُسِيءُ الْجِوَارَ وَيَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْنَا رَسُولاً مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ ، فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنَ الْحِجَارَةِ وَالأَوْثَانِ ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَـارِمِ وَالدِّمَاءِ ، وَنَهَانَا عَنِ الْفَوَاحِشِ وَقَوْلِ الزُّورِ وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ تَعَالَى وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَأَمَرَنَا بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَام".(راجع البداية والنهاية 4/182 ، 183 )، ويَتَّضِح أنّ جعفراً رضي الله عنه حَصَر أهمّ الأخلاق الفاسدة عِنْد العرب ومن ثم العدول عنها.. عقيدة وعبادة تزكية وتربية وتعلما وتعليما.
لم يقتصر ذلك الأثر العظيم للقرآن الكريم علي سلوك العرب وحدهم بل تجاوزهم لغَيْر العرب، فالنجاشي الذي كان مَلِكاً لِلحبشة ورأساً مِن رءوس النصرانية، عِنْدما قرأ عَلَيْه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه صدراً مِنْ سورة مريم بَكَى حتى أخضلَتْ لِحْيَته ، وبكت أساقفتُه حتى أخضلَتْ لِحاهم حين سمعوا ما تلا عليهم ، ثُمّ قال لهم النجاشي رضي الله عنه : إِنَّ هَذَا وَالَّذِي جَاءَ بِهِ عِيسَى عليه السلام لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَة]"سيرة ابن هشام 1/349[
لا شك إن بلدان جنوب شَرْق آسيا (وصولا للفيليبين) لَمْ تُفْتَحْ بسيف ولا جهاد؛ وإنَّمَا دَخَلَهَا الإسلام عَنْ طريق التجار المسلِمين الذين تعاملوا مع تجار هذه البلاد فلمسوا في سلوكهم وأخلاقهم ما يَدفعهم إلى المسارَعة إلى اعتناق هذا الدين الذي يقوم ويعتمد على الكِتَاب والسُّنَّة.[حاضر العالَم الإسلامي 1/339 [. وانتشار اِلإسلام في شتّى بقاع المعمورة ودخول الآلاف المؤلفة من غير المسلمين (في دُوَل أوروبا والأمريكيتيْن واستراليا) في الإسلام لدليل علي امتداد هدايات القرآن الكريم، هذا الكتاب الذي لا ريب فيه، وتلك السُّنَّة النبوية المطهرة.
اقتراحات عملية عامة:
الإكثار من تأسيس "مجالس القرآن" بشروطها الربانية، وضوابطها المنهجية؛ قصد مدارسة كتاب الله – جل جلاله – وتدبر آياته، وتلقي رسالاته الإيمانية، واكتشاف الْهُدَى المنهاجي الكامن فيها، ثم تَبَيُّنِ مسلك التخلق بأخلاقه الربانية، وتشجيع تأسيس تلك المجالس ونشرها في كل منطقة وقطاع، والتعاون على تأطيرها، ومساعدتها علميا ومنهجيا. قال جل جلاله: ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾[آل عمران: 79]. وقال سبحانه: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾[محمد: 24]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ؛ إِلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمْ الْمَلاَئِكَةُ، وَذَكَرَهُمْ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ! وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ!)(جزء حديث أخرجه مسلم).
إن الوحي وهداياته المتعددة لا يصل إلى المتربين إلا بعد أن تشتعل بحرارته قلوبُ الدعاة التربويين، وتلتهب هي ذاتها بحقائقه، وتتوهج بخطابه! ولك أن تتدبر معاناة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ومكابدته للقرآن العظيم كيف كانت! وليس عبثا أن يُرْسِلَ – صلى الله عليه وسلم - هذا الشعورَ العميقَ بين يدي أصحابه الكرام، قائلا لهم: (شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا!)(رواه الترمذي والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الجامع). فينبغي أن يتحلي المربي/المعلم بالقدوة الحسنة، والرحمة، والعلم والفهم، والمرونة مع المتربين/ الناشئين لحسن التأثير فيهم، وحسن التواصل مع أقرانه من المربين/ المعلمين ومع الآباء، ومن ثم نجاح مهمتهم جميعاً.
علي المربين تقريب معاني القرآن الكريم التربوية للمتربين الناشئين بوسائل ميسرة، ومبسطة، وعملية، والاستعانة بوسائل تطبيقية تمكن من ترسيخ واستيعاب المفاهيم القرآنية، والقيم الإيمانية والتربوية والأخلاقية والإنسانية. ليصبح القرآن الكريم منهج حياة، يملأ بهداياته كياناتهم، ويوجه بأخلاقه سلوكياتهم، ويضبط بتشريعاته واقعهم، وينير بإرشاداته طرقهم، ويُقوم بمرجعيته أفعالهم. ولتحقيق ذلك هناك أطراً ينبغي مراعاتها منها: ما يتعلق بالناشئ: فيراعي عمره، ومحيطه الاجتماعي والثقافي، وميوله، وذكاءه، وقدراته ومهاراته الخ.
ولإيصال المعني أو المفهوم أو القيمة أو الخلق أو السلوك الذي قد تشي به الآية أو الكلمة القرآنية يمكن تحضير جدول يحدد "الآية/ الكلمة"، والوسائل المقترحة وهي متعددة ومتنوعة منها: الإلقاء والدرس، والحوار، وحلقة النقاش، والقصة، والرحلة، والمسرح والتمثيل الإبداعي، والفيلم العلمي والوثائقي، والمحاضرة ، والأناشيد، وإلقاء الشعر، والمقال العلمي، والواجبات العملية، والصور، والأمثال الخ. وأخيرا وليس آخرا يأتي التعليق علي هذه الوسيلة (أو الوسائل)، ثم الدروس المستفادة، والواجبات والأنشطة العملية.
ومن الأهداف الأساسية إيجاد مناخ عام يساعد علي أفضل الفرص للتحصيل والتعلم والتطبيق ويتميز هذا المناخ: ببث مشاعر الابتهاج، والإكرام والثقة، والمشاركة، واعتماد الأمثلة الواقعية، واللغة السهلة، وضوح الموضوع، والتنوع. مع الميل إلي الخروج من قاعات الدرس إلي الأماكن المفتوحة، وتنمية التفاعل الإيجابي بين المتربين الناشئين ومن يُربيهم ويُعلميهم.
الاجتهاد في التعريف برسالات "الْهُدَى التربوي" للقرآن الكريم، عِلْماً مستقلا من علوم القرآن، وأصلاً من أصول فقه الدعوة. ويختص بما تَحَصَّلَ للقلب بالتدبر للآيات، من رسالات إيمانية، وقواعد منهاجية، تُوَضِّحُ خطوات السير القلبي إلى الله.. ديناً ودعوةً، وتَعَرُّفاً إليه تعالى وتعريفاً، وتبين مسلك التخلق بأخلاق القرآن، وبيان كيفيته العملية؛ من أجل بناء الشخصية الإسلامية، في كل ما يلزمها من معانٍ تعبدية وعمرانية.
ولا يغيب عن البال أننا بحاجة لبناء أجيال ناجحة من الناشئين الصالحين المُصلحين، الذين يعتبرون القرآن الكريم ـ كما كان شأن رسول الله صلي الله عليه وسلم، وصحابته الأبرار الأخيارـ منهاج حياتهم.. لا يكتفون بالتبرك به، بل التحرك به، ولا يختزلونه في عبادة لفظية، بل هو هداية يومية، ولا يقتصرون علي حفظه واستظهاره، بل فهمه وتدبره وتطبيقه والإستهداء به، تصديقا بقوله تعالي :"إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم.."(الإسراء: 9). هي إذن دعوة إلى إعادة الاعتبار لمركزية القرآن الكريم في الدعوة والتربية والتكوين، وفي تلقي حقائق الإيمان، واستنباط أصول العمل التربوي الدعوي وقواعده.
إن طبيعة المرض اليوم في الحياة الإسلامية العامة والخاصة، أعمق من أن تعالجه يد بشرية قاصرة، لا خبرة لها ولا اختصاص! إن اختلال سر الفطرة في الإنسان اليوم في حاجة ماسة إلى تدخل الرحمة الإلهية، بما تملك من معاني الربوبية وشؤونها العظمى، المحيطة بأسرار الملك والملكوت! فلا يستطيع إصلاح الفطرة البشرية اليوم، وإعادة تسويتها على أصل خلقتها، إلا الذي فطرها أول مرة! الرب العليم بطبيعة تكوينها، وخصائص تركيبها؛ بما خلق فيها من لطائف وأسرار! فهو وحده الخالق، وهو وحده من يملك حق الصيانة والرعاية. (اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)(الزمر: 62).
وبعد .. صفوة القول: كانت هذه إطلالة سريعة علي بعض الآيات القرآنية وملامحها المنهجية التربوية الإسلامية التي جاء بها معلم الإنسانية البشرية نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم من عند الخالق العظيم. إن القرآن الكريم لزاخرٌ في آياته البينات بالكثير من الدروس والمضامين والمعاني والمبادئ والقيم التربوية التي تكفل للإنسانية جمعاء الخير والسعادة في كل زمانٍ وأي مكان متى تم استنباطها والعمل بها في واقع الحياة. وليس بصحيح بحال من الأحوال أن يغفل كُلية العاملون في حقل التربية عن هذا القرآن الكريم، أو أن ييمم دعاتها، وطلبتها، أساتذتها، وتلامذتها، غرباً وشرقاً، يتسولون أسس وركائز ونظريات ومناهج وطرق للتربية والتنشئة والتكوين، قبل النهل من "الكتاب الذي لا ريب فيه"، وإذا ما نهلوا منه أغناهم فلم يعودوا يطلبوا من غيره المزيد. إن القرآن الكريم، الكتاب الاسمي، والأفق الأرحب والمنهل العذب والمورد الخصب والشجر المورق والثمر المستطاب لمن أراد التربية الدعوية وزيادة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.