"جنون" البقر.. و"أكل لحوم البشر"

"جنون" البقر.. و"أكل لحوم البشر"

أ.د. ناصر أحمد سنه - كاتب وأكاديمي من مصر

E.mail:[email protected]

كان ظهور مرض "جنون" البقر، ومن بعده "أنفلونزا" الطيور وفيروسه المتحور في صورة بشرية H5N1 يقف ورائهما: تغذية المواشي والطيور علي بروتين حيواني مُصنّع من فضلات وأشلاء حيوانات ميتة (لحومها وعظامها ودماءها)، وغير معالج معالجة صحية جيدة. وذلك بدلا من تغذيتها على النباتات والأعشاب كما خلقها الله تعالي، مجترة أو داجنة، وليست مفترسة أو لاحمة (آكلة اللحوم).

هذه الأمراض قد جعلت الناس مشرقاً ومغرباً يمتنعون عن آكل اللحوم الحمراء (البقر)، والبيضاء (الدواجن) خشية الإصابة بهذه الأمراض المشتركة القاتلة. كما يتورع الكثير من المسلمين عن اللحوم المستوردة، لا سيما المعلبة منها، مخافة أن تكون قد ذبحت على خلاف الشريعة الإسلامية. وهو سعي مشكور، وحرص كبير علي أكل الطيب من الطعام:"يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِين"ٌ(البقرة: 168).

ومع كل تلك الخشية، وذلك الحرص والتوقي نجد صنفا من الناس لا يتورع عن"أكل" لحوم البشر "لحوم لطُفت حتى خفيت على المتورعين، ولم تدركها رقابة المتوقّين"علي الرغم من تكاثر الأدلة على تحريمها، وبيان خطرها وقبح التلبس "بأكلها"، يقول الله تعالي:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ"(الحجرات:12).

إن الطبيعة الإنسانية تخاف وتتألم عندما ترى حيواناً لاحماً يفترس أحدا من البشر، وشظايا جسمه تتخلل بين أنياب ذلك السبع؟. فما الظن عندما يتحول المشهد من حيوان لاحم إلى بشر يفترس لحم أخيه مغتاباً له، فعن ابن مسعود قال: "كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام رجل فوقع فيه رجل من بعده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: تخلل. قال: مِم أتخلل؟ ما أكلت لحمًا قال: إنك أكلت لحم أخيك"(1). وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:َ"أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَة؟،ُ قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ،. قَال:َ ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَه،ُ قِيلَ أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ، قَالَ :إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ"(2).

فالغيبة – من الغَيْب، وهو كل ما غاب عنك.. غياب من لا يستطيع الدفاع عن نفسه، ومن انتهاك جسد ميت لا يستطيع المقاومة – هي ذكرك أخاك (الغائب) بما يكره.. في بدنه أو نَسَبِه أو خُلُقه أو قَوْلِه أو فِعْله أو أهله الخ ولو كان فيه ذلك. قال النووي: "الغيبة ذكر الإنسان في غيبته بما يكره"، ويقول الحسن ذِكْر الغير على ثلاثة أنواع: الغيبة والبهتان والإفك. فالغِيبَة أن تقول ما فيه، والبُهْتَان أن تقول ما ليس فيه، والإفْك أنْ تَقُولَ ما بَلَغَكَ. والبهتان إنما يكون في الباطل كما قال الله:"والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً"(الأحزاب:58). كما قد يكون غيبة، أو حضوراً، قال النووي:"وأصل البهت أن يقال له الباطل في وجه".

ولقد حذرنا الرسول صلي الله عليه وسلم من تناول عرض المسلم بالأذى، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"إنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ اسْتِطَالَةَ الْمَرْءِ فِي عِرْضِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَمِنَ الْكَبَائِرِ السَّبَّتَانِ بِالسَّبَّةِ"(3). كما أكد المعصوم ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يودع الأمة علي حرمة الأعراض، وتناولها بالغيبة، وقرن تحريمها إلى تحريم الدماء والأموال ثم زاد تحريم ذلك تأكيداً بإعلامه بأن تحريم ذلك كحرمة البلد الحرام في الشهر الحرام:"فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا".

أسباب "أكل لحوم البشر"

الأسباب عديدة منها: الرغبة في رفعة النفس عبر التقليل/الحط من شأن الغير، والتنفيس عن الغضب/ الغيظ/ البغض/ الحسد/ السخرية/ الاحتقار، والتبرُّؤ من العيب بإلصاقه بالغير، وموافقة الأقران، ومجاملة الرفقاء، وكره نصحهم بالكف عن الغيبة لكي لا ينفروا منه، وطلب موافقة/ نيل الحظوة لدي صاحب العمل، ومجاراته في تنقص من لا يحب من المرؤوسين، وكثرة الفراغ، والشعور بالملل، والمزاحً/ والهزْل لإضاعة الوقت، والرغبة في إضحاك الناس بمحاكاة فلان وفعله الخ.

بل قد يَبعث عليها الغضب لله، فَعن عامر بن واثلة أن رجلًا مرَّ على قوم في حياة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فسلَّم عليهم فردُّوا عليه السلام، فلمَّا جاوزهم قال رجل منهم إني لأبغض هذا في الله، فلمَّا بلَغه ذلك اشْتكاه إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليبيِّن له لماذا يَبْغَضُه في الله؟، فسأَلَه فَقَال الرَّسول لماذا تَبْغَضُه؟. فقال: أنا جَارُه والله ما رأيْته يُصلي صلاة قط! إلا هذِه المكْتوبة، فقال الرجل: وهَل رأيتَني أخرتُها عن وقتها أو أسأتُ الوضوء لها أو الركوع أو السجود؟ فقال لا، كما سأله عن مثل ذلك في الصوم حيث لا يصوم إلا رمضان، وعن الزكاة فلا يتجاوزها إلى الصدقات الأخرى، فقال الرسول للرجل: قُمْ فلعلَّه خير منك"(4)، والمُراد أنَّه ما دام يَقُوم بالفَرائض فلا يَصحُّ أن يُعاب ويُبْغض؛ لأنَّه لم يَقُمْ بالنوافل"(5).

صفات "آكل لحم أخيه"

لآكل لحم آخيه صفات منها أنه: حقود، عديم المُروءة، مُفْتخر، حسود، مُراءٍ، غافل عن الله، غافل عن عيوبه، فاسق (لأن الغِيبة من الكبائر)، مُضيِّع لحسناته (لأنَّ مَن اغْتابه يأخذ منها)، حاملٌ لسيِّئات غيره، مُشِيعٌ على المسلم ما ليس فيه من أجل أن يَعيبه، "مَنْ ذَكَر امْرَأً بشيء ليس فيه ليَعيبه به حَبَسَهُ الله فِي نَارِ جَهَنَّم حتى يأتي بِنَفَادِ مَا قال"(6)، وفي رواية:"أيُّما رجلٍ أشاع على رجل مسلم بكلمة، وهو منها برئ يُشِينُه بها في الدُّنيا كان حقًّا على الله أن يُذِيبَه يوم القيامة في النار حتى يأتي بنفاد ما قال"، أيْ حتى يأتي بالدليل على ما اتَّهمه به. كما إن المُغتاب غير كامل الإسلام، لقوله صلي الله عليه وسلم:"المسلم من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده"(7).

صور "أكل لحم الأخ"

صور الغيبة متعددة منها ذكر الأخ بما يكره في نفسه ودينه ودنياه وخُلقه وخِلقه وماله وولده ووالده وزوجه وخادمه وثوبه ودابته، أو حركته أو طلاقته أو عبوسته الخ. وهي إما بالفظ أو بالإشارة أو بالرمز أو بالمُحاكاة والتقليد، أو بالقلب وانعقاده على العَيْب (وهو سوء الظن). ولو سَمِعَ إنسان شخصًا يغتاب أحدًا فَرَضِيَ بكلامه ولم يُنْكِرْه كان شريكًا في الغِيبَة. قالت السيدة عائشة ـ رضى الله عنها: دخَلَت علينا امرأة، فلمَّا ولَّت أومأْتُ بيدي أنَّها قصيرة، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ "اغْتَبْتِيهَا"(8)، كما قالت عائشة: حاكَيْت إنسانًا – يعنى قلَّدتُه، فقال لي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ :"ما يَسُرُّنِي أنِّي حاكَيْت إنسانًا ولي كذا وكذا"(9).

ومن صورها ما ذكره النووي بقولهم:"الله يعافينا"، و"الله يتوب علينا"، و"نسأل الله السلامة/ العافية ونحو ذلك". كذلك ما قد يخرج من المرء على صورة التعجب أو الاغتمام أو إنكار المنكر، قال ابن تيمية: ومنهم من يخرج الغيبة في قالب التعجب فيقول: تعجبت من فلان كيف لا يعمل كيت وكيت، ومنهم من يخرج النية في قالب الاغتمام فيقول:"مسكين فلان غمني ما جرى له".

وهناك الهمز بالفعل، كالغمز بالعين.. احتقاراً أو ازدراءً، واللمز بالقول واللسان، وتدخل فيه الغيبة، يقول تعالى:"ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان"(الحجرات:11). قال ابن عباس في تفسير اللمز: لا يطعن بعضكم على بعض. قال ابن كثير {لا تلمزوا أنفسكم}: أي لا تلمزوا الناس، والهماز واللماز من مذموم:"ويل لكل همزة لمزة" (الهمزة:1).

مخاطر الغيبة الخاصة والعامة

الغيبة تأكل حسنات الفرد، وتحبط أعماله، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:"أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟، قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ"(10). كما إن حَسنات المُغتاب تُنقل إلى مَن يَغْتابه، يقول الحَسن لرجل قال له: لماذا تَغْتابُني، أنتَ لستَ عظيمًا حتَّى أُحَكِّمك في حسناتي(11)، ورُوى عن الحَسن أنَّ رجلًا قال له: إنَّ فلانًا قد اغْتَابَك، فبَعث إليه رُطبًا على طَبَق، وقال له بَلَغَنِي أنك أَهْدَيت إليَّ من حسناتك، فأردت أن أكافئك عليها، فاعذُرْني فإنِّي لا أقدر أن أكافئك على التَّمام" (12).

ورأي بعض الفُقهاء أنَّ الغِيبة تُبْطِلُ الصيام، فإن لم تُبْطله أنَقَصت من ثوابه، للحديث الذي رواه أحمد في الفتَاتَيْن اللَّتَيْن كانتا تغتابان، أثناء صيامهما، حيث استقاءت كل منهما قَيْحًا ودمًا وصديدًا ولحمًا أمام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال:"إنَّ هاتين صامتَا عما أحَلَّ الله لَهُما، وأفطرتا على ما حرَّم الله عليهما، جلست إحداهما إلى الأخرى فجَعلتا تَأْكلان مِن لُحوم الناس"(13). وكان "عَطَاءٌ" يرى: بُطْلَان الوضوء والصلاة والصيام بالغِيبة (14).

والغيبة تفسـد المجالس، وتمزق الجسد المسلم الواحد، وتُفَرِّق بين الناس، وتُورث العداوة فيما بينهم، وفيها فضيحة وهَتْك أستار، وقد تَجُر إلى ما هو أسوأ من ذلك. وهي لا تقل عن النميمة خطرا بل أشد منها ضررا. فهي تنال من سلامة المسلم المعنوية، ومكانته وجاهه وسمعته الشخصية والعائلية والاجتماعية.

ما يُباح من الغِيبة

- التظلُّم لنيْل الحق بذكر ما يكرهه الظالم، قال تعالى: (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) (النساء:148) حيثُ لا ينال الحقَّ إلا بذكْر الظَّالم بالرِّشْوة أو التباطؤ في العمل أو السرقة الخ. ففي الحديث:"إِنَّ لصاحب الحقِّ مقالًا"(15)، و"مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْم"(16)، ولقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:" لَيُّ الوَاجد يُحِلُّ عقوبته وعِرْضه"(17) أي تأخُّر القادر عن سداد دَيْنه يُبيح لصاحب الدَّين طلب عقوبته والتحدُّث في عِرضه بما يكرهه.

- التوسُّل بالغِيبة لإزالة مُنكر، وذلك بالدِّلالة عليه، كما بلغ زيد ابن أرقم إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما قاله أُبَيُّ بن خلف: "لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ" (سورة المنافقون:8).

- تُبَاح الغِيبَة للفتوى، فقد قالت هند للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن زوجها أَبِي سفيان: "إنَّه شحيح ولا يُعْطيها ما يَكفيها النفقة" (18) وذَكَر الصحابة أمام النبي امرأة تُكثر من الصلاة والصيام ولكنَّها تُؤذي جيرانها بلسانها(19)، فَقَال "هِيَ في النار" ولم يُنكر عليهم أنهم عابوها بذلك.

- ومنها تحذير المسلمين من شرِّه بذكْر عيبَه كقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ " بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ" (20)، وقال الغزَّالي (21) يَجوز كشف بدْعة المبتدع وفِسقِه حتى لا ينخدع الناس به، ففيه تَوْعية ونصيحة للمسلمين للبعد عن شرِّه.

- المَشورة عند شراء شيء فيَذْكُر العارفُ بعيوبه ما فيه مِن عيوب، والمشورة عند الزواج أيضًا لمعرفة حال العروسين، فالمُستشار مُؤتَمن، فقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لفاطمة بنت قيس عن معاوية بأنَّه صُعلوك لا مال له، حين استشارته في زواجها منه، وكذلك لو كان الشَّخص مجاهرًا بفسقه ومعصيته ولا يُبالي أن يذْكره الناس بالسوء، فقد رُويَ في حديثٍ: "أتَرغبون عن ذكر الفاجر، اهْتِكُوه حتى يعرفَه الناس، اذكروه بما فيه حتى يحذره الناس"(22)، فمَن ألقى جلباب الحياء عن وجهه فلا غِيبة له، وكانوا يقولون: ثلاثة لا غِيبَة لهم، الإمام الجائر، والمبتدع، والمجاهر بفسقه(23).

- ليس من الغيبة أن يذْكر الإنسانُ غيره بلقب يُعرَف به ويُشتهر، ولا يكاد يُعرف بغيره، كالأعرج والأسود.

- الْإِسْنَادَ مِنَ الدِّينِ وَالرِّوَايَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا عَنِ الثِّقَاتِ، وَأَنَّ جَرْحَ الرُّوَاةِ بِمَا هُوَ فِيهِمْ جَائِزٌ بَلْ وَاجِبٌ وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْغِيبَةِ الْمُحَرَّمَةِ بَلْ مِنَ الذبِّ عَنِ الشَّرِيعَةِ الْمُكَرَّمَةِ.

القدح  ليس  بغيبة في ستة   ***  متظلّـم ومعـرِّف ومحذِّر.

ومجاهر بالفسق ثمت سائل  *** ومن استعان على إزالة منكر.

عقاب "آكل لحم أخيه"

- الغيبة - كما سبق- تُبْطِلُ العبادة عند بعض العلماء، وتأكل الحسنات، وتُحَمِّل صاحبَها سيئاتِ الناس الذين اغتابهم. غَضِبَ النبي من سماع الغيبة، كما غَضِبَ على عائشة حين قالت عن صفيَّة: "إنها قصيرة"، فقال لها:"لقد قُلْتِ كلمة لو مُزِجت بماء البحر لَمَزَجَتْه"(24).

- الفضيحة في الدنيا، ولقد صعد رسول الله المنبر فنادي بصوت رفيع:"يا معشر من آمن بلسانه، ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين، ولا تعيروهم، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله"، وفي رواية للحديث في مسند أحمد:"لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم".

- كما أخرج أحمد بسند رجالُه ثقات أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مرَّ بقبرين يُعذَّبان، أي يعذب مَن فيهما، ووضع عليهما جريدة عسى أن يُخفف الله بها عنهما، وذلك من أجل الغيبة والبَوْل، أو في النميمة والبَوْل(25). قال قتادة : عذاب القبر ثلاثة أثلاث: ثلث من الغيبة، وآخر من النميمة، وآخر من البول. وقوله:"ما يعذبان في كبير" قال الخطابي: أنهما لم يعذبا في أمر كان يكبر عليهما، أو يشق فعله لو أرادوا أن يفعلاه.

-- وجاء في حديث أحمد أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مرَّ ليلة الإسراء على قَوْم يأكلون الجِيَف وأخبره جبريل أنهم الذين يأكلون لحوم الناس، وفي حديث رواه أبو داود أن المغتابين لهم أظفار من نُحاس يَخْمِشُون بها وجوههم وصدورهم، كما رآهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليلة المعراج، وفي حديث رواه أحمد أن ريحًا مُنتِنة ارتفعت فأخبره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأنها رائحة الذين يَغْتابون المؤمنين. عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم". وعن أبي هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم :"من أكل لحم أخيه في الدنيا قرِّب إليه يوم القيامة فيقال له: كُله ميتاً كما أكلته حياً فيأكله ويكلح ويصيح"،"فأكل جِيفَة الحمار أهون من الغيبة"(26). والمُغْتابين يُؤْذون أهل النار برائِحَتهم ومنظرهم القبيح زيادة على ما هم فيه من الأذى.

كفارة الغِيبة

كان السلف الصالح يدققون على كلامهم المباح فضلاً عن الكلام المحرم، فمَن وَقَعَتْ منه غِيبة يَجب أن يتوب منها، وذلك بالنَّدم والعزم على عدم العودة إلى المعصية، وتتمُّ التوبة باستحلال المظلوم وطلب العفو عنه، وكذلك بالاستغفار له، يقول ابن القيم: لا يَلزم استحلال كالحقوق الماليَّة، لعدم فائدة ذلك ولأنَّه ربَّما يترتَّب عليه ضرر(27).

الغيبة كغيرها من الذنوب فرض الله التوبة منها: "وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون"(النور:31).والتوبة النصوح بشروطها هي التي تحقق التوبة. فعن النعمان بن بشير قال: سمعت عمر يقول:"توبوا إلى الله توبة نصوحاً" (التحريم: 8)، هو الرجل يعمل الذنب ثم يتوب، ولا يريد أن يعمل به ولا يعود.

كيفية التخلص منها

- تقوية الورع والإيمان، وقراءة سير الصالحين والتأسي والنظر في سلوكهم، وكيفية مجاهدتهم لأنفسهم. ففي قصة الإفك، وما جاء عن زينب بنت جحش رضي الله عنها أنها قالت: "يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، ما علمت إلا خيراً"، تقول عائشةً رضي الله عنها: "وهي التي كانت تساميني من أزواج رسول الله فعصمها الله بالورع". قال الفقيه السمرقندي: الورع الخالص أن يكف بصره عن الحرام ويكف لسانه عن الكذب والغيبة، ويكف جميع أعضائه وجوارحه عن الحرام .

- تقوى الله عز وجل والاستحياء منه: ويحصل هذا بسماع وقراءة آيات وأحاديث الوعيد والوعد التي تحذر من الغيبة:"أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون"(الزخرف:80).

- الحرص علي مجالسة الصالحين، وعدم موافقة الأقران، والخوص مع الجلساء ومجاملتهم: "وكنا نخوض مع الخائضين" (المدثر:45). قال قتادة: "كلما غوى غاو غوينا معه".

- المزاح الحق، قال ابن عبد البر:"كره جماعة من العلماء الخوض في المزاح لما فيه من ذميم العاقبة ومن التوصل إلى الأعراض".

- عدم الحنق على المسلمين وحسدهم، قال ابن تيمية: "ومنهم من يحمله الحسد على الغيبة فيجمع بين أمرين قبيحين: الغيبة والحسد". وترك حب الدنيا والحرص على السؤود فيها، قال الفضيل بن عياض: "ما من أحد أحب الرياسة إلا حسد وبغي وتتبع عيوب الناس، وكره أن يذكر أحد بخير".

- تذكر مقدار إفلاسه من الحسنات، والخسارة التي يخسرها منها، بل ويهديها لمن اغتابهم.

-  أن يتذكر عيوبه وينشغل بها عن عيوب غيره، وأن يحذر من أن يبتليه الله بما يعيب به إخوانه..
قال أبو هريرة: يبصر أحدكم القذى في عين أخيه ولا يبصر الجذع في عين نفسه.

- أن يعاقب نفسه ويشارطها حتى تقلع عن الغيبة. قال حرملة : سمعت رسول ابن وهب يقول: نذرت أني كلما اغتبت إنساناً أن أصوم يوماً فأجهدني، فكنت أغتاب وأصوم. فنويت أني كلما اغتبت إنساناً أني أتصدق بدرهم، فمن حب الدراهم تركت الغيبة.

- أوجب العلماء على المسلم عدم سماع الغيبة، فسماعها كفعل قائله في الوزر، قال تعالى:"وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم" (النساء:140). قال الطبري: في الآية دلالة واضحة على النهي عن مجالسة أهل الباطل من كل نوع. ودفع الغيبة حين حضورها من أعظم الأعمال، فعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّم:َ"مَنْ ذَبَّ عَنْ لَحْمِ أَخِيهِ فِي الْغِيبَةِ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُعْتِقَهُ مِنَ النَّارِ"(28).

- ينبغي على المسلم أن يبعد نفسه عن مواطن الريبة والتهمة التي تجعله موضعاً لغيبة الآخرين، وأن يكشف ما قد يلتبس على الناس، وقد سبق إلى ذلك أكمل الخلق وأعدلهم. فقد أتته "صفية" في معتكفه في المسجد، ولما انتصف الليل قام صلى الله عليه وسلم معها يقلبها إلى بيتها فلقيه اثنان من أصحابه، فلما رأياه يمشي معها أسرعا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: على رسلكما، إنما هي صفية بنت حيي، فقالا: سبحان الله يا رسول الله، وكبر عليهما. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الشيطان يبلغ في الإنسان مبلغ الدم، وخشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً".

- تعويد اللسان على الكلام الطيب وعِفَّته عن القول الخَبيث، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت"(29). يقول ابن المبارك:        

وإذا هممت بالنطــق في         الباطل فاجـعـل مكـانـه تسبيحاً

فاغتنام السكوت أفضل من        خوض وإن كنت في الحديث فصيحا

ويقول مالك بن دينار: مرَّ عيسى ـ عليه السلام ـ ومعه الحواريون بجيفة كلْب، فقالوا: ما أنْتَنَ ريح هذا الكلب، فقال عيسى عليه السلام: ما أشدَّ بياضَ أسنانه كأنه نهاهم عن غِيبة الكلب وذكْر القبيح"(30).

صفوة القول:إذا كان جنون البقر وأنفلونزا الطيور وغيرهما من العلل قد نشأت بسبب الانحراف عن الفطرة التي فطر الله تعالي الكون عليها، فلنا فيهما وغيرهما العظة والعبرة كي لا تستشري الأمراض والعلل الاجتماعية العامة والخاصة جراء شيوع "أكل لحوم البشر".. غيبة ونميمة وفساد وإفسادا؟.

              

هوامش:

1-صححه الألباني.

2- صحيح مسلم، كتاب الإمارة برقم:4690، وفي مسند أحمد في باقي مسند المكثرين برقم:8625، وسنن الترمذي في البر والصلة: 1857، وأبي داود، في الأدب:4231.

3- سنن أبي داود: كتاب الأدب، برقم 4234.

4- رَواه أحمد بإسناد صحيح.

5- الإحياء: ج3، ص 128.

6- حديث رواه الطبراني بإسناد جيد.

7- رواه البخاري ومسلم.

8- رواه ابن أبي الدنيا وابن مِرْدَوَيْهِ.

9- رواه الترمذي وصحَّحه.

10- صحيح مسلم، كتاب البر والصلة، برقم 4678.

11- الإحياء: ج3، ص129.

12-المرجع السابق، ص134.

13- رواه الإمام أحمد.

14- الإحياء ج3 ص 124.

15- رواه البخاري ومسلم.

16- رواه البخاري ومسلم.

17- رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة بإسناد صحيح.

18- متفق عليه.

19- كما رواه ابن حِبَّان وصحَّحه الحاكم.

20- متفق عليه.

21- في كتابه "الإحياء"، ج3 ، ص 132.

22-المرجع السابق، ص 132.

23-المرجع السابق، ص 132.

24- رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح.

25- الترغيب ج3 ص 208.

26- رواه ابن حبَّان في صحيحه.

27- غذاء الألباب ج1 ص93.

28- مسند أحمد، كتاب مسند القبائل برقم: 26328.

29- رواه البخاري ح/6135.

30- الإحياء، ج3، ص 125.