كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ
كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ
رضوان سلمان حمدان
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)} البقرة
خصّ المؤمنين هنا بالذكر لكونهم أفضل أنواع الناس. والمراد بالأكل الانتفاع من جميع الوجوه. وقيل: هو الأكل المعتاد.
إنه خطاب من الله للذين صدّقوا الله ورسوله، وأقرّوا لله بالعبودية، وأذعنوا له بالطاعة بأن يَطْعَموا الأطعمة المستلَذَّة الحلال التي رزقناكم وأحللناه لكم، فطاب لكم بتحليلي إياه لكم مما كنتم تحرّمون أنتم ولم أكن حرّمته عليكم من المطاعم والمشارب، ولا تكونوا كالكفار الذين يحرمون الطيبات، ويستحِلُّون الخبائث.
وقد سبق في الآية 168 خطاب مماثل في الموضوع نفسه؛ ولكن للناس جميعاً وهو قوله تعالى: {ياأَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً}. وقلنا: إن الحق سبحانه وتعالى ساعة يخاطب الناس جميعاً، فهو يلفتهم إلى قضية الإيمان، ولكن حين يخاطب المؤمنين فهو يعطيهم أحكام الإيمان، فالله لا يكلف بحكم إلا مَن آمن به، أما من لم يؤمن به، فلا يكلفه بأي حكم، لأن الإيمان التزام. وما دمت قد التزمت بأنه إله حكيم؛ فخذ منه أحكام دينك.
وعدل الله اقتضى ألا يكلف إلا من يؤمن، وهذا على خلاف مألوف البشر، لأن تكليفات القادة من البشر للبشر تكون لمن يرضى بقيادتهم ومن لم يرض، وإذا كان للقائد من البشر قوة، فإنه يستخدمها لإرغام من يوجدون تحت ولايته على تنفيذ ما يقول.
وخطاب الله للمؤمنين هنا جاء بقوله: {كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}، ذلك أن المؤمن يتقين تماماً بأن الله هو الخالق وهو الذي يرزق. ويذيل الآية الكريمة بقوله: {وَاشْكُرُواْ للَّهِ} الذي رزقكم هذه النعم العظيمة، وأثنوا عليه سبحانه بقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم بما هو أهله منكم على النعم التي رزقكم وطيبها لكم، فشُكر العبد المؤمن للرب الخالق واجب، {إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} إن كنتم حقًا منقادين لأمره، سامعين مطيعين له، تعبدونه وحده لا شريك له. وما دام العبد المؤمن يختص الله بالعبادة؛ فإن عبادته تعالى لا تتم إلا بالشكر، عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: إني والجن والإنس في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري، وأزرق ويشكر غيري"
ولما امتن تعالى عليهم برزقه، وأرشدهم إلى الأكل من طيبه، ذكر أنه لم يحرم عليهم من ذلك إلا الميتة، وهي التي تموت حتف أنفها من غير تذكية، وسواء كانت منخنقة أو موقوذة أو متردية أو نطيحة أو قد عدا عليها السبع.. وكذلك حرم عليهم لحم الخنزير، سواء ذكي أم مات حتف أنفه.. وكذلك حرم عليهم ما أهل به لغير الله، وهو ما ذبح على غير اسمه تعالى من الأنصاب والأنداد والأزلام ونحو ذلك مما كانت الجاهلية ينحرون له، عن عائشة رضي الله عنها: أنها سئلت عما يذبحه العجم لأعيادهم، فيهدون منه للمسلمين، فقالت: ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا منه، وكلوا من أشجارهم.
ثم أباح تعالى تناول ذلك عند الضرورة والاحتياج إليها عند فقد غيرها من الأطعمة، فقال: {فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} أي: في غير بغي ولا عدوان، وهو مجاوزة الحد {فَلاَۤ إِثْمَ عَلَيْهِ} أي: في أكل ذلك {إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.(1)
قال أبو عبدالله النباجي الزاهد رحمه الله: (خمس خصال بها تمام العمل: الإيمان بمعرفة الله عز وجل، ومعرفة الحق، وإخلاص العمل لله، والعمل على السنة، وأكل الحلال، فإن فقدت واحدة لم يرتفع العمل، وذلك أنك إذا عرفت الله عز وجل ولم تعرف الحق لم تنتفع، وإن عرفت الحق ولم تعرف الله لم تنتفع، وإن عرفت الله وعرفت الحق ولم تخلص العمل لم تنتفع، وإن عرفت الله وعرفت الحق وأخلصت العمل ولم يكن على السنة لم تنتفع، وإن تمّت الأربع ولم يكن الأكل منا حلال لم تنتفع).
وقال وهيب بن الورد: (لو قمت مقام هذه السارية لم ينفعك شيء حتى تنظر ما يدخل بطنك حلال أم حرام).
ويقول ميمون بن مهران: (لا يكون الرجل تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه وحتى يعلم من أين ملبسه، ومطعمه، ومشربه).
ويقول حذيفة المرعشي: (جماع الخير في حرفين: حل الكسرة، وإخلاص العمل لله).
ويقول أبو حفص النيسابوري: (أحسن ما يتوسل به العبد إلى مولاه الافتقار إليه، وملازمة السنة، وطلب القوت من حله).
وقال يوسف بن أسباط: (إذا تعبد الشاب يقول إبليس: انظروا من أين مطعمه؟ فإن كان مطعمه مطعم سوء قال: دعوه لا تشتغلوا به، دعوه يجتهد وينصب، فقد كفاكم نفسه).
وقال سهل بن عبدالله: (من نظر في مطعمه دخل عليه الزهد من غير دعوى).
وسأل رجل سفيان الثوري عن فضل الصف الأول فقال: (انظر كِسرتك التي تأكلها من أين تأكلها؟ وقم في الصف الأخير)، وكأنه رحمه الله رأى من الرجل استهانة بهذا الأمر، فأحب أن ينبهه إليه؟ لأنه أهتم مما سأل عنه.
وقال إبراهيم بن أدهم: (ما أدرك من أدرك إلا من كان يعقل ما يدخل جوفه).
وقال يحيى بن معاذ: (الطاعة خزانة من خزائن الله إلا أن مفتاحها الدعاء، وأسنانه لقم الحلال).
وقال ابن المبارك: (رد درهم من شبهة أحب إلي من أن أتصدق. بمائة ألف درهم ومائة ألف ومائة ألف حتى بلغ ستمائة ألف).
وكان يحيى بن معين ينشد:
المال يذهب حله وحرامه يوماً وتبقى في غد آثامه
ليس التقي بمتقٍ لألهه حتى يطيب شرابه وطعامه
ويطيب ما يحوي وتكسب كفه ويكون في حسن الحديث كلامه
نطق النبي لنا به عن ربه فعلى النبي صلاته وسلامه
لقد كانوا رحمة الله عليهم يؤكدون على هذا المعنى كثيراً حتى أن الفضيل رحمه الله لما أراد أن يعرِّف أهل السنة يقول: (أهل السنة من عرف ما يدخل بطنه من حلال).
عن عائشة رضي الله عنها قالت: {كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يوما بشيء فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أحسن الكهانة، إلا أني خدعته فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه }.
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، واغننا بفضلك عمن سواك.
مناسبة الآية في السياق
تكلم الله سبحانه وتعالى من أول السورة إلى ههنا في دلائل التوحيد والنبوة واستقصى في الرد على اليهود والنصارى، ومن هنا شرع في بيان الأحكام. "فقد انتقل من توبيخ أهل الشرك على أن حرموا ما خلقه الله من الطيبات إلى تحذير المسلمين من مثل ذلك مع بيان ما حرم عليهم من المطعومات، وقد أعيد مضمون الجملة المتقدمة جملة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ} [البقرة:168] بمضمون جملة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ليكون خطاب المسلمين مستقلاً بنفسه، ولهذا كان الخطاب هنا بيا أيها الذين آمنوا.."(2)
معاني المفردات
الطيبات: أَكثر ما يرد بمعنى الحلال المستلذ، كما أَن الخبيث كناية عن الحرام.
والرِّزْقُ: الكسب الحلال، والحرام لا يسمَّى رزقا.. فإنّ كل ما رزقه الله لا يكون إلا حلالاً(3).. قال تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت: 17].
قال عبد الله بن عباس: إن للحسنة: ضياء في الوجه ونورًا في القلب، وسعة في الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة: سوادًا في الوجه، وظلمة في القبر، ووهنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق.(4)
فالله تعالى حين ينسب الرزق إليه فلا بد أن يكون حلالاً... ففي الحديث "الْتَمِسُوا الرِّزق في خَبايَا الأَرض". {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ}[الرعد: 26]. {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}الملك 15.
ويقول - صلى الله عليه وسلم - : «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه»(5)
قال سفيان: دخلت على جعفر بن محمد، فقال: «إذا كثرت همومك فأكثر من لا حول ولا قوة إلا بالله، وإذا استبطأت الرزق فأكثر من الاستغفار، وإذا تداركت عليك النعم فأكثر حمدًا لله».(6)
... أربعة تجلب الرزق؛ قيام الليل وكثرة الاستغفار بالأسحار وتعاهد الصدقة والذكر أول النهار وآخره.(7)
ولقد ثبت علميا وبشكل مؤكد الأضرار الصحية والنفسية والسلوكية في الميتة ولحم الخنزير...(8)
من هداية الآيات
1. كل ما في الأرض والبحر والجو من نبات وحيوان وسمك وطير حلال لنا إلا ما ذكر من المحرمات هنا وفي سورة المائدة وما نص عليه في كتب الفقه الإسلامى.
2. وللمضطر أن يأكل مما حرم قدر الضرورة.
3. أهمية شكر الله تعالى على كل نعمه.
4. بيان عظيم فضل الله على المؤمنين.
5. الأكل قد يكون واجباً، وذلك عند دفع الضرر عن النفس، وقد يكون مندوباً، وذلك أن الضيف قد يمتنع من الأكل إذا انفرد وينبسط في ذلك إذا سوعد، فهذا الأكل مندوب، وقد يكون مباحاً إذا خلا عن هذه العوارض، والأصل في الشيء أن يكون خالياً عن العوارض، فلا جرم كان مسمى الأكل مباحاً. وهنا في قوله تعالى {كُلُواْ} في هذا الموضع لا يفيد الإيجاب والندب بل الإباحة.
6. الطيِّب في أصل اللغة عبارة عن المستلذ المستطاب، ولعل أقواماً ظنوا أن التوسع في المطاعم والاستكثار من طيباتها ممنوع منه. فأباح الله تعالى ذلك بقوله: كلوا من لذائذ ما أحللناه لكم فكان تخصيصه بالذكر لهذا المعنى.
7. الأكل من الحلال سبب لتقبل الدعاء والعبادة، كما أن الأكل من الحرام يمنع قبول الدعاء والعبادة. كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر، حدثنا الفضيل بن مرزوق عن عدي بن ثابت، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يٰأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَٱعْمَلُواْ صَٰلِحاً إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}، وقال: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَٰكُمْ} ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنىٰ يستجاب لذلك؟"(9)
8. شكر الله واجب وهو عبادة. وبالشكر تزيد النعم.
9. وجوب شكر الله على نعمة النصر على الأعداء والفتح للمسلمين وعلى كل نعمة من نعمه عز وجل بتسبيحه وتحميده واستغفاره والتوبة إليه، لقوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ}.
10. مشروعية سجدة الشكر، وقول «سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي» في الركوع والسجود.
11. من واجب شكر الله عز وجل على هذه النعمة العظيمة أن يحافظ عليها وأن يتجنب أسباب زوالها. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «التحدُّث بنعمة الله شكر، وتركها كفر، ومن لا يشكر القليل؛ لا يشكر الكثير، ومن لا يشكر الناس؛ لا يشكر الله، والجماعة بركة، والفرقة عذاب»(10)
12. إن شكر النعمة مربوط بالزيادة؛ فمن شكر الله تعالى على نعمه؛ زاده.. والزيادة من الله تعالى؛ زيادة من الغنى.. مالك كل شيء! قال الله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}[إبراهيم7]. قال علي - رضي الله عنه - لرجل من أهل همدان: «إنَّ النعمة موصولة بالشكر، والشكر متعلق بالمزيد، وهما مقرونان في قرن، فلن ينقطع المزيد من الله عز وجل؛ حتى ينقطع الشكر من العبد».
(1) انظر: الشعراوي والطبري والرازي القرطبي وابن كثير والبيضاوي والشوكاني. والتفسير الميسر لعدد من أساتذة التفسير تحت إشراف الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي.
(2) التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور.
(3) تفسير الكشاف/ الزمخشري.
(4) الجواب الكافي: 99.
(5) «مسند أحمد»، وابن ماجه.
(6) الترغيب في فضاءل الأعمال وثواب ذلك لابن هشام: (1/381).
(7) زاد المعاد: (4/372).
(8) د. جواد الهدمي (PhD) دكتوراه علوم الدواجن التطبيقية وأمراضها/ لندن، عضو هيئة علوم الدواجن العالمية WPSA/ لندن – لاهاي(هولندا)، عضو وباحث مشارك/ الجمعية العلمية الطبية – جامعةهارفارد (USA) http://www.55a.net/firas/arabic/?page=show_det&id=1956&select_page=3
والدكتور الطبيب محمد نزار الدقر http://55a.net/firas/arabic/index.php?page=show_det&id=125
ومن هذا الرابط تشاهد مقطع تشريحي لجسم الخنزير:
http://www.johnabbott.qc.ca/~p.anderson/805labtest1/PIGDIAG1.html(9) رواه مسلم في صحيحه والترمذي من حديث فضيل بن مرزوق.
(10) [رواه البيهقي في الشعب/ صحيح الجامع: 3014].