الدعوة والإنسان السويّ
عبد العزيز كحيل
خلص الدعاة الراسخون والعلماء العاملون من قراءتهم المتبحّرة وتجاربهم الميدانية الممتدّة في الزمان والمكان والعمق إلى أن انتصار الإسلام مرتبط شرطيا بوجود "الإنسان السوي" صاحب المشاعر الصادقة الفياضة والتفكير الصحيح الهادي أي صاحب الفطرة السليمة التي أشار إليها القرآن الكريم :
- فطرة الله التي فطر الناس عليها – سورة الروم 30
- يا أيها الإنسان ما غرّك بربك الكريم الذي خلقك فسوّاك فعدلك - سورة الانفطار 6 - 7
- لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم - سورة التين 4
فإذا كانت المشاعر كاذبة أو باردة وكان التفكير سطحيا أو ميّتا تحوّل الدين إلى مجرّد طقوس ،ويزداد الأمر سوءا إذا اغترّ الإنسان بذكائه في حين يعاني الخواء الروحي لأنه سيحوّل الدين حينذاك إلى مصيدة للمغانم سواء ألّف الكتب أو ألقى الخطب أو امتهن الشعوذة ،وما أخطر حال من ينطوي على أمراض نفسية ثم يتظاهر بالغيرة على الإسلام فينسى تزكية نفسه وأداء حقوق الله عز وجل ويشتغل بأخطاء العاثرين وينقم على العاملين في الدعوة إلى الله تعالى ،وهذا حالُ فتيان أخذوا شيئًا من العلم الشرعي من الكُتُب والصحف، ولَم يتتلمذوا على العلماء الراسخين والدعاة العاملين فظنوا أنفسهم على قدْرٍ كبيرٍ من التقوى والتزكية وخرجوا على محتمعاتهم بالتكفير وسفك الدماء حتى إن بعضهم لم يسلم منهم المسجد الحرام نفسه – رغم قدسيته – في أحداث 1979 الدامية المؤلمة ، كما كان هذا حال أحبار بني إسرائيل عندما ألحّوا على المسيح عليه السلام – كما ورد في الآثار- أن يرجم الزانية ،ولم تكن تحرّكهم الغيرة على شرع الله تعالى بل قسوة القلوب وغلظة الطباع ،لذلك أفحمهم بقوله "من كان منكم بلا ذنب فليرجمها" ،وصدق – عليه السلام - فاضطراب صلتهم بالله عز وجل هو الذي أدّى بهم إلى تحجّر العاطفة وحبّ البطش والشماتة في المذنبين ،وما ينبغي للدعاة أن يكونوا هكذا وهم أصحاب العيون المؤمنة ،وإذا كانت العين الحاسدة تضرّ الإنسان فإن العين المؤمنة تنفع لأنها عين حانية مشفقة تؤثر في اتجاه الحق والخير والنور والجمال... وتلك هي الفطرة السليمة وذلك هو الإنسان السوي...رأس ماله حرقة وغضب على الباطل واستعلاء على الفجور يستدرك بقلبه الكبير على العجز في أعماله الصغيرة ، أو هكذا يرى نفسه بفضل تواضعه.
إن الداعية يمتلك أرفع أنواع الوعي وهو وعي الذات ،به يتّهم نفسه بدل أن ينزّهها وينادي عليها بالبراءة لمعرفته أن آلة لوم الآخر تحيي آلة تنزيه الذات وتقديسها ،بهذا ينتصر هو فينتصر الدين الذي يدعو إليه ،كيف لا وهو يقرأ في كتاب ربّه حديثا متكررا عن "ظلم النفس" ووجوب بدء عملية التغيير بها : "إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم " - سورة الرعد 11.
بهذا السمت الربّاني يتفادى الداعية في نفسه وفي غيره التديّن الصوري الذي كثيرا ما يكون وراءه قصور عقلي وغرور أعمى ، ويشتغل بالخشوع والإخبات إلى الله عز وجل والسجود الحقيقي الذي يشير من خلال سجود أعضاء الجسد إلى انقياد القلب لهداية الله تعالى وأمره ونهيه : " واسجد واقترب "- سورة العلق 19، كما يشتغل بالإيمان المثمر الذي يؤتي أكله كل حين بإذن ربه ،الإيمان الذي مكّن يوسف عليه السلام من تحويل الزنزانة إلى ساحة للدعوة ومكّن العلماء والدعاة من إدخال التتار في الإسلام بعد أن انهزم السياسيون وخذلوا دينهم وأمّتهم وانكسروا أمام أقوام همج لا دين لهم ولا خلق تمحّضوا للتخريب والإفساد في الأرض .
إن الأمة مكلفة بتبليغ كلمة الحق للبشرية كلها ،وقد أتاح لها التقدم العلمي وسائل تيسّر لها مهمة التبليغ بالكلمة والصورة والكتاب والصحيفة وغيرها ،إلا أن البداية الصحيحة لنجاح الدعوة وإخراج الناس من الظلمات إلى النور وتعبيدهم لله تعالى تكمن في بناء الداعية ذاته بناء حقيقيا لا صوريا ،فهو يبنى عقليا بالثقافة الشرعية والإنسانية اللازمة لمهمته ،وخلقيا بالفضيلة وروحيا بالعبادة واجتماعيا بالعمل الجواري الذي ينمّي شبكة العلاقات العامة ، وسياسيا بالتوعية العميقة المتينة ، بذلك يكون داعية سويّا تعدّه الأمة للدنيا والآخرة معا ،فهو صالح في نفسه مصلح لغيره ،وإنما أبدأنا وأعدنا في وصف "الإنسان السوي" لأن فساد الطبيعة والعقلية هو المشكلة حقا ، وهو أكبر من فساد أخلاق المجتمع لأنه يقضي على إنسانية الإنسان فينقلب إلى آلة تدمير ولو لبس لباس الدين ، فانحراف الفطرة هو الخطر الأكبر ، اقرأ قول الله تعالى : " أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون " سورة النمل 56 ، لتدرك تلك الخطورة، فقد أصبح التطهّر – أي الالتزام بالوضع الطبيعي- تهمة تجلب السخرية ،ذلك هو انحراف الفطرة الذي يصبح معه الجمال قبحا والقبح جمالا، فضلا عن كل القيم الأخرى ، ولنا تجسيد معاصر لهذا الانحراف يتمثل في الحضارة الغربية التي حرمت التوجيه الرباني فأبدعت في الأشياء وأفسدت الإنسان ،وعندنا تجسيد آخر مؤسف يتمثل في دعاة يؤثرون الغلظة في كل شيء ويديرون ظهورهم لكل أمر فيه حسن، متقربين بذلك إلى الله تعالى، فأنّى يصغي إليهم الناس وأنّى تبارك السماء سعيهم؟
وتبقى القدوة الأعلى والأرفع هي الرسول صلى الله عليه وسلم في تفكيره ومشاعره وسلوكه وهديه جميعا ، فهو النموذج الأمثل للدعاة ، ينبغي التماس مواطن القدوة في أقواله وأفعاله وحياته كلّها بنظر ثاقب وبصر واع وفهم عميق يحسن الإحاطة بملابسات الزمان والمكان والحال .