فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً

فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً

د.محمد بسام يوسف*

[email protected]

عندما يمارس الداعية المسلم دعوتَه وجهادَه، فأيّ نوعٍ من الدعوة والجهاد عليه أن يمارس؟!.. هل يقوم بعملٍ دعويٍ تميل إليه نفسه مع أنه ليس مثمراً، أم عليه أن يتحرّى طريق الدعوة أو الجهاد المثمر المُنتِج ولو كان ثقيلاً عليه لا تميل إليه نفسه؟!..

إن كان علينا أن نلتزمَ بنوعٍ من الدعوة أو الجهاد، فعلينا أن نلتزمَ بالعمل الدعويّ أو الجهاد المثمر، ولو كنا لا نُحِبّه أو لا تميل إليه نفوسنا، فطريق الدعوةِ متشعّب واسع، واختيار السبيل المنتِج هو المهم، لأنه وحده الذي يوصِلنا إلى الهدف المنشود.. ولتوضيح هذه القضية، سنُحَلِّل مثالَيْن من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. أولهما من صلح الحديبية، وثانيهما من غزوة تبوك، مع تأكيدنا، على أننا لا نبحث هنا في قضية السلم أو الحرب، ولا في قضايا الصراع أو الصلح أو التحالفات.. وإنما في قضية العمل المثمر الذي قد لا نُحبّه مع أنّ فيه الخير الكبير، وفي الأعمال العقيمة غير المثمرة التي قد تُحبّها نفوسنا وتميل إليها وتَنجرّ لممارستها، مع أنها لا تُفضي إلى ما نهدف إليه من نتائج مهمةٍ مدروسة:

أولاً : من الحُدَيْبِيَة

أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في المدينة المنوّرة، أنّ الله عز وجل سيفتح عليهم مكة، وذلك بعد رؤيا رآها، إذ رأى أنه يدخل مكة ويطوف بالبيت العتيق.. فامتلأت نفوس المسلمين بالغبطة والسعادة لأسبابٍ متعدّدة:

1- فالمهاجرون من وطأة الظلم والعذاب سوف يعودون إلى وطنهم، وسيعودون إلى أهليهم الذين ابتعدوا عنهم، وسيعود إليهم ما فقدوه في الوطن من الأرض والمال والمتاع.

2- والمستضعَفون من إخوانهم، الذين لم يتمكّنوا من الهجرة، أو الذين منعتهم قريش عنها، وسلّطت عليهم ألوان العذاب.. هؤلاء، سوف يلتحمون مع إخوانهم المهاجرين، وستعمّ الفرحةُ مكةَ، وكذلك المدينةَ المنوَّرة، وسيتخلّص المظلومون من الظلم والأذى والطغيان.

3- وستزول من وجه الإسلام والمسلمين أعظمُ عقبةٍ تَحول دون دخول الناس في هذا الدين الجديد العظيم، هي عقبة قريشٍ ومكّة: عاصمة الجزيرة العربية وحاضرة العرب وقائدتهم.

4- وسوف تصبح مكة التي فيها قِبلة المسلمين بين أيديهم، يؤدّون فيها شعائر الحج والعمرة متى أرادوا.

5- وسوف يُحَجِّم المسلمون المؤمنون نفوذَ معذِّبيهم ومشرِّديهم من كفار قريش، الذين ما تركوا وسيلةً لإيذائهم إلا اتّبعوها، سواء أكان ذلك في مكة نفسها، أو من خلال العدوان العسكريّ في بدر وأحد والخندق وغيرها.

لذلك كله، كانت فرحة المسلمين عارمةً، وكان الهدف كبيراً، وبما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي أخبرهم، وبشّرهم بأنّ الفتح سيتم، فالنتيجة إذن مؤكدة لا ريب فيها.

*     *     *

الجهاد لفتح مكة يُحبّه المؤمنون المسلمون الأطهار كلهم، لذلك فهم يمتلئون شغفاً وحماسةً لممارسة هذا النوع من الجهاد المبارك.. لكن ما الذي حصل؟!..

أ- لقد وقّع رسول الله صلى الله عليه وسلم معاهدة صلحٍ مع قريشٍ ومشركي مكة، مدّتها عشر سنوات، فلم تُفتَح مكة، بل حسب بنود الصلح، لن تُفتح خلال السنوات العشر التالية للتوقيع على الإطلاق.

ب- وأصيب المسلمون بصاعقةٍ نفسيةٍ مروّعة:

1- فالمهاجرون لن يعودوا إلى وطنهم ولن يعود إليهم ما فقدوه هناك.

2- ومكة، حاضرة العرب، ستبقى يحكمها طغاة قريشٍ المشركون، وقِبلةُ المسلمين ستبقى بأيديهم.

3- ولن تزول من وجه الإسلام والمسلمين تلك العقبة الكأداء، التي تَحول دون دخول الناس في الإسلام، هي عقبة قريشٍ ومكة.

4- والمستضعفون لن ينضمّوا إلى إخوانهم المهاجرين، بل الأشد من ذلك، أنه -بموجب بنود الصلح- يتوجّب على المسلمين أن يُعيدوا مَن فرَّ من إخوانهم الذين آمنوا في مكة.. إلى قريشٍ ومشركيها، بينما بالمقابل، لن يُعيدَ مشركو قريشٍ إلى المسلمين مَن يمكن أن يفرَّ إليهم مرتداً عن دينه من المسلمين!..

لتوضيح عِظَمِ الصاعقة النفسية التي أصابت المسلمين نتيجة هذا الصلح (الحديبية) نذكر بعض المواقف المؤثرة، لنتأمّل فيها:

الموقف الأول : عمر بن الخطاب مع أبي بكرٍ الصدّيق رضي الله عنهما:

 [فلما التأم الأمر، ولم يبقَ إلا الكتاب، وثب عمر بن الخطاب فأتى أبا بكرٍ، فقال: يا أبا بكر، أليس برسول الله؟.. قال: بلى، قال: أوَلَسْنا بالمسلمين؟.. قال: بلى، قال: أوَلَيسوا بالمشركين؟.. قال: بلى، قال: فعَلامَ نُعطي الدَّنِيَّةَ (أي: الذل والهوان والصَّغَار) في ديننا؟.. قال أبو بكر: يا عمر، إلزم غَرْزَه (أي: لا تَحِد عن طريقه صلى الله عليه وسلم، ولا تختر لنفسك إلا ما اختاره) فإني أشهد أنه رسول الله، قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله] (سيرة ابن هشام، ج3 ص247).

الموقف الثاني : عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم:

 [ثم أتى عمرٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ألستَ برسول الله؟.. قال: بلى، قال: أَوَلَسنا بالمسلمين؟.. قال: بلى، قال: أَوَلَيسوا بالمشركين؟.. قال: بلى، قال: فَعَلامَ نُعطي الدَّنِيَّةَ في ديننا؟.. قال: أنا عبد الله ورسوله، لن أخالِفَ أمرَه، ولن يُضَيِّعَني] (سيرة ابن هشام ج3 ص247).

وفي روايةٍ ثانيةٍ في الصحيحين [أنّ عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه قال: فأتَيتُ نَبيَّ الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ألستَ نبيَّ الله حقاً؟.. قال: بلى، قلت: ألستَ على حقٍّ وعدوّنا على باطل؟.. قال: بلى، قلت: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟.. قال: بلى،.. قلت: أوَلَستَ كنتَ تُحَدِّثنا أنّا سنأتي البيتَ فنطّوَّف به؟.. قال: بلى، أفَأخبرتكَ أنّك تأتيه العام؟.. قلت: لا، فقال صلى الله عليه وسلم: فإنك آتيه ومطَّوِّف به]!.. (متّفق عليه - مختصر ابن كثير ص1748).

يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [ما زلتُ أتصدَّقُ وأصوم وأصلّي وأعتِق، من الذي صنعتُ يومئذٍ، مخافة كلامي الذي تكلمتُ به، حتى رَجَوتُ أن يكونَ خيراً] (سيرة ابن هشام ج3 ص247). ويقول ابن كثير: [فلما ساروا عامَ الحديبية، لم يَشُكّ جماعة منهم، أنّ هذه الرؤيا تتفسّر هذا العام، فلما وقع ما وقع من قضية الصلح، ورجعوا عامهم ذلك، وقع في نفس بعض الصحابة رضوان الله عليهم من ذلك شيء]!.. (مختصر تفسير ابن كثير ص1749).

الموقف الثالث : بعد توقيع الكتاب (المعاهدة):

 [فلما فرغ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من قضية الكتاب قال لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا، فَوَالله ما قام منهم رجل (من شدّة الصاعقة النفسية التي ألمّت بهم بتوقيع الصلح)، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ثلاث مرات!.. فلما لم يَقُم منهم أحد، دخل صلى الله عليه وسلم على أمّ سلمة رضي الله عنها، فذكر لها ما لقيَ من الناس، فقالت له: يا رسول الله: أتُحِبّ ذلك؟.. أخرج ثم لا تكلِّم أحداً منهم كلمةً حتى تنحرَ بُدْنَكَ وتدعو حالِقَكَ فيحلِقَكَ، فخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكلِّم أحداً منهم حتى فعل ذلك، نحرَ بُدْنَهُ ودعا حالِقَهُ فحلقه.. فلما رأوا ذلك (أي المسلمون)، قاموا فنحروا، وجعل بعضُهُم يحلِقُ بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غمّاً] (مختصر ابن كثير ص1748).

ثم عاد الجيش من غير فتحٍ ولا نصرٍ (على ما يراه الناس).

وفي الطريق بين مكة والمدينة، نزلت سورة الفتح تبشِّر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ومَن معه من المسلمين، بأنّ النصر سيتم لا محالة: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) (الفتح:1).. فكان الفتح في صلح الحديبية، كما قال المفسرون، وكما قال ابن مسعودٍ رضي الله عنه: [ونحن نَعُدّ الفتحَ صلح الحديبية]. (مختصر ابن كثير ص1735). إلى أن قال سبحانه وتعالى: (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً*هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً) (الفتح:27 و28). 

*     *     *

لقد كان صلح الحديبية هو الفتح القريب الذي قدَّره الله عز وجل، وأكّده سبحانه وتعالى في سورة الفتح، بأنّ رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ستتحقّق بإذن الله، إذ كانت بشارةً بالنصر المبين، وبأنّ هذا الدين (الإسلام) سينتصر على جميع الأعداء والمشركين، وسيُظهِره الله على الدين كله، ودعَّم ذلك بكفالته سبحانه وتعالى، وبشهادته على أنّ هذا الأمر سيتم لا ريب في ذلك: (وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً).

ما الذي حصل بعد ذلك؟!..

1- بدأت قبائل الجزيرة العربية تدخل الإسلام: [فلما كانت الهدنة، ووُضِعت الحرب، وأمِنَ الناس بعضُهم بعضاً، فلم يُكلَّم أحدٌ بالإسلام يَعقِلُ شيئاً إلا دخل فيه، ولقد دخل في تِينك السنتَيْن مثلُ مَن كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر] (سيرة ابن هشام ج3 ص25). ودليل ذلك، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في السنة السادسة للهجرة إلى الحديبية بألفٍ وأربع مئةِ رجلٍ مجاهد، ثم خرج بعد سنتين اثنتين فحسب لفتح مكة (بعد نقض المشركين المعاهدة)، أي في السنة الثامنة للهجرة.. خرج في عشرةِ آلاف رجلٍ مجاهد، أي بأكثر من سبعة أضعاف عددهم يوم الحديبية!..

2- وخلال هاتين السنتين فُتِحَت خيبر وقُضِيَ على أعظم قوةٍ لليهود آنئذٍ في الجزيرة العربية وآخرها، وتمّت عُمرة القضاء التي أفقدت قريشاً هيبتها، ووقعت غزوة مؤتة التي أرهبت الروم، وأُرسِلَت السرايا، وتَمّت مُكَاتبة ملوك الأرض، لدعوتهم إلى الإسلام ودين الحق!..

3- بعد سنتين من معاهدة الحديبية، نقض المشركون تلك المعاهدة، وفُتِحَت مكةُ من غير إراقة دماء، وتحقَّق للمسلمين المؤمنين المجاهدين الأطهار أعظم مما أمِلوه: إذ عادوا إلى وطنهم، وانضمّ المستضعَفون إليهم ينعمون بإخوانهم وأهليهم، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، بعد أن زالت العقبة الكأداء من أمامهم (عقبة قريش)، وعادت حاضرة العرب (مكة) إلى المسلمين، وأصبحت قِبلة المسلمين بأيديهم، يُقيمون عندها شعائرَ الحج والعمرة.. وهكذا، انتهى عَقْدُ الصلح بين المسلمين والمشركين بعد سنتين فحسب، وليس بعد عشر سنوات كما كان مقرَّراً، لأن قريشاً نقضت العهد كما ذكرنا!.. وبهذا، تبيَّن للمسلمين جميعاً، أنّ الجهاد المثمر كان صلح الحديبية أولاً، ثم فتح مكة من غير إراقة الدماء ثانياً، لا الجهاد الذي أحبّوه وأرادوه واستعجلوه، وهو فتح مكة بالحرب وإراقة شلالاتٍ غزيرةٍ من الدماء!..

*     *     *

إنه الجهاد المثمر المُنتِج، الذي ينبغي على الداعية المسلم أو ابن الحركة الإسلامية أن يمارسَه، ولو كرهته نفسه، لأنّ الخير فيه، ولا خير في سواه.

ولنا لقاء ثانٍ بإذن الله، نُحَلِّل فيه غزوة تبوك، وما سبقها وما تَبِعَها من أحداثٍ مهمة، لنوضّح هذه القضية بجلاء.. قضية الجهاد المثمر الذي ينبغي للداعية المسلم أو لابن الحركة الإسلامية أن يلتزمَ به، ولو كانت نفسه تكرهه أو لا تفضّله أو لا تميل إليه!..

                

*عضو مؤسِّس في رابطة أدباء الشام