الحنين والشوق إلى الوطن
البراء كحيل
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده ثمّ أمّا بعد :
لقد خلق الله الانسان وجعله يتكيف مع جميع المجتمعات والثقافات فالانسان كائنٌ قابل للتكيف والتآلف والالتحام بمجتمع غريبٍ عن مجتمعه وهو مخلوقٌ قادرٌ على أن يحيا في أي بقعةٍ من بقاع الأرض ولو كانت تلك البقعة بعيدةً عن موطنه ومختلفة في جميع الأمور عنه وهذا من فضل الله على الانسان فلو كان الانسان غير قادر إلاّ على العيش مع المجتمع المحيط به لكانت من المصائب الكبيرة التي تجعل تبادل الثقافات والحضارات أمراً عسيراً ولكان تواصل الشعوب مع بعضها من المستحيلات لكن بفضل الله وكرمه جعل هذا المخلوق البشري قادراً على استقبال جميع الحضارات والثقافات فهو يعطيها ويأخذ منها وهكذا تآلفت الشعوب وامتزجت الحضارات ورأينا أنّ هجر الأوطان بدأ منذ فجر خلق هذا الانسان فنحن نعلم أنّ الجنّة هي دارنا الأولى أغوى ابليس أب البشر أدم للخروج منها فهجر الجنّة الموطن الأول لبني البشر ونزل الأرض لكي يعمرها وتكون مسكنه الجديد وهكذا جرت سنة الله في خلقه في البشر عبر تواصل العصور والدهور
بل إنّ الله أمر عباده بالهجرة وهجر بلاد الشرك والمعاصي وذمَ من بقي وأقام فيها فقال الله :
( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً ) النساء/97 .
وقد أمر الله عباده الذين يجدون الضنك والعذاب في بلادهم بهجر تلك البلاد حتى يفتح الله لهم أبواب الرحمات والبركات فقال عزّ من قائل :
( وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ) النساء/100 .
وقال الله مادحاً ومثنياً على من هاجر في سبيل الله :
( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) الأنفال/74.
إذاً نرى أنّ الهجرة موجودة منذ وجود الانسان ولهذه الهجرة أنواعٌ مختلفة فهناك من يهجر وطنه وأرضه لله ولأجل الفرار بدينه أو لأجل نشر دين الله في الأرض وهناك من يهجر وطنه لأجل الرزق ومنهم من يهجره لأسباب أخرى
لكن مهما طال الهجر ومهما طال الفراق ومهما أعجبت ذلك المغترب الغربة ووطن الغربة سيبقى يحنّ ويشتاق إلى وطنه ومسقط رأسه وهذه فطرةٌ فطر الله النّاس عليها فمن تابع قصص التاريخ منذ فجره الأول سيجد أنّ كلّ من هجر وطنه وسافر بعيداً عنه يحنّ إلى ذلك الوطن الذي ولد وترعرع فيه وقضى فيه أيامه الأولى .
بل لقد قال صلى الله عليه وسلّم وهو يغادر مكة مهاجراً إلى المدينة مخاطباً مكة المكرمة ( والله إنّك لأحب بقاع الأرض إلي ولولا أنّ قومك أخرجوني منك ما خرجت )
نعم إنّ الانسان قادر على أن يتكيف ويتآلف مع أي مجتمع ومحيط يعيش فيه لكن هذا لا يعني أنّه قادرٌ على نسيان وطنه الذي يشغله عن كلّ شاغل ويجعله يفكر فيه في كل ساعة من ليل أو نهار وتجده يرتقب كلّ خبرٍ عنه ويسأل الغاديَ والرائح عن أخبار ذلك الوطن العزيز الغالي ويحلم به في كلّ ليلة .
لقد أبدع الشعراء في كتابة الشعر بجميع ألوانه وفنونه الهجاء والرثاء والغزل والمديح لكنّ أروع أنواع الشعر هو ذلك الشعر الذي يتحدث عن ألم الغربة والشوق إلى الوطن والحنين إليه .
هي فطرة الله لا يمكن لأي بشر أن يغيرها وحتى لو كان بلد الغربة أفضل من الوطن بألف مرة فسيبقى الحنين دوماً لذلك الوطن الغالي والشوق إلى ربوعه الجميلة والتي هي بنظر المهاجر والمغترب أحلى وأجمل من كل حضارات الأرض
فهذه ميسون زوج معاوية رضي الله عنه بعد أن نقلها من عيشة البدو والصحراء إلى قصر الحمراء بدمشق تراها تحنّ إلى حياتها الأولى حيث البداوة والصحراء وتنشد قائلة :
لـبـيـت تخفق الأرياح ولـبـس عـباءة وتقر عيني وأصـوات الـرياح بكل فج خشونة عيشتي في البدو أشهى | فيهأحـب إلـيّ من قصر منيف أحـب إليّ من لبس الشفوف أحـب إلـيّ من نقر الدفوف إلى نفسي من العيش الظريف |
بل لقد وصل الحد ببعض الشعراء إلى أن قال :
وطني لو شغلت بالخلد عنه نازعتني إليه بالخلد نفسي
إنّ المغترب عن بلاده والبعيد عنها ليتمنى كلّ يوم أن تكتحل عيناه برؤية هذا الوطن البعيد عنه بعد الجسد والساكن في قلبه ووجدانه بل مهما طال به المقام والعمر خارج وطنه يتمنى لو يدفن في أرض الوطن لأنّها أحنّ عليه من بلاد الغربة المؤلمة .
لقد قال الشاعر :
كم منزل في الأرض يعشقه الفتى وحنينه أبداً لأول منزِل
فحتى لو كان المعنى للحب والعشق لكن يبقى المعنى العام أنّ الحنين دوماً لأول الديار ولملاعب الصبا فإننا نرى أجدادنا وآباءنا عندما يكبر بهم العمر يحنون إلى ديارهم الأولى ويتمنون العودة إليها والعيش في رباها .
إذا مهما طالت سنين الغربة ومهما كانت تلك البلاد مغرية وجذابة يبقى الانسان عاشقاً لوطنه محباً له فكيف إذا كان هذا الوطن هو الشام وما أدراك ما الشام وأرض الشام وأهل الشام .
إنني عاشق لأرض اللاذقية ومحب لها ومن عرف اللاذقية لن يقدر إلاّ أن يعشقها وصدق من قال :
أحبّ اللاذقية كم أود أموت فيها ثمّ أبعث من ثراها مرة أخرى وأحشر
نسأل الله العليّ القدير أن يردّ كل غائب إلى وطنه وكلّ بعيد عن أهله إليهم سالماً غانماً اللهمّ آمين.