حسن الخلق والتحبب (6)
من أساليب التربية النبوية
د.عثمان قدري مكانسي
(( الأرواح جنود مجندة ، ما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف )) .
ويزداد الإنسان بالإنسان تعارفاً إذا عامله بخلق حسن ، وتحبب إليه . وقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثال المسلم الخلوق ، حتى مدحه رب العزة فقال : (( وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ))(1) . كما مدح فيه لطف معشره وحسن أدبه مع الناس ، فاجتمعوا إليه وأخذوا عنه ، وجعلوه أسوتهم ، فقال : ((وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ))(2) ، فكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ مهوى أفئدة من عرفه ، يفدونه بأرواحهم ، ويفضلونه على آبائهم وأولادهم .
وبحسن الخلق دخل عقولهم وقلوبهم ، فصنع منهم سادة الأمم وقادتها .
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت : (( . . . وما انتقم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله تعالى فينتقم لله عز وجل ))(3) .
وكان إذا رأى خطأ من أحد أصحابه نبهه بلطف دون أن يجبهه ، فيعمّم . عن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا ينبغي للمؤمن أن يكون لعاناً ))(4) .
فالمسلم داعية ، والداعية ذو أخلاق ، والمدعو يرى الداعية ويقوّمه بما يفعل وما يصدر عنه من تصرف قبل أن يأخذ عنه ، حتى إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا أساء إليه أحد عفا عنه ، وإذا شتمه يهودي رد عليه بما يناسب دون أن يفحش .
روت عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن يهوداً أتـَوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالوا : السام عليكم(5) . ( أي إنهم كانوا يدعون على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالموت ) .
فقالت عائشة وهي الزوج المحب لزوجها ، الصبية المندفعة غير المتروية ـ فقد كانت في الرابعة عشرة أو أقل ـ : وعليكم ، ولعنكم الله ، وغضب عليكم .
( إنه رد منفعل يوضح مدى التأثر الذي أصابها من اليهود حين سمعتهم يدعون على رسول الله جهاراً نهاراً بحجة أنهم يسلمون عليه ) .
فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : مهلاً يا عائشة ، عليك بالرفق ، وإياك والعنف والفحش ( جواب يدل على سمو في الأخلاق ، وترفع عن السفاسف ، وتحمل في سبيل الدعوة ، وهذا يغيظ الشاتم ويقلقه ، فالمشتوم أهمله ، ولم يرد عليه بعنف يوحي بانفعال وتحرق ).
قالت : أولم تسمع ما قالوا ؟! . . ( سؤال لم تطلب عائشة الإجابة عليه ، إنما أرادت الدفاع عن موقفها ، فقد ردت عليهم بمثل ما قالوا ).
قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أو لم تسمعي ما قلت ؟! . . ( وقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رد عليهم بقوله : (( وعليكم )) فكلامهم مردود عليهم والموت لهم . فكان جوابه لها بصيغة السؤال نفسه الذي لا يحتاج لجواب ، بل يحتاج أن تنتبه عائشة إلى معناه وفحواه . . ) ردَدْتُ عليهم فيستجاب لي فيهم ، ولا يستجاب لهم فيّ (6) .
( فهو حبيب الله ورسوله يحميه ويدافع عنه ، واليهود أعداء الله لعنهم وغضب عليهم ، فدعاؤهم على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يستجاب ، ودعاؤه عليهم مستجاب . . فالويل لهم ثم الويل لهم ) .
أدب عظيم يعلمُناه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ويجمل بنا أن نتمثله ونحياه .
ومن التحبب الذي يؤتي ثماره سريعاً : إشعار المخاطب أنه عندك ذو مكانة ، وأن له في قلبك وداً وإكراماً ، فإذا شعر بهذا اطمأن ، فكان إليك قريباً وإلى دعوتك مجيباً . وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بارعاً في هذا المضمار :
فقد كان يُردف بعض أصحابه وراءه في سفره ، كما فعل مع معاذ بن جبل وعبد الله بن عباس وأسامة بن زيد ـ رضي الله عنهم جميعاً ـ وكان يطلب من أصحابه أن يدعوا له فهو بحاجة إلى دعائهم ، كما كان يخص بعضهم الآخر بلفتة كريمة منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ويلقبهم بالألقاب الكريمة أو الكنى الطيبة : ( الصدّيق ، الفاروق ، أمين الأمة ، سيف الله . . ) وكان يدعو لبعضهم بالخير . . و يؤثر الآخرين بشيء يحبونه . . وهكذا .
فعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال : أخذ رسول الله بمنكِبَيَّ فقال : (( كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ))(7) .
تصوروا معي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدني عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ إليه ، ، ويستقبله بوجهه ، ويمسك منكبيه تحبباً ، وهو الفتى الشاب . . فيرى ذلك من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عظيماً لا ينساه ، ولقد عُرِفَ عن ابن عمر أنه كان يمشي في المكان الذي كان رسول الله يمشي فيه ، ويتوقف في المكان الذي توقف فيه ، ويصلي في المكان الذي صلى فيه . . أليس هذا من حسن أخلاق سيد الدعاة ؟!! ألم يثمر هديه العملي في أصحابه ، حتى إن أبا سفيان قال في جاهليته : لقد رأيت هرقل في أصحابه ، وكسرى في أصحابه ، فلم أجد أحداً يُعظّم أحداً كتعظيم أصحابِ محمد محمداً ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم .
إنك إن مدحت إنساناً مسْلِماً بما فيه فقد استفدت أموراً عدة :
أولها : أنك ترفع من قدره ، وتشعره بمكانته عندك .
ثانيها : أنك تجعل بينك وبينه وداً ورباطاً من الأخوة والمحبة .
ثالثها : أنك تدفعه إلى التمسك بما فيه من خصال حميدة مدحته عليها .
رابعها : أنك تحثه على الاستزادة من هذه الشمائل .
خامسها : أنه ينجذب إليك وترتاح نفسك لسماعك ومعاشرتك والأخذ عنك . وهذا ما يريده الداعية المسلم من المدعو فتصل التربية والأفكار إلى قلبه وعقله دون عائق ، فيكون لك طيّعاً منقاداً . . وأنت تريد له الخير وتحرص عليه . ( على أن يكون مدحك له بما فيه ، وإلا كان نفاقاً ـ نعوذ بالله من ذلك ـ ) . وقديماً قال الشاعر :
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبدَ الإنسانَ إحسانُ
عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأشجِّ عبد القيس :
(( إن فيك خصلتين يحبهما الله : الحلم ، والأناة ))(8) .
كما أنك حين تخبر أخاك أنك تحبه ، يحبك ويقبل عليك ، ويفتح قلبه لك ، وهذا ما يريده الداعية من الناس : حبٌّ وودٌ وراحة نفس وإقبالٌ . فقد روى المقدام بن معدي كرب قال :
قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إذا أحب أحدكم أخاه فليعلمه أنه يحبه ))(9) .
فلا يكون الود وداً من طرفٍ واحد .
ولن تكون العلاقة من جهة واحدة علاقة .
وسيظل الطرف الآخر يجهل نواياك تجاهه ، وتقديرك له ، وحبك اياه ، ( على أساس أنه في الله تعالى ) . إلا أن توضح ذلك فيتبادل الطرفان المحبة في الله فيكون رباط الأخوّة متين العرى مكين الأركان .
(1) سورة القلم : الآية / 4 / .
(2) سورة آل عمران : الآية / 159 / .
(3) رواه البخاري في الأدب المفرد ، الحديث / 274 / ، ومسلم في صحيحه .
(4) رواه الترمذي والحاكم ، والبخاري في الأدب المفرد ، الحديث / 310 / .
(5) السام : الموت .
(6) رواه البخاري في الأدب المفرد ، الحديث / 312 / ، ومسلم والترمذي وابن ماجه والنسائي .
(7) من رياض الصالحين الحديث / 469 / عن البخاري .
(8) الأناة : التثبت ، وترك العجلة . رواه مسلم : رياض الصالحين الحديث / 630 / .
(9) البخاري في الأدب المفرد ، الحديث / 542 / .