معجزة الإسراء والمعراج
فياض العبسو
قال الله تعالى :
( سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد االاقصى الذي باركنا حوله لنريه من ءاياتنا إنه هو السميع البصير).
تبدأ السورة بتسبيح الله وتنزيهه أليق حركة نفسية تتسق مع جو الإسراء اللطيف..
فسبحان الله لكل عجيبة.. لم يقل محمد صلى الله عليه وسلم أنا سريت.. حتى تقول له قريش:
نذهب شهراً ونرجع شهراً.. وإنما قال أسري بي.. ومن الذي أسرى به؟ إنه الله العلي القدير..
الذي ليس لقدرته حدود.. ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء..إنما أمره لشيء إذا أراده :
أن يقول له كن فيكون.. فالله أسرى بعبده..ولم يقل بروح عبده.. وكلمة العبد تطلق على الروح والجسد معاً.. فالإسراء كان يقظة لا مناماً و بالروح والجسد وفي جزء من الليل وكذلك كان المعراج .. ولذلك أنكرت عليه قريش عندما أخبرهم بالإسراء .. ولو كان بالروح فقط لما أنكرت عليه.. لأن أي إنسان يرى رؤيا منامية.. مهما كانت غريبة وعجيبة وبعيدة .. ولا أحد ينكر عليه.. ولذلك فإن الذي ينكر الإسراء ، فهو كافر وجاحد ، لأنه أنكر سورة من القرآن ، سميت باسم هذه المعجزة ( سورة الإسراء )
وقال بعبده ولم يقل برسوله أو نبيه.. لأن مقام العبودية مقام عظيم ورفيع..وصف الله به نبيه ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم في كثير من الآيات القرآنية..
كقوله تعالى:
( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً)..
وقال سيدنا على رضي الله عنه مخاطباً رب العزة والجلال:
كفاني فخراً أن تكون لي رباً.. وكفاني عزاً أن أكون لك عبداً
وقال الشاعر:
ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبياً
متى كان الإسراء؟
ليلاً.. لماذا قال ليلاً مع أن الإسراء يحمل زمنه معه.. فالإسراء في اللغة هو السير
ليلاً.. ولا يكون الإسراء إلا في الليل..كقوله تعالى مخاطباً لوطاً عليه السلام:
( فأسر بأهلك بقطع من الليل..)..
وقال ليلاً ولم يقل في الليل.. نكر الليل ، والنكرة للتقليل ، ليدل على أن الإسراء كان في جزء من الليل.. ولم يستغرق الليل كله..
ومن أين كانت البداية والمنطلق؟
من مسجد إلى مسجد.. من حرم إلى حرم..
كما قال البوصيري :
سريت من حرم ليلاً إلى حرم كما سرى البدر في داج من الظلم
وبت ترقى إلى أن نلت منزلة من قاب قوسين لم تدرك ولم ترم
فالإسراء هو السير ليلاً من المسجد الحرام في مكة المكرمة( أم القرى)..
إلى المسجد الأقصى المبارك بمدينة القدس الشريف.. فك الله أسره.. فهو رحلة أرضية.. ولماذا إلى هذا المسجد بالذات؟ ليربط مابين المسجدين برباط وثيق ومتين.. فكما يجب الحفاظ والدفاع عن المسجد
الحرام.. كذلك يجب الحفاظ والدفاع عن المسجد الأقصى..لأنه أولى القبلتين.. وثالث الحرمين الشريفين.. ومسرى سيد المرسلين.. وأرض المحشر والمنشر.. وبلد الطائفة المنصورة.. وثاني مسجد بني على وجه الأرض.. بعد المسجد الحرام بأربعين سنة.. ومهد النبوات والحضارات.. فمعظم الأنبياء انطلقوا في دعوتهم إلى الله من المسجد الأقصى.. ودفن كثير من الأنبياء والمرسلين في أرضه.. وبارك الله فيه وفيما حوله بركات دينية ودنيوية ... فبلاد الشام بلاد مباركة ... وفي الحديث الشريف:
" اللهم بارك في شامنا وفي يمننا " ...
لقد جمع الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم الأنبياء والرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام
في المسجد الأقصى ليلة الإسراء والمعراج ليصلي بهم إماماً.. فهو إمام المرسلين وخاتم النبيين وشريعته خاتمة الشرائع السماوية السابقة وناسخة لها.. فلا نبي بعده ولا رسول.. ولا كتاب بعد القرآن الكريم .. معجزته الكبرى الخالدة.. معجزة المعجزات.. المعصوم والمحفوظ من كل عيب أو خطا
أو تحريف أو تغيير أو تبديل أو زيادة أو نقصان.. الذي تكفل الله بحفظه على مر الدهور والعصور..
فقال تعالى:( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون).. وتحدى الله به الإنس والجن.. على أن يأتوا بمثله.. أو بعشر سور من مثله.. أو بسورة من مثله.. فعجزوا.. وأعلنوا عجزهم واستسلامهم..
ومهما حاول أعداء الإسلام النيل من هذا الكتاب المقدس والدين الحنيف ، ونبي الإسلام العظيم ..
فإن الله لهم بالمرصاد.. ( ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون)..
حاولوا أن يتلاعبوا ببعض ألفاظ القرآن.. وألفوا قرآناً جديداً.. سموه فرقان الحق.. ونحن نسميه فرقان الباطل..هو كقرآن مسيلمة الكذاب. يدعو للضحك والاستغراب.. وقد ألفه دجال كذاب ، ويخالف كتاب رب الأرباب ، الملك الوهاب ... ( ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) ..
لقد كانت معجزة الإسراء والمعراج..تكريماً وتعظيماً وتشريفاً للنبي صلى الله عليه وسلم.. فقد جاءت بعد معاناة وسلسلة من الأحزان مرت بالنبي صلوات الله وسلامه عليه.. ليخفف الله عنه ذلك.. وليطلعه على العالم العلوي.. وليريه من ملكوت السموات والأرض.. وكأن الله يقول له: يا حبيبي يا محمد إذا كان أهل الأرض يعذبونك ولا يستقبلونك ، فإن أبواب السموات ومن فيها ييستقبلونك ويرحبون بك .. وإذا كان الناس لا يؤمنون بك ، فقد أرسلت إليك نفراً وطائفة من الجن ليؤمنوا بك ...
وإذا كان رواد الفضاء يفتخرون بصعودهم إلى القمر والمريخ ... فإن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم قد ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير ... إلى ما بعد السموات السبع وما فوقهن ... ورأى الأنبياء والملائكة ، والجنة والنار ، وتجلى الله عليه هناك ، حيث لا هناك هناك ... وكلمه بلا واسطة أو ترجمان
فلقد كان الإسراء والمعراج معجزة ، والمعجزة أمر خارق للعادة.. يؤيد الله بها أنبياءه ورسله تصديقاً لهم في دعواهم النبوة والرسالة.وكأن الله يقول:{ صدق عبدي فيما يبلغ عني}.. فالمعجزة هي الفيصل بين النبي والمدعي.. ولولا المعجزات لادعى كثير من الناس النبوة.
وقدم رفيق الرحلة جبريل عليه السلام هدية الإسراء للحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام..
وكانت كوباً من الخمر .. وكوباً من اللبن.. فاختار النبي صلى الله عليه وسلم بفطرته الصافية النقية.. (اللبن) فقال له جبريل عليه السلام: لقد اخترت الفطرة يارسول الله.. وهديت الفطرة.. وهديت أمتك..
ولو اخترت الخمر.. لغوت أمتك.. فاللبن دليل الفطرة وغذاء للبدن..
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أكل طعاماً يقول:" اللهم بارك لنا فيه وارزقنا خيراً منه.. أما إذا شرب اللبن فكان يقول:" اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه.. واللبن يقوم بخاصية الإرواء والإشباع.. والإسلام وازن بين مطالب الروح والجسد.. وأعطى كل ذي حق حقه.... فدين الإسلام دين الفطرة والعقل السليم المنصف، ودين الواقعية والمثالية والشمولية والوسطية.. ودين التوحيد الخالص .. ودين النظام والنظافة والحرية.. ودين الرحمة والمحبة والتسامح والسلام..
ودين العدل و المساواة وحقوق الإنسان.. شمل بعدله ورحمته وإنسانيته الإنسان و الحيوان..
وأما المعراج:
فهو الصعود من المسجد الأقصى إلى السموات العلا .. فهو رحلة سماوية..
وسياحة في عالم الملكوت.. رحلة من الصحراء إلى السماء.. رحلة التشريف والتكريم ...
إلى أن وصل مقاماً سمع فيه صرير الأقلام..وتأخر عنه جبريل.. فقال له صلى الله عليه وسلم:
" أههنا يترك الخليل خليله؟ فقال له جبريل: إنني إذا تقدمت احترقت.. أما أنت إذا تقدمت اخترقت..
( وما منا إلا له مقام معلوم)..
في الإسراء .. قال الله: ( لنريه من ءاياتنا ) أما في المعراج فقد قال الله تعالى: ( لقد رأى من ءايات ربه الكبرى ) .. مما يدل على أنه قد أعد وهيىء لذلك .. حينما غسل جبريل وميكائيل عليهما السلام قلبه بماء زمزم .. في طشت من ذهب... لقد تحمل أكثر مما تحمله جبريل وموسى عليهما السلام ... فجبريل تأخر ومحمد تقدم ... ( وخر موسى صعقاً ).. ومحمد ثبت ( ما كذب الفؤاد ما رأى )
و( ما زاغ البصر وما طغى ) ، ولو تجلى عليه في الأرض لدكت الأرض دكاً ، كما حصل لجبل الطور ..
وقيل كل نبي عند رتبته ويا محمد هذا العرش فاستلم
فوق البساط دنا ونودي باسمه دس يا محمد لا تخف إرعابا
أنت الحبيب ومن يطعك أطاعني يا أفصح الخلق الجميع خطابا
وكانت هدية المعراج .. الصلاة.. و"الصلاة صلة العبد بربه".. والصلاة معراج المؤمن..
والصلاة عمود الدين .. وركنه الركين.. والصلاة نور.. وشفاء ومناجاة ودعاء ..
يقول البوصيري رحمه الله:
يا صاحب المعراج فوق المنتهى لك وحدك المعراج والإسراء
يا واصف الأقصى أتيت بوصفه وكأنك الرسام والبناء
أعطيت فضلاً لا يتاح لمرسل والله يعطي الفضل كيف يشاء
وقال غيره:
ويا من خص أحمد واصطفاه وأعطاه الرسالة والكتابا
وقربه وسماه حبيباً وأعتق بشفاعته الرقابا
ويقول الشاعر الكبير يوسف عبيد رحمه الله تعالى:
الـشـعر من خجل ماذا أقول بموكب الإسراء مـات الـبـيان العبقري وتـلـعثم الوتر الجريح أيـن الـرياض وزهرها والـطـير يزجي اللحن يـا نـفـحـة ريا الشذا وروائـعـاً يـشـدو بها وقع السهام بصدر جيش إن خـر للأصنام ناحتها فـلأحـمـد فوق الطلول قـم يـا مـحمد فالطباق وبـذكـر مقدمك الملائك والـقدس نرجعها ورمس هـل يـقـبر الإسلام لا | تعثروالـدمع من يأس مـن شـعـر يـسـطر بـه ومـاتت جن عبقر بـلـحـنـه عياً وأقصر وأريـجها العبق المعطر مـن أغلال آسره تحرر مـن شعر عبد الله تنشر حـسان كالأسياف تشهر الـكفر أو طعنات خنجر ورب الـعـرش يـكفر إلـى رحاب القدس معبر الـسـبـع والدنيا تنور فـي سـمـاء العز تفخر الـمـعـتدين بها سيحفر بـل شانيء الإسلام يقبر | تحجر
( إنا أعطيناك الكوثر * فصل لربك وانحر * إن شانئك هو الأبتر * )
وصلاة وسلاماً على صاحب الإسراء والمعراج .. سيدنا محمد ، السراج الوهاج ، القمر المنير ، والهادي البشير ، والرحمة المهداة ، والنعمة المسداة ، وأستاذ الحياة ، ومعلم الناس الخير ،
ونبي الرحمة والملحمة ، المبعوث رحمة للعالمين .