قل للبلاغة غضي الطرف واحتشمي
قل للبلاغة غضي الطرف واحتشمي
فذكر حبيبي محمد يعلو هامة الكلم
الأدب الروحاني المُغَيّب في الأدب العربي
أ. تحسين يحيى حسن أبو عاصي
– غزة فلسطين –
قبل ان أبدأ مقالي هذا أود أن أُذكر بأن الكثير من الأدباء والكتاب والمفكرين قد أغنوا الأدب العربي بكل ألوانه و فروعه بحثا وإبداعا ، ولكنهم غضوا الطرف عن التاج المرصع فخرا ، تاج الآداب بأسرها ، تاج علوم الأدب الروحاني ......
وعلى عجالة من الأمر، وبعيدا عن التشريح الذي يطول به المقام والمقال ، أُعطي لمحة مختصرة تتعلق بالأدب المظلوم المُغيّب ، ألا وهو الأدب الروحاني ( إن جازت لي التسمية) ، وهو الذي يتعلق في لب ثمرة الفكر الديني في إشراقته وصفائه ، وليس فقط في لبه وجوهره ، وأنا أعي ما أقول تماما بالأدلة والبراهين .....
ربما تحتاج بعض العبارات هنا إلى الشرح والتحليل ، لكنني أود ان اترك هذا المجال لكل متعطش يبحث عن الحقيقة ؛ لأن هذا اللون الأدبي يتعلق في علم الحقائق الشفافة المستورة برداء عفتها وحيائها ، لا يكشفه إلا من كان أهلا لذاك .....
فالأدب الروحاني هو أدب يتعلق بسلوك الروح مع ربها ومولاها ، في حقول وميادين التخلي ثم التحلي على مستوى العقل والقلب ، من كل شوائب السِّوى والأغيار من دون الله سبحانه وتعالى .
التحلي يالأردِية والحُلل التي يخلعها الحق سبحانه وتعالى على من يختص برحمته من أحبابه ، وأصفيائه المجتبين ، فمن ذاق عرف ، فلا تلمني أيها الخالي العزول .
الأدب الروحاني هو معاني مباني الألفاظ في عوالمها المطلقة غير المقيدة ، ميادينها التجربة والغوص في بحار معانيها، مستكشفا دُرها ولآلئها وكنوزها ، ولا يتمكن من الغوص في بحارها إلا من كان سبّاحا ماهرا ، فالغريق إنما يغرق بسبب عدم علمه بقوانين السباحة والغوص ....
الأدب الروحاني هو مذاق بكل ما تعني هذه الكلمة من مدلولات ، وهو مشرب بكا ما تعني هذه الكامة من مواصفات ، مذاق ومشرب وحس وإدراك ووجدان ومعرفة وفهم وعلم وحب ، وكلها مرادفات متعلقة في عالم الروح ، تدفع المبحرين إلى بيع النفس والمال لله رب العالمين ، بيع المستجدي المتمني الراغب الفائز ، لذلك فهو يشتري النفيس بالثمن الرخيص ، يشتري الآخرة بالدنيا ، ويشتري ليتذوق من معين شراب ذلك الصفاء الأبدي الأزلي السرمدي الأول . عندئذ تدرك حقيقة من أنت ؟ .
*** *** *** ***
الحمد لله رب العالمين ، المتجلي في مرائي خلقه لبصائر قلوب الناظرين ، الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، حمد نفسه بنفسه ، وسبح نفسه بنفسه ، وأثنى على نفسه بنفسه ، وهو الغني عن خلقه ، من اهتدى إليه ثم عرفه دخل حصن الحب والرضى ، وفاز بالقرب والمنى ، له الحمد كل الحمد ، وله الفضل كل الفضل ، فهو الظاهر ليس فوقه شيء ، والباطن ليس دونه شيء ، وهو الأول ليس قبله شيء ، وهو الآخر ليس بعده شيء ، وسع كرسيه السماوات والأرض سعة وجود وإحاطة وحكمة ومعرفة ، وسعة علمه ، وسعة ما غير ذلك ما الله أعلم به .....
الحمد لله الذي جعل الأكوان محطات صفاته وآثاره ، وجعل قلوب العارفين مخازن أنواره وحكمه و علومه وأسراره ، فما ثمَّ في هذا الوجود فاعلا إلا الله تعالى ، المحيط بكل شيء ، عليم بكل شيء ، بيده ناصية كل شيء ، فأين تذهب منه أيها الضعيف بجبروتك والفقير بغناك والجاهل بعلمك ، وليس لك والله من دونه ناصرا ولا مؤيدا ومعينا؟ .
اللهم صلي وسلم وبارك على محمد وعلى آل محمد صلاة تقر بها أرواحنا يوم لقائك ، وتفرح بها قلوينا في خلواتنا وجلواتنا إليك .
اللهم صلي وسلم وبارك على محمد وعلى آل محمد صلاة تجمع بها قلوبنا على قلبه الشريف ، وتكرمنا بنوره ، وترزقنا حبه وشفاعته .
اللهم صلي وسلم وبارك على محمد وعلى آل محمد صلاة تورثنا بها أسرار الحب والصفاء والإخلاص والتوحيد ومعرفتك والثناء عليك .....
أيها الفقير إلى الله : إن القريب إذا اقترب من حبيبه واختلا به أفاض عليه بأسراره وبأنواره وبعلومه ، منَّا منه وتكرما وتفضلا ، وأغدق عليه من مواهب إنعامه ، ومن حلل أوليائه ما لا تخطه مقالة ولا تحيط به إشارة ، ولا يسعها عبارة ، فعلمه سبحانه علم محفوظ مصان ، لا يعلمه غير أهله وإن بُعثِر وفاح عطره ، فافهم المعنى المُعنَّى يا مَن مَعْنى .
أخي الفقير إلى الله اعلم يرحمك الله أن العلم علمان ، مكتسب وموهوب ، فالمكتسب هو ما تم ميراثه عن النقل ، فلان عن فلان ، وأما الموهوب فهو علم الهبة من الحق سبحانه ، هو علم اختصاص يختص برحمنه من يشاء وفوق كل ذي علم عليم .
طوبى لمن وقفوا بين يدي مولاهم متذللين لجيروته ، ومنكسرين لعظمته ، واقفين على أعتابه ، يطرقون أبوابه بدعاء الذل والمسكنة إليه بين يديه ، فأورثهم عزَّا ولذّة لو عرفها السلاطين والملوك لقاتلوهم عليها بحد السيوف .
ناجوا ربهم بالدجى ، واختلوا به والناس نيام حالهم يقول :
يارب يا رب : يختلي كل حبيب بحبيبه ، وها انا أختلي بك فلا تطرني خائبا ، ولا تردني على عقبي .
يارب : أقف على بابك مطروحا على أعتابك ، منكسر الفؤاد لجنابك ، فلا تطردني يا رب صفرا .
يارب : إن كنت لأحبابك فمن لمثلي ، وأنت الغني عني .
يارب إن كنت لأوليائك فمن لي ، وأنا عبدك المذنب المسيء .
يارب عظم كربي ، واشتد همي ، وحال بيني وبينك ذنبي .
يارب إن كانت ذنوبي أعظم من السماوات والأرض ، فعفوك يا مولاي أعظم .
يارب إن كنت للتائبين فمن للمذنبين أمثالي ، أسألك بدموع العائدين اليك ، وأسألك بآهات التائبين ، وبانين المستغفرين، أن تغفر لي وترحمني ، يا من سبقت رحمتك غضبك ، ويا من أنت أقرب إلينا من حبل الوريد ، ويا من قلت ادعوني أستجب لكم ، يا من تجيب المضطر إذا دعاك ، ها أنا أدعوك كما طلبت فاستجب لي كما وعدت .
يارب يا من لطفت بالأجنة في قوب امهاتها ، ولطفت بيونس في بطن الحوت .
يارب يا من رحمت يعقوب فردت عليه بصره ، ورحمت يوسف في الجب ، ورحمت محمدا وصحبه في الغار، ونجيته من أذى الكفار، ونجيت إبراهيم من النار، ونجيت موسى ونوح في البحار، ونجيت عيسى من أذى الكفار، ارحمني ونجني من ظلمات نفسي ، ومن أذى وشرور خلقك أجمعين .
يارب يا لطيفا لم تزل ألطف بنا فيما نزل أنت اللطيف لم تزل باللطف قد عودتنا .
فكشف لهم عن حجبه ما شاء الله لهم ، وناداهم بصوت القرب ، بلغة لا حرف فيها ولا سطر ولا لسان ، لغة حال ووجد وشرب ومذاق ، عبدي إنني أنا ربك إنني أنا الله فغشيهم ما غشيهم ، وأشرقت على قلوبهم شموس المعارف وأقمار التوحيد ، وأيدهم بتمكينه ، وخاض بهم بحرا مرهوبا لا ترسوا به قدم ، وقد شربوا من مائه شربة بغير فمٍ .
ومَنّ عليهم بقلوب لها عيون ترى ما لا يراه الناظرين ، وبأجنحة تطير إلى ملكوت رب العالمين ، فنظروا وعاينوا ،واغترفوا وشربوا ما فرش الله لهم من بُسُط الأُنس ، فمن جالس جانس ، فافهم المعنى ، ويا خالي الحشا لا تعنفنا .
جددوا بيعة النداء الأزلي الأول في عالم الذر : ألست بربكم ؟ قالوا بلا ... فنعمت .
أيها الفقير إلى الله : اعلم وفقك الله أن حديثي هذا حديث أرواح لا حديث عقول ، وأن أصحاب القلوب إذا وقفوا عند عقولهم حُجبوا ، وأن العقل هو آلة محفورة محدودة ، أنعمها الخالق علينا للقيام بأمور حياتنا وشريعتنا ، فاخرج من حجاب العقل إلى ما هو ورائه ، ولا يمكنك أن تخرج من تلقاء نفسك ، يل تخرج باستجدائك لربك ، ليعلمك من علمه المكنون المخزون ، فلقد نزل مطر السماء بدعاء عبد أسود في عصر خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، بينما لم ينزل مطر السماء في صلاة استسقاء عمر ورعيته ، فسبحان من أودع أسراره في قلوب من يشاء من أحبابه .
اعلم أخي الفقر الراجع إلى الله ، أن كل الأبواب للدخول على الله مزدحمة إلا باب الذل والانكسار، فهو فارغ ،فالقارعين على ياب الصلاة ، وباب الحج ، وباب الأمر بالمعروف والنهي عن المكنر، والجهاد في سبيل الله ، ممتلئة ونعمت كل تلك الأبواب ، وأما باب الانكسار إلى الله فهو باب قليل رواده ، فكن أخي من رواده ، فلا يقف عليه إلا من ناداه بلسان وده ، وسبق له منه حسن العناية - يحبهم ويحبونه - ثم تاب عليهم ليتوبوا -
فإن جرَّعك مولاك من كأس الذل في ليلة قدرٍ من ليالينا ، أو في يوم جمعة من أيام جمعنا ، فهنيئا لك حتى تبصر وتوقن ، أن كل ليلة من ليالينا هي ليلة القدر، وأن كل جمع لنا عيد ، وإياك أن تكن مع الذين صلّوا ولم يصلّوا ، وصاموا ولم يصوموا ، وحجوا ولم يحجوا ، وجاهدوا ولم يجاهدوا ، فما كان لله دام واتصل ، وما كان لغير الله انقطع وانفصل ، فالله طيب لا يقبل إلا طيبا ، وحاول أن تمت قبل أن تموت ؛ لكي تحيا قبل أن يحيا غيرك ، وحذاري من دروب النفس ومسالك الشيطان .
أخي السالك إلى الله اعلم أن الناس حجوا وقد بلغوا المنى ، وأنا حججت فما بلغت مرادي ، وأن خير المراد هو في حب من أهوى ، أسأله سبحانه أن يشربك من كؤوس معانينا ، واعلم أن للإيمان ترتيب ، وللعلوم وأهليها تجاريب ، فلا تكن من المنكرين الجاهلين ، فإذا أيقنت بذلك صرت تسمع بقلبك ما يأتيك عن ثقة ، وصرت تنظر بعقلك فالتمييز موهوب ، وإذا أسمعك الله النداء فاستجب فورا ، وإن جهلت معانيه ، فقد يأتيك النداء ليلا بدعوة من الجمع الأعظم ، فاحرص على أن لا يفوتك منه حظا ، وقد يأتيك النداء نهارا ، بل وأنت في عملك ، أو بين أهلك ، أو أصدقائك ، فاستبق الخيرات إلى الله مرجعك ومآبك ، وفي ذلك سر لطيف خفي لا يعقلها إلا العالمون وتعيها أذن واعية .
اعلم أن الصالحين في سبق الحب مع ربهم ، وهم في شرف ميدان التنافس في ذلك ، يتزاحمون ويتخطون الرقاب حبا وليس بعد الحب إلا الود ، فكل مزاحمة وتخطي سوء خلق ، إلا مزاحمة الجمع في وسط الدجى ، فحي على الصلاة حي على الفلاح .
أخي الحبيب والله إني أحبك في الله : عِش خلوتك مع ربك ، لا مع نفسك ، وأنت بين أهلك وجيرانك ، واعلم أن أهلك ليسوا أهلك ، بل إن أهلك من عاش قلبك معهم ، وطارت روحك إليهم ، تتخطى البقاع ، والأسقاع ن والكون ، والأكوان ، وقد ارتبط سرك بسرهم ، وهامت روحك بأرواحهم ، فهم الأهل والأحباب ، والخلان ، وهم الذين يجيبون النداء يوم القيامة كل حسب مقامه : فليقم المتحابون فيَّ ، وأهل المحشر ينظرون فإذا هم على منابر من نورن يعلوهم النور، في وجوههم النور، يغبطهم الناس ، ليسوا بشهداء ولا بأنبياء ، يسأل الناس : من هؤلاء ؟ فيُقال لهم : هؤلاء هم المتحابون في الله .
أخي السالك إلى ربك : إجعل همتك إلى الله ، واحزم أمتعتك ، وحط برحالك في حيّهم ، وقف على عرفاتهم ، وطف بهم لعلك تحظى بهم وتعرفهم ، ومفتاح ذلك كله هو الصلاة والسلام على الحبيب محمد ، واعلم إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية ، فعساك أن تشرب من شرابنا ، وتأكل من زادنا ، وتركب رحالنا ، واعلم أن الدنيا يومان لا ثالث لهما، يوم ممدوح ويوم منبوذ ، وأن العلم علمان لا ثالث لهما ، علم موهوب وعلم مكتسب ، وأن البحر بحران لا ثالث لهما، بحر مركوب وبحر مرهوب ، وخض بحرنا الذي لا ترسو به قدمٌ ، خاضته من قبل أرواح العارفين في الله وقلوبهم منه مرعوبة ومرجوفة ، واشرب من مائه شربة من غير فمٍ ، فالماء مذ كان في الأفواه مشروبٌ ( هذا ما تعلمناه على أيدي الصالحين ) .
فحبيبك محمد صلى الله عليه وسلم كانت له ساعة لا يسعه بها إلا ربه ، ولا يدخل عليه بها أحد حتى زوجاته رضي الله عنهن ، وهذا بعلمنا هو من أحد معاني علوم السنة المطهرة .
أخي الفقير السالك إلى ربك : جرد نفسك من عوالم الأشباح والأنفس ، والأكوان والسوى والأغيار، وحلق بروحك إلى مولاك ، وتسامى عن السموم وعوالم الحس المظلمة ، وكن من الذين اختار الله لهم ولم يختاروا هم لأنفسهم ، واعلم أن إشارات ذلك هي السكينة والرضى ، والأمن والطمأنينة ، ورقة القلب ، ودمعة العين ، وحلاوة اللسان بدوام ذكر مولاه ، وارض بما اختاره لك ، فإن اختارك الحق سبحانه داعيا إليه ، أو خادما لخلقه، أو مجاهدا في سبيله، أو متصدقا على عياله ، أو باحثا عن الأرملة واليتيم والمسكين ، فهذه أبواب فتحها الله إليك بتوفيق منه وفضل .
فأن وجدت خيرا ، وفتحت لك الأبواب ، ونوديت بنداءالاجتباء ، فاحمد الله على فضله وعطائه ، حينئذ أوصيك بالدعاء لي وللأمة وعدم الإلتفات ، وليكن همك وقصدك هو الحرم المكي لا غيره ، واستمر بانكسارك وبتوسلك إليه لا إلى غيره ، فذلك أقصر الطرق للوصول إليه سبحانه ، وهو المتعالي والمتنزه عن الأزمنة والأماكن والأوصاف . هذا وبالله التوفيق ومنه الخير والفضل والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آل محمد.