مع بلال بن سعد رحمه الله
*مع بلال بن سعد رحمه الله
أ.د/محمد أديب الصالح
رئيس تحرير مجلة حضارة الإسلام
ـ 1 ـ
هو واحد من الربانيين الذين شهد لهم كبار الرجال بعلو الكعب في عبادة الله والإخلاص في طاعته ، وقد بلغ من صدقه وعظيم استقامته أنك ترى في كلامه ومواعظه فيضاً من إرث النبوة ، وروحاً من روح القرآن الكريم . قال الأوزاعي رحمه الله :
كان بلال بن سعد من العبادة على شيء لم نسمع أحداً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم كان عليه .
وفي شأن بليغ قوله في النفوس وأثر مواعظه في القلوب يقول الأوزاعي أيضاً :
(سمعت بلال بن سعد ، ولم أسمع واعظاً أبلغ منه) .
أما عبد الله بن المبارك فيقول :
(كان محل بلال بن سعد بالشام ومصر كمحل الحسن بن أبي الحسن بالبصرة) .
وشأن الربانيين أن يكون عملهم ترجمان علمهم ، حدث الأوزاعي قال :
(هلك ابن بلال بالقسطنطينية ، فجاء رجل يدعي عليه بضعة وعشرين ديناراً ، فقال له بلال : ألك بينة ؟ قال : لا ، قال : كتاب ؟ قال : لا ، قال : فتحلف ؟ قال : نعم ، قال : فدخل منزله فأعطاه الدنانير وقال : إن كنت صادقاً فقد أديت عن ابني ، وإن كنت كاذباً فهي عليك صدقة).
وجاء في واحدة من مواعظه التي هي أشبه بجوامع الكلم قوله الصائب :
(لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى من عصيت؟).
وفي كلمات يذكر بها الغافلين ، ويوقظ من ألهتهم الدنيا بمتاعها وشهواتها قال فيما روى عنه عثمان بن مسلم :
(رب مسرور مغبون ، ورب مغبون لا يشعر، فويل لمن له الويل ولا يشعر، يأكل ويشرب ، ويضحك ويلعب ، وقد حق عليه في قضاء الله أنه من أهل النار.. فيا ويلاً لك روحاً ، ويا ويلاً لك جسداً ، فلتبك ، وليبك عليك البواكي طول الأبد).
ويتبدى حرصه ـ رحمه الله ـ على رد الجانحين إلى الطريق ، حين يذكر بسعة رحمة الله وكريم عفوه وحلمه وتقبله عن عباده التائبين فيقول :
(إن لكم رباً ليس إلى عقاب أحدكم بسريع ، يقيل العثرة ، ويقبل التوبة ، ويقبل من المقبل ، ويعطف على المدبر).
رحم الله بلال بن سعد وأسكنه الفردوس الأعلى في جنة الخلد يوم الدين .
ـ 2 ـ
ها نحن نتابع الرحلة مع بلال بن سعد وفاءً بما وعدنا في العدد الماضي لعل في ذلك ذكرى لمتذكر، فإن ما كان عليه هؤلاء الرجال صورة صادقة لما كانوا يدعون إليه من العمل بالعلم والزهادة في الدنيا والجهاد في سبيل الله وأن لا يخاف المؤمن في الله لومة لائم .
ها إن هذا الرجل يحدد لنا ـ كما روى عنه الأوزاعي ـ مفهوم الذكر فيجعله على نوعين : ذكر باللسان ، وأن يذكر الله عندما أحل وما حرم فيأخذ الحلال ويجتنب الحرام ،وذلك قوله :
(الذكر ذكران ؛ ذكر باللسان حسن جميل ، وذكر الله عندما أحل وحرم أفضل) .
ولو تنبه –لهذا- العامة من المسلمين لكانوا على خير كبير.
ومن هو الأخ الحقيقي عند بلال بن سعد ؟ قال الأوزاعي : سمعت بلال بن سعد يقول :
(أخ لك كلما لقيك ذكرك بحظك من الله خير لك من أخ كلما لقيك وضع في كفك ديناراً)
وتلك هي مقاييس أهل الإيمان !!
ولا تسأل عن صادق معرفته بربه عز وجل ، وحسن ظنه بجميل كرمه سبحانه يقول الأوزاعي رحمه الله :
(خرج الناس يستسقون وفيهم بلال بن سعد ، فقال : أيها الناس ألستم تقرون بالإساءة ؟
قالوا : نعم .
قال : اللهم إنك قلت :[ما على المحسنين من سبيل] وكل يقر لك بالإساءة فاغفر لنا واسقنا ،
قال : فسقوا)
ألا إنه ليس كثيراً على كرم الله سبحانه أن يجيب دعوة هذا الرجل الصادق الذي كانت دموعه الخاشعة بريد نجواه ، ومخافة الله ينبوع توجهه إلى مولاه:
[وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ..]
وليكون هناك عباد حقيقيون .. لابد من العبودية الحقة ...
وفي دعوة إلى إنصاف المظلوم ورحمة الضعيف ، والترهيب من تجاوز هذه الحدود يقول أجزل الله مثوبته :
(أيها الناس اتقوا الله فيمن لا ناصر له إلا الله).
وعلى صعيد الخشية من الله ونفاذ البصيرة في حقيقة عمل العبد بجانب رحمة الله ووافر نعمه على خلقه ، يقول الأوزاعي :
(ربما سمعت بلالاً يقول : لكأنا قوم لا يعقلون ، ولكأنا قوم لا يوقنون).
وحين ينظر هؤلاء الرجال في شيء من كتاب الله تجد في نظرهم وتفسيرهم شمول الرؤية والتصور الكامل لمعاني الآيات الكريمة مجتمعة ، وهذا من أهم الأمور التي تعوز الناظر في كتاب الله مفسراً مستنبطاً لمعانيه .
روى عبد الله بن المبارك عن الأوزاعي عن بلال بن سعد في قوله تعالى : [ولو ترى إذ وقفوا فلا فوت] قال : ذلك قوله تعالى : [يقول الإنسان يومئذ أين المفر] . وإنها للفتة تجمع بين أداة المفسر وإحساس صاحب البصيرة ..
هكذا يقف هؤلاء الربانيون من أمثال بلال بن سعد على المحجة التي ترك سيد الأنبياء أمته عليها ، فتراهم في قالهم وحالهم ، معادن خير في الانتصار على النفس ، وحسن الأحدوثة لما أنهم ـ بعد الإيمان ـ في تقوى الله ـ فرضي الله عنهم وأعلى مقامهم في الآخرين .
ـ 3 ـ
في فهم للأدب النبوي والأخلاق المحمدية التي يفترض بالمؤمن أن يطوع نفسه لتعيش في ظلها ، وتهتدي بنورها حدث الأوزاعي قال : سمعت بلال بن سعد يقول :
(إذا رأيت الرجل لجوجاً ممارياً معجباً برأيه فقد تمت خسارته)
ولكم استنكر النبي صلى الله عليه وسلم اللجاجة والمماراة والإعجاب بالرأي ، وأنذر من الوقوع فيها أو في واحدة منها ، والمتأسون به عليه الصلاة والسلام من بحر هديه يغترفون .
وبلال بن سعد ـ وهو من النصحة لهذه الأمة ـ يخشى على المسلم النفاق ، وأن يكون بين سريرته وعلانيته تخالف ، لأن ذلك بريد الهاوية والعياذ بالله ... يقول بلال وهو يخشى على أخيه المسلم ذلك :
(لا تكن ولياً لله في العلانية وعدوه في السر)
أوليس الله هو الذي يعلم السر وأخفى .. [ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون] .
اللهم اجعل سريرتنا أصلح من علانيتنا واجعل علانيتنا صالحة .
وعلى هذا الخط النوراني من ملاحظة القلب وأعماله يتأول بلال بن سعد قول الله تعالى :
[إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر]
فيقول ـ كما يروي الأوزاعي ـ رحمه الله : (إن أحدكم إذا لم تنهه صلاته عن ظلمه لم تزده صلاته عند الله إلا مقتاً)
فويل ثم ويل للظالمين يريدون أن يسحروا أعين الناس لتغمض عن ظلمهم وتراه غير ذلك ، فيقومون إلى الصلاة !!! فلا يزدادون بهذه الصلاة وهم مقيمون على الظلم والأذى إلا مقتاً عند الله .. وهذا من كريم عدله سبحانه وتعالى .
ولعل من الخير أن تعلم أن صاحبنا ـ رحمه الله ـ كان لا يتناول في بيانه للناس وإرشاده لهم جانباً ويدع جانباً آخر... وإنما هي النظرات الشاملة العميقة ، صنع العالم ألا ريب ، والناصح المربي في حرص على التذكير بالآخرة ، وإخلاص العمل لله عز وجل ، وحمل من ولاه الله هدايتهم إلى ساحة التخلق بأخلاق عباد الله المؤمنين الذين أثنى عليهم ـ سبحانه ـ في أكثر من موضع من كتابه . ها هو ذا يقول : (أما ما وكلكم به فتضيعون ، وأما ما تكفل لكم به فتطلبون ، ما هكذا نعت الله عباده المؤمنين !! أذوو عقول في طلب الدنيا ، وبُلْه عما خلقتم له ؟ فكما ترجون رحمة الله بما تؤدون من طاعة الله ، فكذلك أشفقوا من عقاب الله بما تنتهكون من معاصي الله) .
ذلكم هو التوازن فيما يجب أن يكون عليه سلوك المؤمن الذي يفهم عن الله ما أراد ، ويعمل على حسن التأسي بنبيه عليه الصلاة والسلام .
وانظروا إلى هذه الكلمات النابعة من القلب ، المثقلة بندى الصدق والخشية من الله ، المزدانة بروح العبودية لله المنعم المتفضل ، تلك العبودية التي لا ملاذ للمؤمن غيرها ، فعن عبد الرحمن بن أبي حوشب قال : سمعت بلال بن سعد يقول :
(أربع خصال جاريات عليكم من الرحمن مع ظلمكم أنفسكم وخطاياكم ، أما رزقه : فجارٍعليكم ، وأما رحمته : فغير محجوبة عنكم ، واما ستره فسابغ عليكم ، وأما عقابه : فلم يعجل لكم . ثم انتم على ذلك لاهون تجترئون على إلهكم ، أنتم تكلمون ويوشك الله تعالى يتكلم وتسكتون ، ثم يثور من أعمالكم دخان يسود منه الوجوه . فاتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ، عباد الرحمن لو غفرت لكم خطاياكم الماضية لكان فيما تستقبلون شغل ، ولو عملتم بما تعلمون لكنتم عباد الله حقاً).
وفي موعظة تكاد تشم من خلال كلماتها رائحة كبد مقروحة ملذوعة حباً لله وخشية من عقابه ، وتقرأ بين سطورها ما توحي به من صدق العزيمة والزهادة في الدنيا ، وعلو الهمة . يقول أجزل الله مثوبته :
(عباد الرحمن لو سلمتم من الخطايا فلم تعملوا فيما بينكم وبين الله خطيئة ، ولم تتركوا لله طاعة إلا جهدتم أنفسكم في أدائها إلا حبكم الدنيا لوسعكم ذلك شراً ، إلا أن يتجاوز الله ويعفو.
عباد الرحمن إنكم تعملون في أيام قصار لأيام طوال ، وفي دار زوال لدار مقام ، وفي دار نصب وحزن لدار نعيم وخلد ، ومن لم يعمل على اليقين فلا يغتر).
ويقول رحمه الله :
(عباد الرحمن هل جاءكم مخبر يخبركم أن شيئاً من أعمالكم تقبل منكم ، أو أن شيئاً من خطاياكم غفر لكم [أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون] والله لو عجل لكم الثواب في الدنيا لاستقللتم كل ما افترض عليكم ، أفترغبون في طاعة الله بتعجيل دنيا تفنى عن قريب ، ولا ترغبون في جنة [أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين آمنوا وعقبى الكافرين النار]
عباد الرحمن أشفقوا من الله ، واحذروا الله ولا تأمنوا مكره ، ولا تقنطوا من رحمته ، واعلموا أن لنعم الله عندكم ثمناً فلا تشقوا على أنفسكم،أتعملون عمل الله لثواب الدنيا!! فمن كان كذلك فوالله لقد رضي بقليل حيث استعنتم على اليسير من عمل الدنيا فلم ترضوا ربكم فيها ورفضتم ما يبقى لكم وكفاكم منه اليسير).
وفي زمن تدور فيه الفتن بقرونها ، ويعمل مرضى القلوب على أن تغشى قلوب الآخرين غاشية الزيغ ، وأن يستحكم الضلال في الناس ، وتصبح الذنوب بديل الطاعات ندعو الله بدعاء بلال بن سعد حين يقول :
(اللهم إني أعوذ بك من زيغ القلوب ، ومن تبعات الذنوب ، ومن مرديات الأعمال ، ومضلات الفتن) .
ولله الحمد في الأولى والآخرة وهو حسبنا ونعم الوكيل ..
الهوامش :
* هو بلال بن سعد بن تميم السكوني، الإمام الرباني، الواعظ الزاهد العابد، أبو عمر الدمشقي، شيخ أهل دمشق كان لأبي سعد صحبة .
** مجلة حضارة الإسلام. س17-ع:7 رمضان 1396-أيلول-1976.