مع التابعي عبيد بن عمير رحمه الله
هكذا يعلم الربانيون
*مع التابعي عبيد بن عمير رحمه الله (1)
ـ 1 ـ
أ.د/محمد أديب الصالح
رئيس تحرير مجلة حضارة الإسلام
هو واحد من كرام التابعين اشتهر ـ مع علمه وصلته بالقرآن ـ بعبادته وتقواه ونظراته الثاقبة التي تنم عن كثير من الحصافة واستنارة البصيرة ، وعندما كان يذكر ابن عباس رضي الله عنه في إمامته في فقه الدين وهي دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم له بذلك ، كان يذكر عبيد بن عمير بأنه قارئ القوم والقارئ يومذاك ـ ليس قارئ أيامنا وإنما هو العالم المتصل بالقرآن ، فعن داود بن سابور عن مجاهد قال : كنا نفخر بفقيهنا ، ونفخر بقارئنا . فأما فقيهنا : فابن عباس ، وأما قارئنا : فعبيد بن عمير. وتروى أيضاً ونفخر بقاضينا .. إلخ .
*ولقد كان عبيد ـ رحمه الله ـ واحداً من أولئك الصفوة الذين اتخذوا من العلم طريقاً إلى معرفة الله ، فكان جسرهم إلى العبادة والتقوى ، حتى باتوا من أهل الخشية لله تعالى .. وهذا الذي كان له في ذاته وتزكية نفسه أعطاه نوعاً من المهابة والقدرة على الموعظة البالغة التي تتسم بالنفاذ والتأثير فهي من القلب إلى القلب . قال ـ أجزل الله مثوبته ـ فيما روى عنه مجاهد :
(كان يقال ـ إذا جاء الشتاء ـ لأهل القرآن : قد طال الليل لصلاتكم ، وقصر النهار لصيامكم ، إن أعظمكم هذا الليل أن تكابدوه ، وبخلتم بالمال أن تنفقوه ، وجبنتم عن العدو أن تقاتلوه ، فأكثروا من ذكر الله عز وجل).
*وفي فهمه لكتاب الله تبارك وتعالى نجد وراء التفسير لظاهر اللفظ كما تعطيه الكلمات روحاً تواقة إلى العمل بالكتاب وقلباً يحس ما وراء الكلمات .
فعن الأعمش عن أبي راشد عن عبيد بن عمير في قوله تعالى :[إنه كان للأوابين غفورا] قال :
( الأواب الذي يتذكر ذنوبه في الخلاء ـ أي خالياً ـ ثم يستغفر الله تعالى لها) .
أو لا ترى ـ يا أخي ـ إلى هذا المعنى الذي قدمه للأواب ، انتقل بنا من ظاهر اللفظ ـ كما يقتضيه معهود العرب ـ في الأوبة والرجوع ، إلى أن حقيقة الأوبة إلى الله تعالى إنما تكون بأن يتذكر المذنب ذنوبه خالياً ليس معه أحد ولا يراه أحد إلا مولاه ، ثم يطلب المغفرة من الله تعالى لذنوبه ، وهو على هذه الحال .
*وانظر إلى عبيد بن عمير وهو يقدم لنا صورة المال والأهل والعمل وأنه لا ينفع المرء يوم تنزل به نازلة الموت إلا عمله ، حيث لا يغني المال ولا الأهل والعشيرة . قال رحمه الله :
(كان لرجل ثلاثة أخلاء ، بعضهم أخص من بعض ، فنزلت به نازلة ، فلقي أخص الثلاثة به فقال : يا فلان إنه نزل بي كذا وكذا ، وإني أحب أن تعينني ، قال : ما أنا بالذي أفعل ، فانطلق بالذي يليه في الخاصة ، فقال : يا فلان إنه قد نزل بي كذا وكذا ، وأنا أحب أن تعينني ، قال : فأنطلق معك حتى تبلغ المكان الذي تريد ، فإذا بلغت رجعت وتركتك . قال : فانطلق إلى أخص الثلاثة فقال : يا فلان إنه قد نزل بي كذا وكذا فأنا أحب أن تعينني ، قال : أنا أذهب معك حيث ذهبت وأدخل معك حيث دخلت .
قال : فالأول المال ، : فإنه خلفه في أهله ولم يتبعه منه شيء .
والثاني : أهله وعشيرته ، ذهبوا معه إلى قبره ثم رجعوا وتركوه .
والثالث : هو عمله ، وهو معه حيثما ذهب ويدخل معه حيثما دخل .
*وهذا دعاء من أدعية هذا التابعي الكريم تجد فيه روح الخشية وصدق المناجاة ولوعة القلب ... عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال : كان إذا دخل ابن عمير المسجد وقد غابت الشمس فسمع النداء ، قال: اللهم إني أسألك عند حضور إقبال ليلك ، وإدبار نهارك ، وقيام دعاتك ، وحضور صلاتك ، أن تغفر لي وترحمني ، وأن تجيرني من النار. وإذا أصبح قال مثل ذلك قبل أن يصلي الفجر.
رحم الله عبيداً وأعلى مقامه في الآخرين وأرجو أن يقسم لنا لقاء آخر مع وقفاته الربانية وكلماته المؤمنة الصادقة والحمد لله رب العالمين .
ـ 2 ـ
في العدد الماضي أخذنا بأطراف الحديث عن هذا التابعي رفيع القدر الذي انقضت حياته في أواخر الثلث الثاني من القرن الأول الهجري حيث توفي سنة 74 والذي أسند عن الكثيرين وروى عنه الكثيرون.
ونعود اليوم لمتابعة الحديث .. وحين نفعل ذلك نفعله أخذاً بقسط أوفر من سيرة واحد من أولئك الرجال الذين تعرف من خلال خلائقهم المنهج الرضيّ في الإسلام لما أنهم كانوا على قدم أولئك الذين تلقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق فيهم قول الحكيم : عرفت فالزم .
والأمة حين تتشعب بها السبل ، وتلتبس على كثير من أبنائها المعالم وتطلع الفتن بظلماتها تريد أن تسد عليها منافذ الوجود الحقيقي ... حين تقع الأمة تحت هذه الدواهي تبدو حاجتها أكثر وأكثر إلى التعرف إلى أولئك الرواد الذين اهتدوا بهدي النبوة ، ووردوا معينها العذب الزلال ، فهانت في أعينهم الدنيا وتفانوا في طلب ما عند الله .. فتراهم وقد راح الناس يتقممون الحطام تحت أقدام الطغاة .. ترتفع رؤوسهم عالية باستعلاء الإيمان ، عزيزة بعزة الحق لما أنهم عبيد لله لا سلطان على قلوبهم لغيره .. يركعون ويسجدون وبين يديه يخضعون ويتذللون .. ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يفقهون .
وقد
رأينا أن من هؤلاء الرواد الربانيين عبيد بن عمير-
رحمه الله ـ ها هو ذا بما أخذ عن شيوخه من الصحابة يعلمنا من هو الرجل الحقيقي في
ميزان الله ، وأن القيمة الحقيقية ليست بما يكون في هذه الدار من مظاهر قد تخفي
وراءها حقائق تقشعر لها الأبدان ومخازي يندى لها جبين البصير قال رحمه الله يؤتى
بالرجل العظيم الطويل يوم القيامة فيوضع في الميزان فلا يزن عند الله جناح بعوضة ،
ثم قرأ : فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) وإذن فالقيمة الحقيقية للرجل ، بما يكون
له عمل يرضى عنه الله ورسوله ، وكل ما يكون من تمويه وبهارج هنا لا يغير من الحقيقة
شيئاً فالله لا ينظر إلى الصور والأجساد ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال .
وإذا كان الأمر كذلك فالمفروض بالمسلم أن يعمل ليصبح في عداد أولئك الذين يكونون شيئاً في ميزان الله تبارك الله وتعالى ، ولتكون مقاييسه للرجال والأعمال منبثقة عن هذه الحقيقة ، فلا ينظر إلى الهالة المصطنعة ولكن ينظر إلى ذلك كله من خلال المدلول الواضح لقوله تعالى عن أولئك الفارغين:
[فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا] (2).
أكثر من هذا : لقد أثبت القرآن للكافرين أعمالاً ثم كشف عن أنها غير ذات قيمة عند الله يوم القيامة ولهم عليها مثوبة الدنيا هنا [وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثورا] (3) [والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب] (4).
أعمال بقيم .. ورجال بقيم .. والسعيد السعيد من كان وقافاً عند منهج الله فيما يقبل وفيما يرد .
قال
عبيد رحمه الله في شأن العتل هو القوي الشديد ، الأكول الشروب ، يوضع في الميزان
فلا يزن شعيرة ، يدفع الملك من أولئك سبعين ألفاً دفعة واحدة في النار).
* * *
وما أعظم ما غمر قلب هذا الرجل من النور الإلهي حتى استقام سلوكه وصحت له نظرته إلى الأعمال وجدواها عند الله .. وكان كبيراً في نفسه كل ما هو من ذكر الله ورضاه بسبيل . فالتسبيحة الصادقة النابعة من القلب أين من وزنها عند الله ملء الأرض ذهباً ، قال أجزل الله مثوبته :
(تسبيحة في صحيفة مؤمن يوم القيامة خير من أن تسير معه الجبال ذهباً)
ولمَ لا يكون الأمر كذلك فالتسبيحة له ولكن الدنيا ـ بما فيها ـ إذا لم يؤد حق الله ويراقب ويحذر ويحتاط لأمره هي عليه والعياذ بالله .
ولم يكن عجباً من العجب بعد ذلك أن تمتد هذه النظرات إلى علاقته بالناس ، فالأخ الحقيقي هو الأخ في الله الذي تجمعه وإياه عبودية لله صادقة ، وحرص لا يدانيه حرص على أن تكون كلمة الله هي العليا ، وشريعته هي المحكمة ، والآخرة التي وعد بها هي المؤثرة .. فهذا الأخ في الله هو الذي يحب ، وهو الجدير أن يستأثر بالود والعطاء والإيثار، فمن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : " رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه " .
ثم : إن هذه الصلة ليست لغرض قريب ولا من أجل مطمع يلهث وراءه الحمقى طلاب الدنيا . ولكنه صلة عروتها أن يكون الإخوة في الله شهداء بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم لا يقولون ما ليس لهم بحق ولا يسألون ما ليس لهم به علم وما أعظم وأكرم أن يكونوا كذلك ... ـ وقد سبقت لهم من الله الحسنى ـ وأن يكون نبينا المصطفى صلوات الله عليه شهيداً عليهم بالإيمان : فيسعدوا بأن يردوا عليه الحوض وأن يحظوا بشفاعته جزاه الله عن الأمة كل خير وآتاه الوسيلة والفضيلة وبعثه المقام المحمود الذي وعده إنه لا يخلف الميعاد .
حدث غيلان عن عبيد بن عمير (أنه كان إذا آخى في الله أحداً أخذ بيده واستقبل به الكعبة وقال : اللهم اجعلنا شهداء بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، واجعل محمداً صلى الله عليه وسلم شهيداً بالإيمان ، وقد سبقت لنا منك الحسنى ، غير متطاول علينا في الآمال ولا قاسية قلوبنا ، ولا قائلين ما ليس لنا بحق ، ولا سائلين ما ليس لنا علم).
* * *
مرة أخرى : رحم الله عبيداً وأعلى مقامه في الآخرين وإذا كانت القاعدة " وبضدها تتميز الأشياء " فما أشد حسرة أولئك الذين يتحابون في الشيطان ويجتمعون على دخان الضلالة ، ونتن الدنيا ، ينتعلهم الظلمة بالعرض من الفانية ويذلون لغير الله لهاثاً وراء السراب .
ـ وما أحوج الأمة ـ وهي على عتبة أن تنهض من عثار ـ لترسم خطى أولئك البررة الربانيين كيما تكون قادرة على البذل والإيثار، حيث لا ينفع إلا البذل والإيثار.. وكيما يكون أبناؤها قادرين على الصعود حيث يسقط أشباه الرجال في أول الطريق .. ولن يكون ذلك إلا بالتخلق بأخلاقهم توحيداً خالصاً ، وتوجهاً إلى الله صادقاً ، وثقة بوعد الله أيما ثقة واستعلاء على كل المعوقات ، مهما كلف ذلك صاحبه من ثمن ، لأن مرضاة الله أجل وأعلى ، والغاية المبتغاة التي يسارع إليها أهل الصفاء الصالحون المجاهدون أعز وأسمى .. بحيث يهون في سبيل ذلك كل ثمن .. بل تراهم غارقين في شكر الله تعالى أن اختارهم للجلي وارتفع بمطامحهم عن أوضار هذه الدنيا الفانية وأخذ بأيديهم إلى رياض أولئك الذين قال القرآن فيهم :
[إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر](5)
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
الهوامش :
* حضارة الإسلام العدد الثاني السنة 19/ 4/1398.
(1) هو عبيد الله بن عمير بن قتادة الليثي الجندعي المكي الواعظ العابد المفسر ولد في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كان من ثقات التابعين وأئمتهم بمكة وكان يذكر الناس ، فيحضر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مجلسه . توفي قبل ابن عمر وقال الذهبي : وقيل توفي سنة 74 هـ.
(2) ختام الآية 105 من سورة الكهف .
(3) سورة الفرقان : 23
(4) سورة النور: 39
(5) الآيتان 54 ـ 55 من سورة القمر.