بين الحقيقة والاستدراج
بين الحقيقة والاستدراج
بقلم: الدكتور محمد أديب الصالح
كان من رحمة الله بهذه الأمة أن رسم لها من مناهج في العقيدة والشريعة والأخلاق
، مما لا يدخل في حدود التجريد ، ولكنه يتسق تمام الاتساق مع طاقات الإنسان
وقدراته ، ولذلك رأيت من عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلى مختلف العصور
الإسلامية ، النماذج التي تستعصي على العد ، وكلها نماذج ترى فيها سلامة
التطبيق لما أراده الله تبارك وتعالى وأراده الرسول عليه الصلاة والسلام ؛ ففي
معرض الاحتكام في كل أمر إلى الكتاب والسنة وعدم الالتفات إلى ما قد يعرض من
الخواطر والهواجس رأينا الصحابة رضوان الله عليهم يتهمون آراءهم بجانب نصوص
الكتاب والسنة ، وهم أعمق الأمة علماً وأبرها قلوباً ، وأبعدها عن الشيطان ،
لذا كان عنوان الخيرية عندهم الاعتصام بالكتاب والسنة على الأحوال كلها والشؤون
. وتقوى الله تعالى في السر والعلن . كتب كاتب لعمر رضي الله عنه بين يديه
هذا ما أرى الله عمر. فقال : لا ، امحه واكتب : هذا ما رأى عمر) ونماذج ذلك
كثيرة فيهم عليهم الرحمة والرضوان حيث يتهمون أنفسهم ويتعلقون بما جاء في كتاب
الله وسنة رسوله ، إلا ما كان من تلك الآراء المقبولة والاجتهادات في فهم
القرآن وتدبره واستنباط الأحكام منه ومن حديث الرسول عليه الصلاة والسلام .
نقول
هذا في الوقت الذي سمعنا وما نزال نسمع عن أولئك الذين يحتكمون إلى الهوى باسم
الأخذ عن الله " حدثني قلبي عن ربي " ولو عدنا إلى أولئك البررة الذين ازدان بهم
تاريخ جهاد النفس وتزكيتها ، وحملها دائماً على الذكر والتقبل والزهادة في الدنيا
.. لو عدنا إلى أولئك البررة .. لوجدناهم على الجادة التي سلكها أصحاب الرسول صلى
الله عليه وسلم في الاحتكام إلى الكتاب والسنة عند أي خاطر أو هاجس أو إلهام . حكى
الجنيد عن أبي سليمان الداراني قال : (ربما يقع في قلبي النكتة من نكت القوم أياماً
، فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين من الكتاب والسنة) وينقل لنا الإمام ابن القيم عن
أبي يزيد قوله لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتى يتربع في الهواء فلا تغتروا
به ، حتى تنظروا ، كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود) .
ذلك لأن ظهور هذه الأمور دون وقوف عند الأمر والنهي وحفظ الحدود هو ما يسميه علماؤنا بـ (الاستدراج) والعياذ بالله . وذلك أمكن لمكر الله ، ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون . قال قائلهم :
إذا رأيت رجلاً يـطـيـر وفوق ماء البحر قد يسير
ولم يقف عند حدود الشرع فإنه مستدرج وبـدعي
وما يروى عن أبي يزيد أيضاً (من ترك قراءة القرآن ولزوم الجماعات ، وحضور الجنائز وعيادة المرضى ، وأدى بهذا الشأن ـ يعني طريق السالكين إلى الله ـ فهو مدع) ومعنى ذلك أنه مدع بلا دليل ، بل إن سلوكه يدل على نقيض ما يدعي . والإسلام ـ بحمد الله ـ لم يكن في يوم من الأيام آراء فلسفية تجريدية للتفكه العقلي ، يتحاور بها الناس ثم ينصرفون كل إلى عمله المناقض لم كان يقوله ويدافع عنه بالكلام وأحكام المقدمات والنتائج ، ولكنه إيمان وعمل وتواص بالحق وتواص بالصبر.
والمتقول عن الجنيد في هذا الباب قوله مذهبنا مقيد بالأصول ؛ بالكتاب والسنة ،
فمن لم يحفظ الكتاب ، ويكتب الحديث ، ويتفه ، لا يقتدى به).
والطريق إلى يقظة القلب وتذوقه لحلاوة الإيمان عند أبي بكر الدقاق هو الاستمساك
بالأوامر واجتناب النواهي وإلا كان الحرمان والخسران قال رحمه الله من ضيع حدود
الأمر والنهي في الظاهر حرم مشاهدة القلب في الباطن) وأوضح أن المراد من الباطن هنا
ما كان بين العبد ومولاه من لذة القرب والرضا مما يتولد عن محبة الله عز وجل .
ترى أي داهية ألمت ببعض من يزعمون أنهم على هذا السنن ، حتى اتفقت العناوين ، واختلفت المضمونات والسلوك كان أولئك الذين نلمح إلى بعض آثارهم يسخرون من الشيطان ويقتحمونه بالاستقامة على حدود الشرع ، فأصبح هؤلاء يسخر منهم الشيطان بما له من سلطان عليهم أثمره الانحراف وعدم الالتزام بحدود الشرع .
جزى الله أصحاب النبي صلى الله عليهم وسلم وكل من سار على نهجهم النبوي وتبعهم بإحسان . اللهم جنبنا مزالق الشيطان والنفس والهوى ، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله .