الباقية لا الفانية

الدكتور محمد أديب الصالح

الباقية لا الفانية * ومصعب بن عمير

الدكتور محمد أديب الصالح

ـ 1 ـ

كان من حوافز الجهاد وحب الاستشهاد في سبيل الله عند البررة الأخيار من أبناء أمتنا ـ بجانب رسوخ الإيمان واليقين بما وعد الله ورسوله ـ زهادتهم في الدنيا ، ووضع متاعها ـ إن وجد ـ موضعه الطبيعي في حياة المؤمن ، وسيلة لا غاية ، وفي الأكف لا في القلوب .. وعلى محور السلوك أخذت هذه القضية أبعادها وانعكاساتها .ولقد كانوا في ذلك ـ رضي الله عنهم وأرضاهم ـ على قدم إمام الأنبياء وسيد المجاهدين والربانيين محمد عليه الصلاة والسلام ، فلقد بين بقوله وفعله وكريم تقريره وإرشاده هوان الدنيا على الله ، وإنها للمؤمن وسيلة إلى الآخرة ، وما هي ـ على الحقيقة ـ إلا متاع الغرور .

فالدنيا فانية والآخرة خير وابقى ، وأين الفانية من الباقية !! روى مسلم عن المستورد بن شداد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنما الدنيا في الآخرة مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم ، لينظر بم يرجع " ؟(2)

وروى مسلم أيضاً عن جابر رضي الله عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالسوق والناس كنفتيه ـ أي عن جانبيه ـ فمر بجدي أسك ـ صغير الأذن ـ ميت ، فتناوله فأخذ بأذنه ثم قال : أيكم يحب أن هذا له بدرهم ؟ فقالوا : ما نحب إنه لنا بشيء وما نصنع به ؟ قال : أتحبون أنه لكم ؟ قالوا : والله لو كان حياً ، كان عيباً أنه أسك ، فكيف وهو ميت !! فقال أهون على الله من هذا عليكم " (3).

ومما لا ريب فيه أن هذا وأمثاله من رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرق في ظل آيات كثيرة في هذا الباب منها قوله تعالى في سورة الحديد [اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة ، وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد ، كمثل غيث أعجب الكفار نباته ، ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذابُ شديد ومغفرة من الله ورضوان ، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور] (4)

من أجل هذا شهدت الإنسانية في واحد من أبهى معالم الحق في الدنيا منها ما روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير، فقام وقد أثر في جنبه ، قلنا : يا رسول الله لو اتخذت لك وطاء ، فقال : مالي وللدنيا !! ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها "  رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح (5).

وعلى هدي هذا المنهج النبوي في السلوك ، شهد تاريخ هذه الأمة أمة تبني حضارة الإسلام ـ فيما شهد ـ شاباً يانعاً ، ربي على الرفاهية في الطعام ، واللين الملبس ، ونشيء على ما يزهو به الشباب الناعم في العيش ويصبوا إليه ، وهو مصعب بن عمير رضي الله عنه ، شهد تاريخ الرفاهية ولكن الشاب يترك كل هذا بعد أن خالط الإيمان بشاشة قلبه ، ويتجاوزه إلى الانصراف إلى الدعوة ، والجهاد في سبيل الله ، والرضى بما يتبلغ به من المأكل والملبس ، لأنه بات في شغل شاغل بما هو أعلى وأغلى من تلك الملذات ونعومة العيش .

ولقي مصعب ـ جزاه الله من أمة الإسلام والبشرية كل خير ـ مصرعه شهيداً يوم أحد فكان إخوانه لا يجدون ما يكفي لتغطية جسده كله .. حيث لم يجدوا ما يكفي لتغطية هذا الجسد الذي ما عرف قبل الإسلام إلا نعومة الحياة في المطعم والملبس في ظل تلك القيم الفانية . وأين حماة الجاهلية من جنات السموات والأرض ، خاتمة للبذل الصادق والعطاء في سبيل الله .

روى البخاري ومسلم (6) عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال : " هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نلتمس وجه الله تعالى ، فوقع أجرنا على الله ، فمنا من مات لم يأكل من أجره ـ يعني في الدنيا ـ شيئاً ، منهم مصعب بن عمير رضي الله عنه ، قتل يوم أحد ، وترك نمرة ، فكنا إذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه ، وإذا غطينا رجليه بدا رأسه ، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نغطي رأسه ، ونجعل على رجليه شيئاً من الأذخر، ومنا من أينعت له نمرته فهو يهذبها "

والنمرة كساء ملون من الصوف ـ يهذبها : يقطفها .

هكذا استطاع هؤلاء الرجال حين تخففوا من حب الدنيا وكراهية الموت ، وصدقوا في طلب الآخرة ، أن يتقدموا في ميادين الشهادة ، باسمة شفاههم مرفوعة رؤوسهم خفاقة بالشوق إلى لقاء الله قلوبهم ، يجدون عند أرض المعركة ريح الجنة التي وعد المتقون ، ويتنسمون عبير الحياة التي كتبت للشهداء وهم أحياء عند ربهم يرزقون .

ومصعب بن عمير ـ رضي الله عنه وأكرم نزله ـ أنموذج لأولئك الذين صدقوا الله فصدقهم ، وتخففوا من الدنيا والانغماس بمتاعها ولذاتها ، فكانوا أقدر على المسارعة إلى جنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وفازوا بمرضاة الله التي هي السعادة !!

لقد اختصروا المسافة بينهم وبين الشهادة بهذا السلوك الذي كانوا فيه على إرث من منهج المصطفى عليه الصلاة والسلام . ومن لم يرزق الشهادة منهم عاش سعيداً ، بنفس مطمئنة ، وحظي عند الله بما لا يكاد يوصف من الخير [يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية ، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي].

وأخيراً : وهذا ما أذكر به نفسي قبل الأخوة القراء راجياً من الله عونه

ـ 2 ـ

حاجة الأمة إلى التبصر في سيرة من صنعوا تاريخها ، حاجة لا يذهب اختلاف الأحوال صعوداً إلى القمة أو هبوطاً إلى القاع ، خصوصاً أولئك الذين شاء الله لهم أن يشهدوا تنزل الوحي وأن يرتادوا الطريق . وإذا ذكر هؤلاء  ذكر مصعب بن عمير رضي الله عنه ... صحيح أن الحقبة الزمنية التي أمضاها الرجل المجاهد الداعية في العمل تحت راية الدعوة كانت قصيرة بعض القصر لما أنه قد استشهد ـ أكرم الله مثواه ورحمه ـ في " أحد " ، ولكنها كانت عظيمة متسعة الأرجاء عطاء وعمق دلالة في صناعة تاريخ الإسلام  ، والتفاني للدعوة أن تأخذ مكانها الطبيعي في قيادة المجتمع الأمثل وإعداد الفرد الإعداد القادر على مواجهة الحياة بالعقيدة الصافية والسلوك المستقيم .

هذا : وقد سعدنا بالحديث عن هذا الصحابي الجليل في واحد من الأعداد الماضية ، ولكن مآثره رضي الله عنه أغزر من أن تتسع لها صفحة من الصفحات .

***

لقد كان أبو عبد الله فتى مكة شباباً وجمالاً وسناً ، وكان أبواه يحبانه غاية الحب ، وكانت أمه تكسوه أحسن ما يكون الثياب ، وكان أعطر أهل مكة وروى بعض أصحاب السير أن رسول الله كان يذكره فيقول : " ما رأيت لمه ولا أرق حلة ولا أنعم نعمة من مصعب بن عمير" فلما أسلم أصابه من الشدة وحمل هموم الدعوة في مواجهة المشركين ، ما غير لونه ، وأذهب لحمه ، وأنهك جسمه ، حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ كما ذكر السهيلي ـ ينظر إليه وعليه فروة قد رفعها فيبكي لما كان يعرف من نعمته .

هذا : وكان رضي الله عنه ممن هاجر إلى الحبشة ثم عاد ، وبعد أن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار بيعة العقبة الأولى ، وحان انصراف القوم إلى المدينة أرسل معهم مصعب بن عمير يعلم من أسلم منهم القرآن والشرائع وسمي لهذا رضي الله عنه بـ " المقرئ " .

وانظر أي مقرئ هذا الرجل الذي تولى شؤون تعليم القرآن والشرائع ، وهي مهمة لا نقدرها حق قدرها إلا إذا كنا على تصور تام لطبيعة المجتمع هناك وسلطان يهود وما كان من رواسب الجاهلية ، ولكن مصعباً كان قوياً بقوة الله وقام بالمهمة خير قيام وهو أهل لما قام به كيف لا وقد اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقوم بهذا الفتح العظيم . وقد جمع بالمسلمين ـ كما في بعض الروايات ـ أول جمعة في المدينة وكانوا أربعين رجلاً .

***

غير أن أبا عبد الله لم يقف عند حد تعليم القرآن والشرائع بل أدرك واجباً عليه أن يفتح القلوب بكلمة التوحيد ، وأن يفسح للقرآن والشرائع في تلك القلوب والعقول ، فاستنفد الطاقة في الدعوة إلى الله مستعلياً على حطام الدنيا غير آبه بما قد يفوته من زخرفها بعد أن أكرمه الله فذاق حلاوة الإيمان ، ووقف على المحجة ، وشرع يرتاد للأمة الطريق داعياً إلى الله والدعوة إلى الله إرث من إرث النبوة [قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين] [ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين] . وبأسلوبه الحكيم وصدقه مع الله ، واستعلائه على حطام الدنيا ، أسلم على يده خلق كثير من الأنصار، فأسلم في جملتهم سعد بن معاذ وأسيد بن الحضير، وأسلم بإسلامهما جميع بني عبد الأشهل في يوم واحد الرجال والنساء ،يقول ابن حزم رحمه الله : ما نعلمه تأخر عن الإسلام أحد منهم ، حاشا الاصيرم ، وهو عمرو بن ثابت بن قيس ، فإنه تأخر إسلامه إلى " أحد " فأسلم ، فاستشهد ، ولم يكن من بني عبد الأشهل منافق ولا منافقة ، كانوا كلهم مخلصين رضوان الله عليهم . وكم لمصعب من الأجر والمثوبة عند الله ثمرة الدلالة على الخير والدعوة إلى الله .

وهكذا لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها مسلمون رجالاً ونساء ، حاشا بني أمية بن زيد وخطمة ووائل وواقف وتلك أوس الله وهم من الأوس بن حارثة .. على تفصيل العلماء في شأنهم .

إن هذا الذي صنعه أبو عبد الله مصعب رضي الله عنه أمر له ثقله في ميزان الدعوة وتاريخ الإسلام ، فالمدينة التي استقبلت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحلته من القلوب والنفوس ما هو معلوم ـ والحمد لله ـ كانت تتجه بأبنائها ومن عليهم من إخوانهم المهاجرين صوب المفهوم الجديد للتاريخ ، بل صوب تغيير خريطة العالم ، واستبدال المفاهيم الجاهلية ، والمصطلحات المغلوطة بمفاهيم ومصطلحات بدأ المسلمون من خلالها يملون على التاريخ ما يريدون . ولقد كلفهم ذلك ألواناً من العطاء ، ليس أقلها بذل الأموال والأنفس في ساحات الجهاد تحت راية الدعوة ، يوم حملوا للإنسانية مقومات وجودها الذاتي ، وقدموا لها أسمى حضارة عرفها الإنسان .

وإذا ذكرت ذلك كله فلابد أن نذكر مصعباً رضي الله عنه وأرضاه ، وجعل من هجرته إلى الجنة وتعليمه القرآن والشرائع ، وصبره على الدعوة واستشهاده تحت رايتها في " أحد " مناراً يهدي الأمة إلى السبيل الأقوم فيما تنشده من عودة ظافرة إلى أن تكون لها ذاتيتها وأصالتها في العالمين وثمن ذلك إخلاص يحركه الإيمان وبذل لا يعصب به الرعب والرهب .