نبيُّ الرحمة والتواضع

نبيُّ الرحمة والتواضع

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

تعال معي ننظر بعين البصيرة لا البصر  ولا نملك إلا هذا  إلى سيّدَيْنَا العظيمين ، أحدهما رسول الله  صلى الله عليه وسلم  ، والآخر جبريل رسولُ الله إلى رسول الله ، صلى الله على جبريل . . فإني أحبه رغماً عن اليهود الذين يكرهونه لأن قلوبهم ملئت حقداً وكرهاً لسيد الملائكة الجليل .

هذا رسول الله ، وجبريل معه يتدارسان القرآن ويتجاذبان أطراف الحديث ، قرب الكعبة ، فقال النبي  صلى الله عليه وسلم  : (( يا جبريل ، والذي بعثك بالحق ما أمسى لآل محمد سفةٌ من دقيق ، ولا كفٌّ من سويق )) .

فلم يكن كلامه بأسرع من أن سمع هدَّةً من السماء أفزعته وكانت مجلجلة ، ظنّ رسول الله  صلى الله عليه وسلم  أن الله أمر القيامة أن تقوم ، فتضعضعت السماء .

فقال جبريل مهدئاً من روعه ومسكِّناً خوفه : لا . . إنه ملك نزل من السماء ، لم ينزل منها منذ خلقه الله تعالى .

ونظر الرسول  صلى الله عليه وسلم  إلى عظيم خلقته وجليل صورته وهو يدنو منهما ، فملأ عينه ، وسبّح خالقه ، فلما وصل قال لهما : (( السلام عليكما ورحمة الله وبركاته ،  وهذا سلام المسلمين منذ خلق الله تعالى آدم في الجنة ، - فردّا عليه السلام بأحسنَ منه : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته ورضوانه . . . فلما تمكن واقفاً التفت إلى النبي  صلى الله عليه وسلم  وقال : إن ربّك يقرئك السلام ، ويقول سبحانه : إنه عزّ شأنه سمع ما ذكرت ، فبعثني إليك بمفاتيح خزائن الأرض ، وأمرني أن أعرض عليك أن أسيّر جبال تِهامة زمُرُّداً ، وياقوتاً ، وذهباً ، وفضّة ، وأمرني أن أجعلك إن شئت نبياً ملكاً وإن شئت نبياً عبداً .

إن الفطرة لتدعوه أن يختار النبوّة مع العبوديّة ، فأعلى مراتب الإنسان العبوديةُ لله تعالى : (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى ) [ الإسراء : الآية 1 ] ونظر إلى جبريل يستشيره ، فرآه يوحي إليه : أن تواضَعْ . فالتواضع يرفع صاحبه في عليِّين ، ومن تواضع لله رفعه .

إن للمُلْك حظاً في النفس ورغبة في الاستعلاء ، وشعوراً بالعظمة وإحساساً بالفوقيّة على مَنْ حوله ، وإن في العبودية تواضعاً للآخرين ، وقدرة على الدخول إلى نفوسهم والتباسط معهم ، واكتساب قلوبهم وتحمل أذاهم والصفح عنهم .

فقال  صلى الله عليه وسلم  : (( بل عبداً رسولاً ، أشبع يوماً فأشكر الله ، وأجوع يوماً فأحمَد الله ، إنما أنا عبد ، والله يحب أن يراني في مقام العبودية ، متذللاً له ، ضارعاً إليه ، مقبلاً عليه ، لا أصلح للدنيا ولا تصلح لي . . .

يا الله ما أعظم هذا الرسول الكريم ! تأتيه الدنيا صاغرة ويدفعها عنه ، فقد دخل عليه عمر رضي الله عنه فرأى الحصير قد أثرَّ في جنبه  صلى الله عليه وسلم  ، فيبكي عمر فيسأله المصطفى : (( ما يبكيك يا عمر ؟ )) فيقول : هذا هرقل وذاك كسرى حيزت لهما الدنيا ، يتنعمان بها ، وأنت رسول الله يؤثر هذا الحصير في جنبك !!

فيقول النبي  صلى الله عليه وسلم  منبهاً إلى حقارة الدنيا عند الله تعالى وهوانها على المؤمن : (( فوالذي نفسي بيده لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء . . يا عمر أما يرضيك أن تكون لهما الدنيا ولنا الآخرة ؟ )) .

ومات هرقل وكسرى مذمومَيْن ، ولا يُذكران إلا حين يتحدث الناس في العظات والعبر ويتعوذون من مصيرهما ، أما رسول الله  صلى الله عليه وسلم  ، فيذكر في كل لحظة ، آناء الليل وأطراف النهار ، بكل حب وإجلال وتقدير ، اسمه مقرون باسم الله تعالى في الأذان وفي الإقامة ، وفي كثير من آيات القرآن ( وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ( 19 ))   ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا (1) )   (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ) فهل هناك أعظم وأجلُّ من هذه المكانة ؟!!

إن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  في حجه حين طلب الماء قالوا : انتظر يا رسول الله قليلاً يأتِ ماء زمزم فتشربه  وكان في عَرَفةَ  فإن الماء هنا يخوض الناس فيه ، فقال : (( لا حاجة لي فيه . . اسقوني مما يشرب الناس )) فهو على بركته  صلى الله عليه وسلم  يبعث إلى الماء الذي يشرب منه المسلمون يرجو بركتهم . . يا سبحان الله . . رسول الله يرجو بركة المسلمين . . آمنتُ أنه سيد البشر الشفيع المشفَّع في المحشر .

بل إنه  صلى الله عليه وسلم  يجلس إلى قصعته بين الناس جاثياً على ركبتيه ويبدأ الطعام مع أصحابه ، فيقول له أعرابي : ما هذه الجلسة ؟ إنها لم تعجبه ولم يرضها للرسول الكريم . فيقول عليه الصلاة والسلام : (( إن الله جعلني عبداً كريماً ، ولم يجعلني جباراً عنيداً )) .

وما أقربه  صلى الله عليه وسلم  إلى قلوبنا وقلب عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين استأذن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  في العمرة . فأذن له ، وقال له : يا أخي عمر لا تنسني من دعائك . فيناديه باسمه ، ويتقرب إليه بلفظ يا أخي ، ويسأله أن يشركه بالدعاء ، وهو منقذ البشرية وهاديها إلى الصراط المستقيم .

ولم لا يقول ويفعل وهو مَنْ تَواضَعَ ولَطُفَ ؟ ، وهو الذي يعلِّمنا في حديثه الشريف : إن الله تعالى أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ، ولا ينبغي أحد على أحد .

تواضع لربِّ العرش عَلّكَ تُرفَعُ           فما خاب عبدٌ للمهيمن يخضع

وداوِ   بذكر   الله   قلبك   إنه           أجل   دواءٍ    للقلوب   وأنفع