وقفة مراجعة قبل فوات الأوان

مؤمن مأمون ديرانية

الوقت لم يفت ما دام فينا عرق ينبض

مؤمن مأمون ديرانية

[email protected]

منذ زمن ليس بقصير، بالتحديد منذ أصابتني في حياتي ملمّات، دأبتُ على وقفة مراجعة من وقت لآخر، جعلتها في رمضان من كلّ عام. وقفة مراجعة كاملة، لشؤون الدنيا والآخرة، أَنظر فيها إلى حصيلة العمْر. أستعرض ما كان، وما كان ينبغي أن يكون، والذي يُنتظر، وما يمكن عمله.

أدركت خلال هذه الوقفات أمراً جللاً لا يدركه كثير من الناس، أن كثيراً من الفترات بين وقفة وأخرى، خاصة المزدحمة بالعمل، المثقلة بالهموم، تكاد تخلو برمّتها من أيّة نظرة تقويميّة لمسيرة حياتنا الماضية وتخطيط للمستقبَلة، بل تكاد تخلو من مجرد التفكير في الذي كان والذي نريده أن يكون، والنظر إلى أين نسير. لا ننسى أنّ هذه الفترات هي سنوات من العمر تمضي بلا عودة. فكيف إذن يكون الحال دون هذه الوقفات؟ يستحيل العمر إلى سنوات متصلة من الغيبوبة، نعيش فيها مطحنة الحياة، وندور فيها كما يدور الحمار في الرحى.

وكما يفعل الماشي في البراري والقفار، يقف فينظر إلى الخلف يبصر الطريق الذي قطعه، وينظر إلى الأمام يستجلي الطريق الباقي، ويقدّر الوقت والجهد اللازم لقطعه، كذلك يصنع السائر في الحياة، يقف لينظر إلى العمر الذي مضى وماذا أنجز فيه أو خسر، وماذا يسعه أن يعمل في الأيام الباقية التي لا يعلم مقدارها تماماً.

هي ليست مراجعة يومية لمهام اليوم ولا شهرية لبرنامج الشهر، بل هي مراجعة للعمر، نعيدها من سنة لأخرى، لعلنا ندرك العمر قبل أن ينتهي، حتى لا يدركنا الأجل ونحن نركض لاهثين على غير هدى وإلى غير هدى.

الإصلاح والتغيير والخروج من الظروف الصعبة يتم بالتفكّر ثم العلم ثم العمل.. وبألفاظ الطبّ: وقفة التفكّر لتشخيص الحال، ثم البحث بالتفكير والاستشارة للوصول إلى العلم بخطة العلاج الناجع، ثم البدء بأولى خطوات العمل لتنفيذ العلاج بدواء أو مشرط.

 نقف لنتفكّر في حالنا الذي نحن عليه. الأمر الأساسي الذي يصغر أمامه كل أمر هو الدار الآخرة.. ماذا أعددنا في إقامتنا القصيرة المؤقتة هذه لإقامتنا الدائمة هناك، للحياة الباقية. لنطمئن على أساسيّات النجاة ثم نزيد ما استطعنا.

وفي حياتنا هذه.. ما شكل الحياة التي نحياها؟ وهل عملنا عملاً صالحاً نافعاً فيها؟ وهل وجدنا السعادة التي ننشدها؟

أيّ أسرة وبيت بنينا؟ وماذا فعلنا بأهلينا؟ من كان له أب وأم ماذا فعل بهما؟ ومن كان له زوج وذريّة ماذا فعل بهم؟

ماذا أنجزنا وما الذي نريد أن ننجزه؟ وماذا قدّمنا للدين وللأمّة ولعمارة الأرض؟

 وتفكير حسن..

وعند المراجعة... لا شيء أهمّ ولا أجدى، بعد التوبة إلى الله، من حس التفكير، الذي يقود إلى رؤية صحيحة وواضحة، يمكن أن يقوم عليها عمل صواب، يؤدي إلى التغيير الذي ننشده.

ومنتهى حسن التفكير هو الحكمة التي هي ضالّة المؤمن، ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً. وتزيد فائدة حسن التفكير بالاستشارة، وما خاب من استشار، فنكسب رأي من هو أحسن منا رأياً مع رأيِنا، فيضيف إليه أو يوكّده. بعد ذلك نطلب من الله أن يهدينا لما فيه الخير في ديننا ودنيانا وعاجل أمرنا وآجله، وأن يوفّقنا في أمرنا الذي مضينا فيه. وهداية الله وتوفيقه أكبر وأهم من كل شيء لكننا أُمرنا بالقطران مع الدعاء، فعلينا أن نعدّ للأمر عدّته من تخطيط وتنفيذ جيد ومن ثمّ ندعو الله ونتوكّل عليه. وحسن التفكير لازم في الحياة دائماً وليس أحياناً ولا غالباً، لأن غيابه مرّة واحدة في قرارات الحياة، كغياب انتباه سائق مرّة واحدة على الطريق. غفلة مرّة واحدة تكفي لتودي بحياته وحياة من يحمل معه، ومثلها الخطوات الخاطئة المبنيّة على تفكير سيّء أو متعجّل قد تودي بصاحبها إلى الهلاك في الدنيا أو الآخرة أو الاثنين معاً. أدرك ذلك جيداً عندما أستعرض خطواتي التي خطوتها في حياتي، التي أصبت فيها والتي أخطأت، وما دفعته من ثمن للخطوات المتعجّلة غير المدروسة، وأحمد الله أوّلاً وآخراً أن لم يجعل مصيبتنا في ديننا.

التفكير الجيد هو بوصلة الحياة للسير في صحرائها، تدلّنا على الاتجاه الذي نمضي فيه، وتصحّح لنا الاتجاه إذا أخطأناه قبل أن نمضي طويلاً في الاتجاه الخاطئ. بدون هذه البوصلة قد نمضي شطراً من عمرنا نسير في اتجاه خاطئ يبتعد بنا عن الغاية المنشودة بدل أن نقترب منها، عندها لن يكون علينا أن نبدأ من نقطة البداية بل أسوأ من ذلك بكثير، سيكون علينا أن نبذل الكثير حتى نعود إلى نقطة البداية. لا يدرك كثير من الناس الذين يتحسّرون أنّهم ما زالوا في نقطة الصفر أن نقطة الصفر هي شيء كثير، لكن هذا الكثير لا يقدّر قيمته إلا من نزل دونه. ليس سيّئاً أبداً أن يجد الإنسان نفسه في نقطة الصفر، لا له ولا عليه.

وكما يفضي التفكير السيئ والخطوات المتعجلة غير المدروسة إلى كارثة في حياتنا قد لا تقوم لنا قائمة بعدها، أو نحمل فيها عبئاً ضخماً يبقى على كاهلنا، ونعيش العمر كله ندفع ثمن هذه الخطوات، فإنّ وقفة تفكير جيد قبل الإقدام على خطوات مهمة في حياتنا، يضاف إليها مشاورة أهل الرأي، وتتويج كل ذلك باستخارة ودعاء الله أن يوفقنا لما فيه الخير، قد تنقذنا من كارثة محققة يمكن أن ندفع ثمنها العمر كلّه. أمّا بعد وقوعها فإنّ الخروج منها يبدأ بالتفكير الجيد في كيفية الخروج، والاستعانة بأصحاب الرأي، والوصول لرؤية واضحة للخطوات اللازمة مهما بدا الطريق طويلاً.

التفكير الجيد، مع مشورة أصحاب الرأي، قد يرينا ما كان دائماً نصب أعيننا دون أن نراه، من أسباب صلاح حياتنا وسعادة العيش. وقد يدلّنا على ما كنّا نستطيعه دائماً من عمل صالح نافع ولم نكن نعمله. تتملكنا الدهشة حين ندرك كم هو كثير الذي يمكننا عمله.

هذا التفكير في كثير من الأحيان هو مفتاح قفص وجدنا أنفسنا محبوسين فيه لزمن طويل لا نستطيع الخروج منه، بينما كان المفتاح معلّقاً بجوار القفص متاحاً لمن يريد تناوله وفتح القفص والخروج منه إلى أرض الله الواسعة، المليئة بالخيارات والفُرص وأبواب الفرج والخير التي أتاحها الله لمن سعى.

لنخرج من حالة الشلل والعجز.. العجز الذي علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستعاذة منه.

هذا مفترق طرق قد ينقلنا من طريق هلاك إلى طريق نجاة، ومن طريق فشل ومعاناة إلى طريق نجاح وسعادة، وليس بيننا وبين هذا وذاك إلا عزيمة حقيقيّة.

(اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضلع الدين، وغلبة الرجال)

وخطوات..

وبعد تفكير جيد، ورؤية واضحة.. نستعين بالله ونستعيذ به من العجز، ونأخذ أولى الخطوات، دون تأخير ولا تأجيل. تعلّمت في حياتي أنّ ما يُؤجّل قد لا يُعمل أبداً، أو قد يُعمل بعد فوات الأوان، فيصير مثل توبة فرعون.

نطلب النجاة عند الله في معتَقَد صحيح لا شائبة فيه، والقيام بالتكليفات الأساسية وعلى رأسها أداء الصلاة المكتوبة بحقّها، واجتناب الكبائر، وأداء الأمانات إلى أهلها، ثم الاجتهاد في كل خير وترك كل ما هو شر. بعد أن ننظر إلى الذي عملناه فيما فات والذي نستطيعه فيما بقي لنا، وما ننوي أن نعمله، نجعل النيّة عزيمة ونستعين بالله في هذه الأيام الفضيلة التي صفّدت بها الشياطين ونبدأ فوراً بعمل ما عزمنا على عمله. التارك للعمل يهب من فوره ويعمله، والمبتلى بمعصية يقلع من فوره عنها ويطرح ما يتصل بها إلى غير رجعة. نفتح كتاب الله نقرأ منه آيات بتفكّر وتدبّر كأنّما هي تتنزّل الآن، وتستغرق نفوسنا وتخشع قلوبنا في سجود صلاة بين يدي الله نلوذ به ساجدين له والله لا يردّ من يلوذ به.

ولنصلح حياتنا، أو لنبدأ في إصلاحها، أو تحسينها، فالإصلاح ليس لمسة سحريّة بل طريق يمتد امتداد الحياة نفسها، وكلّ طريق هو مجموعة من الخطوات تزيد وتنقص، والخطوات الأولى هي التي تتطلّب عزيمة كبيرة، إذا خطوناها أمكننا أن نكمل باقي الخطوات.

من كان واقعاً في مشكلة، وما أكثر الواقعين وما أكثر المشكلات، بعد الوصول إلى رؤية واضحة للخروج منها، يبدأ من فوره بالخطوة الأولى. فالطريق الطويل يبدأ بخطوات، وكلّ خطوة نخطوها في الاتجاه الصحيح تقصّر الطريق وتقرّب الهدف مهما كان الطريق طويلاً ومهما كان السير بطيئاً، وأن نلقى الله ماشين أعذر لنا من أن نلقاه قاعدين مهما كان الباقي من الطريق كثير. لعلّ الله يفعل بنا عندئذٍ ما فعل مع التائب الذي أتاه الموت وهو في طريقه إلى القرية الصالحة دون أن يبلغها.

بعد الرؤية الواضحة، ستجد في حياتك الكثير مما تستطيع فعله، وفيه صلاح حياتك وسعادتك. وإصلاح الأسرة والبيت من أولويّات الدنيا والآخرة التي لا تتحقق سعادة الدنيا والآخرة إلا به.

لا يفوتك أن تنظر في عينيّ أبيك وأمك، وتمتّع نفسك بتقبيل يديهما قبل أن يغيبا، ولا تحرم نفسك من نعمة نيل رضاهما، رضى يستقرّ في أعماق قلبيهما الكبيرين الذيْن وَسِعاك صغيراً وكبيراً. وإذا كانا قد غابا فقف على قبرهما وادْع لهما، وكن ابناً صالحاً يدعو لهما عقب كل صلاة فلا ينقطع عملهما عند الله. "رب اغفر لي ولوالديّ، ربّ ارحمهما كما ربّياني صغيرا"

ولا تنس أن تقترب من زوجك، تحسّ بالسكينة والمودة والرحمة والحبّ، وتمسك بيديها وتنظر في عينيها، تسترجعان معاً رحلة العمر التي مضت، وتتحدّثان عما بقي منها، وتتطلعان إلى الأيّام القادمة التي تُظلّلكما فيها رحمة الله ورضوان الله. اغتنما اللحظات السعيدة وحافظا عليها.

تسلّل ذات مساء إلى غرفة الأولاد وانظر إليهم وهم نيام، تمعّن في وجوههم، استرجع مراحل نموّهم وكيف كانوا على يديك مواليد رضّع ثم تدرّجوا حتى بلغوا السن التي هم عليها. اقترب من أولادك الكبار إن لم تكن قد اقتربت ما يكفي فالوقت لم يفت، وخذ بأيديهم إلى طريق النجاح في الدنيا والفلاح في الآخرة. إن لم يسمعوا منك الآن كلّ ما تريدهم أن يسمعوه فسيسمعونه ذات يوم، ولو بعد أن تغيب، وستكون لكلماتك الملقاة نفع وطعم وذكرى، ولا تأس إن لم يسمعوها كلّها الآن ويكونوا كما تحبّ، فما لا يُدرك كلّه لا يُترك قلّه، وهذه سنة الحياة. وقرّب أولادك الصغار، وامنحهم من وقتك فهم يستحقّونه. اليوم يأتوك بأنفسهم ويتوقون إلى سماع حكاية منك، ويجلسون بين يديك لتحكي لهم أيّ شيء، غداً عليك أن تناديهم وتجلسهم لتحدّثهم بأمر، قد يسمعونه وقد يسمعون شيئاً منه، إن لم تُطل عليهم. "ربنا هب لنا من أزواجنا وذريّاتنا قرّة أعْين واجعلنا للمتقين إماما".

ومن لم يرزقه الله بالولد فلا يشكّ لحظة أن الله أكرم الأكرمين سيعوضه وسيجزل له، وربما يجد، بل حتماً سيجد، ما يحسده عليه الذين رزقوا بالبنين والبنات، وما عند الله خير وأبقى، فليفرح بهذا ويراه رأي العين.

أرى حولي أناساً يركضون دون وعي، بعضهم لا يدرون أيّ آخرة تنتظرهم، وآخرون لا يحيون حياتهم التي كانوا يتمنّونها، وهي في مقدورهم لا تحتاج منهم إلا أن ينظروا ويبادروا. وآخرون ناجحون في أعمالهم، وقد حصلوا على حياة فيها رفاهية ورغد من العيش، لكنهم يمضون عمرهم يركضون لاهثين، أشكّ أنهم يجدون برهة يسترخون فيها أو يستشعرون السعادة التي يسعون لها، أو يحسّون بأزواجهم وأولادهم من حولهم. ليتوقفوا ولينظروا ما الذي حصلوا عليه وليغتنموا ما تبقى. فالوقت لم يفت ما دام فينا عرق ينبض.

قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه: "اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك"

[رواه الحاكم في المستدرك، و البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس رضي الله عنهما وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير.]