رمضان المفترى عليه

د. كمال رشيد رحمه الله

 من حق الله علينا أن نحمده ونشكره أن مدّ في العمر سنة نعيش فيها شهر العبادة والطاعة ، ونزيد رصيدنا من الخيرات

 والحسنات . والشهور تختلف في كراماتها وفضلها وأثرها في الحياة كما الأشخاص.

ولقد اجتمع لهذا الشهر من الخصائص ما يجعله من خير الشهور ، وحسبه أنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن ، ونزول القرآن هو نزول الخير كله ، إذ بالقرآن بدأنا ، وبالقرآن تكونا ، وبالقرآن نقترب من الجنة ونبتعد عن النار ، القرآن نظام حياتنا ودستور امتنا ، وكتالوج كل واحد فينا ، كيف يعيش وكيف يسلك ، وكيف يكون عزيز الدنيا والآخرة ، هو المنهاج والدليل والمرجع والحكم.

وشهر رمضان فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر من شهور الناس العادية ، وهو موسم عبادة وصدقة وبر وإحسان ، وقد كان في تاريخنا شهر انتصارات في معارك فاصلة من مثل بدر وفتح مكة وعين جالوت. والذي نفهمه ونعرفه أن هذا الشهر هو شهر الروح حيث يمتنع الجسد عن بعض رغباته من طعام ومتاع وصخب وفوضى ولحين من الوقت ، ولساعات من النهار ، ومقابل ذلك تتعزز الروح بما تحاط بها من عبق العبادة وعطر الإخلاص في التوجه إلى الله ، ومن صفاء الروح وتجردها للخير والأجر والطاعة.

رمضان ارتفاع بالروحانيات وانخفاض بالماديات ، بدليل التزام المسلم اليومي بالامتناع عن الطعام والشراب ساعات الصيام ، وهذا لا يكون إلا في رمضان . فما بالنا نحن المسلمين ، وبخاصة العرب منهم ، نحول هذا الشهر الى شهر ماديات محضة ، ترصد له الأموال وتجمع له ألوان الطعام والشراب وربما للشهر كله ، ويتسابق الناس فيه بالتشهي والتلهي والتعامل كالأطفال ، وينحرف الاهتمام اليومي من الجد والعمل الى الهزل والتخفف من كل أمر جاد.

كان شهر جوع أو تجويع للنفس طاعة لله ، وتقديراً للنعمة التي يمكن أن تتأخر عنا ، وشعوراً بما يعاني الفقراء والمحتاجون ، لتضييق الشقة وزيادة الألفة بين حياة الغني والفقير . فما بالنا نوسع الشقة بينهما ، ما بالنا نتباهى بما نشتري ونأكل ونلبس ، ما بالنا نرهق أنفسنا بما نصرف في رمضان من أموال ، والمؤسف ، ومع الأيام يتكون انطباع لدى الأجيال أن هذا هو رمضان ، وأن هذه هي قيمه ونتائجه.

وشهر رمضان دورة تدريبية تخالف المألوف وتنصرف للجد وقضاء الوقت بالنافع من القول والعمل ، إذ يقترن الصيام بالطاعة بأنواعها ، يقترن بزيادة الصلاة وزيادة تلاوة القرآن وزيادة صلة الأرحام. فما بالنا نحوله إلى ليالي الصخب والسهر والغناء والعربدة لساعات متأخرة من الليل ، وكأن الطاعة التي تحققت في النهار تنسف وتمسح في الليل ، هل يمكن أن يكون هذا هو رمضان المطلوب من عند الله. هذا التحول في التعامل مع الزمان وفي الاهتمامات وفي سلوك الأمة ومزاجها في إنفاق المال هو تحول خطير لأنه يؤذي عصبين رئيسيين في الحياة هما الزمن والمال.

في رمضاناتنا الحديثة أخرنا الزمان ، فقل الإنتاج بدلاً من أن يزيد ، وكثرت الخطايا والذنوب بدلاً من أن تقل ، ونسب الكسل لرمضان فهو المسؤول . أما المال فإنه في رمضان مهدور في غير طاعة وفي غير منفعة ، ومن نظر إلى موائد المسلمين الفخمة لهاله ما يرى ، ومن قدر له أن يتصور ما يكب ويرمى في الحاويات من جيد الطعام وثمينه - ولا أقول رديئة - فإنه يذهل ، ذلك لأن بيوتاً في المسلمين لا تملك شيئاً وهي تتمنى لو تظفر بهذا الطعام الذي يكب في الحاويات .

ومن هنا فإننا ندعو إلى وجود لجان أو جمعيات تعنى بفائض الطعام على مر العام - وبخاصة في رمضان ، تجمعه وتوصله للعائلات الفقيرة المحرومة المستورة . ومثل هذا العمل ينسجم مع أجواء رمضان وروحانياته.

              

*آخر ما كتبه الدكتور كمال رشيد عن رمضان في شهر رمضان الذي أدركه عام 2007